Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 88-88)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أولا نسأل : ما هو الرزق ؟ الرزق هو ما انتفع به . فالذي تأكله رزق ، والذي تشربه رزق ، والذي تلبسه رزق ، والذي تتعلمه رزق ، والصفات الخلقية من حلم وشجاعة وغيرها هي رزق ، وكل شيء ينتفع به يُسمى رزقاً . ولكن حين يقول الحق : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً } فهو ينصرف إلى ما يطعمه الإنسان . وحين يقول سبحانه ذلك فالمقصود به أن يأكل الإنسان من الرزق الحلال الطيب . إذن فهناك رزق حرام ، مثال ذلك اللص الذي يسرق شيئا ينتفع به ، هذا رزق جاء به طريق حرام ، ولو صبر لجاءته اللقمة تسعى إلى فمه لأنها رزقه . أو الرزق هو ما أحله الله ، وهنا اختلف العلماء وتسائل البعض : هل الرزق هو الحلال فقط والباقي ليس رزقاً ؟ وتسائل البعض الآخر : هل الرزق هو ما ينتفع به ومنه ما يكون حلالاً ومنه ما يكون حراماً ؟ الحق يقول : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً } [ المائدة : 88 ] . كلوا ما رزقكم هذا أسلوب ، { مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } هذا أسلوب آخر . فما رزقكم الله أي نأكله كله ، وهذه لا تصلح لإننا لا نأكله كله طبعا بل إننا سنأكل بعضه لأن الذي يؤكل ويطعم إما أن يكون صالحاً لإيجاد مثله ، وإما أن يكون غير صالح لإيجاد مثله ، فعندما يحتفظ الإنسان بالدقيق مثلاً فهو لا ينتج سنبلة قمح ، إذن يجب علينا أن نأكل بعضاً ونستبقي بعضاً صالحاً لأن ينتج مثله ، فعندما نحتفظ بالقمح فهو يصلح أن يأتي بسنابل القمح لذلك جاء الأمر بأن نأكل بعض ما رزقنا الله حتى نحتفظ ببعض الرزق لا نأكله ، وهذا يعني أن نحتفظ بامتداد الرزق ، فلو أكل الإنسان كل القمح الذي عنده فكيف يحدث إن أراد أن يزرع ؟ إذن فاستبقاء الرزق يقتضي أن نحتفظ ببعض الرزق لنصنع به امتداداً رزقياً في الحياة . والرزق الحلال هنا نوعان : ما يصلح لامتداده فيحجب احتجاز بعض منه من أجل أن يستخدمه الإنسان في استجلاب رزق آخر . وما لا يصلح لامتداده كالدقيق مثلاً . نأكل بعضه ونحتفظ ببعضه لمن لا يقدر على الحركة . ولذلك نجد الحق في سورة يوسف يقول عن رؤيا الملك : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّيۤ أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] . هنا قال أهل تفسير الرؤيا : { قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ٱلأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } [ يوسف : 44 ] . إنه اضطراب في الجواب لأن كونها أضغاث أحلام أنها لا معنى لها ، وقولهم بعد ذلك : { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ٱلأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } [ يوسف : 44 ] فمعنى ذلك أن لها تأويلاً وقد كان لها تأويل ، ثم من الذي رأى الرؤيا ؟ إنه الملك . ويأتي الحق بيوسف مفسراً للرؤيا . إذن فلا ضرورة أن يكون الرائي مؤمناً ولا صالحاً . وقد يقول قائل : كيف يطلعه الله على مثل هذه المسائل ؟ ونقول : قد تكون الرؤيا إكراماً للرائي ، وقد تكون الرؤيا إكراماً للمعبر الذي يعرف التأويل ، وهي هنا إكرام للمعبر وهو سيدنا يوسف . وعرف سيدنا يوسف كيف يفك " شفرة " الرؤيا ، والعجيب في الرؤيا أن البقر الهزيل يأكل البقر السمين : وهنا قال يوسف : { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } [ يوسف : 47 ] . أي كلوا البعض وليكن قليلا قليلا ، لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد وهن سنين الجدب لتأكلوا فيها ما جمعتموه في سنين الخصب ، اتركوا البعض الآخر . لاستمرار النوع . وتبين أن أفضل وسيلة لحفظ حبوب القمح في عصرنا هي أن نتركه في سنابله وكذلك الذرة نتركها في غلافها . وكان تعبير الرؤيا دقيقاً لأنه يريد أن يستبقي للناس حياتهم في زمن الجدب ، ويستبقي لهم كذلك الضرع الحيواني ، فتأكل الناس الحب ، وتأكل الماشية التبن المتبقي ، وكذلك ضمن الحق مقومات الحياة لكل ما يلزم للحياة . ونلحظ أن المأكول في هذه الآية هو القليل ، أما الباقي فهو الكثير في سنابله ، هذا في أيام الرخاء فماذا عن أيام الجدب ؟ { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } [ يوسف : 48 ] . أي أن الناس ستأكل في أعوام الجدب الكثير من الحبوب التي في المخازن ويجب أن يحتفظوا بقليل مما يحصنون في هذه المخازن ، وذلك لاستبقاء جزء من القمح للزراعة . إذن فـ من في قول الحق سبحانه وتعالى : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً } للتبعيض أي كلوا بعض ما رزقكم الله ، فإن كانت الأشياء مما يكون بقاؤها سبباً لامتداد نوعها فالنوع يكون متصلاً . مثال ذلك رجل عنده بذور البطيخ وزرعها ، وبعد أن جاءت الثمار أكلها هي والبذور فمن أين يزرع في العام القادم ؟ كان يجب أن يحتفظ ببعض منها لتكون بذوراً . وكان يجب أن يحتفظ بجزء من البطيخ ليعطي منه الجار أو المحتاج . إذن فقول الحق سبحانه وتعالى : { مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } تصلح لاستبقاء النوع وتصلح لصرف الزائد إلى غير القادر . { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } أي أنك حين تتقى من تؤمن به إلهاً فليس في ذلك غضاضة لأنك آمنت أنه إله وقوي ، والغضاضة في أن تأتمر بأمر مُساوٍ لك ، أما الانقياد والائتمار لأمر الأعلى منك ، فهذا لا يكون سبباً في الغضاضة إنما هو تشريف لك وتكريم . ونجد الحق يشرع لنا ذلك في قصة سيدنا موسى على السحرة ، فألقى موسى عليه السلام عصاه ، ورآها السحرة حية ، والساحر ينظر إلى الشيء الذي تم سحره فيراه على حقيقته وصورته الأصلية ، أما المسحورون بالرؤية فهم الذين يرون الشكل المراد لهم رؤيته . ورأى السحرة حبالهم مجرد حبال وعصا موسى هي التي صارت حية . هنا عرفوا أنها مسألة أخرى فماذا قالوا ؟ : { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [ الشعراء : 47 - 48 ] . لقد عرفوا أن هذا أمر خارج عن نطاق البشرية . إذن فما كان من أمر السحرة تجاه قوم فرعون هو تخييل للنظر : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } [ طه : 66 ] . وقال الحق : { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ } [ الأعراف : 116 ] . أما موسى عليه السلام فحين ألقى العصا أول مرة ووجدها حية خاف لأنه رأى في ذلك قلباً للحقيقة . أما عند السحرة فليست حبالهم حيات حقيقية ولكنها سحر لأعين الناس أي تخييل للناظر . ومثال آخر هو سيدنا سليمان عندما أرسل لبلقيس ملكة سبأ . وجاء رسوله يقول لها : { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [ النمل : 31 ] . فماذا قالت لحاشيتها من رجال القتال ؟ : { مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } [ النمل : 32 ] . وهنا عرفت الحاشية أن المسألة تتطلب رأياً سياسياً فقالوا : { قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } [ النمل : 33 ] . الرأي إذن هو من حق السياسي الذي يزن الأمور بموازين العقل وموازين الاحتمال الواقعة ، وموازين رد الفعل ، وأدارت بلقيس المعركة سياسياً ، فأرسلت هدية من مقام ملكة ، فإن راقته الهدية فهو طالب دنيا ويريد خيرها ، وعندما وصل رسلها بالهدية ، ماذا قال سليمان ؟ { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ النمل : 36 - 37 ] . وهنا عرفت بلقيس أن الإسلام أمر ضروري ، وها هي ذي الدقة لنعرف أن الأمر من المساوى هو الذي يعطي عزة في الآمر وذلة في المأمور ، أما إذا كان الأمر من غير المساوى ومن الأعلى - سبحانه - فلا ذلة فيه لأحد . وكان إيمان بلقيس إيماناً ملوكياً . فقالت : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ] . إنها لم تقل أسلمت لسليمان وإنما قالت : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ } [ النمل : 44 ] . إذن فلا غضاضة في إيمانها . وذلك حتى لا يظن شعبها أنها ذهبت به إلى حضيض الذلة في أن يحكمهم إنسان آخر . لكن هي وسليمان محكومان لله رب العالمين ، ولا غضاضة في ذلك : ونعود إلى قوله جل شأنه : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 88 ] . أي : اجعلوا للإيمان حيثية ، وما دمت قد آمنت وتأتمر بأمر من تؤمن به . فأنت لا تؤمن إلا بمن تثق في أنه يستحق الإيمان . وقوله أولاً في الآية السابقة : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 88 ] . وقوله في تذييل هذه الآية : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 88 ] . هو تسوير وإحاطة لطاعة بإيمانين ، إيمان خوطبوا به ، وإيمان أقروه به ، ومن بعد ذلك يقول الحق : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ … } .