Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 92-92)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لقد نقل الله الحكم بعدما انتهى من هذه الجزئية إلى حكم عام هو طاعة الله وطاعة الرسول . وأنت ساعة تستقرئ أمر الله بالطاعة فأنت تجدها في صور متعددة . فمرة يقول : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } [ المائدة : 92 ] . فقد كرر الأمر بالطاعة لله وللرسول ، فالإطاعة لله في الحكم العام ، وإطاعة الرسول في تفصيله ، ومرة يقول سبحانه : { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } [ آل عمران : 32 ] . إنه هنا لا يكرر أمر الطاعة ، فهناك أمر للطاعة ، وهناك مطاع ، وهناك مطيع والمطيع ، هم المخاطبون ، فهو هنا يوحد أمر الطاعة ، والمطاع هنا هو الله ، والرسول يأتي معطوفا على لفظة الجلالة . ومرة يقول الحق سبحانه : { وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } [ النور : 56 ] . نحن إذن أمام حالات للطاعة : الأولى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، والثانية : أطيعوا الله والرسول ، والثالثة : أطيعوا الرسول ، ومرة واحدة فقط يعطف على ذلك " أولي الأمر " فيقول جل وعلا : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] . وحين قال الحق : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } [ المائدة : 92 ] . فهو يكرر الأمر بالطاعة عند الله وعند الرسول ، لكن عند أولي الأمر لم يأت سبحانه بأمر : " وأطيعوا " ذلك أن طاعة أولي الأمر تكون من باطن الطاعتين : طاعة الله ، وطاعة الرسول فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وإذا قال الحق : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } تكون طاعة الله في الحكم العام ، وطاعة الرسول في تفصيل الحكم . والمثال قوله الحق : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] . هنا نطيع الله في الحكم العام ، ونطيع الرسول في تفصيل الحج . لأن التفصيل لم يأت في القرآن ، والرسول صلى الله عليه وسلم قال : " خذوا عني مناسككم " وعندما يتوحد الأمران : " وأطيعوا الله والرسول " فهذا يعني أن هناك أمراً واحداً قد صدر من الله ، وصدور وحصول الفعل من الرسول يكون للقدوة والأسوة وتوكيدا للحكم . وإذا كان لله أمر بالإجمال وللرسول أمر بالتفصيل فسبحانه يقول : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } . وإذا كان الأمر للرسول فقط ولم يرد فيه شيء من الله فهو أمر صدر بتفويض من الله بناء على قوله الحق : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] . وهكذا نجد أنه لا تلتبس طاعة بطاعة ولا تتناقض طاعة مع طاعة . والحق هنا يقول : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ } . لماذا هذا التحذير ؟ يأتي هذا التحذير ليعلمنا الله أن الشيطان لن يدعنا ندخل في مجال طاعة الله وطاعة الرسول ، وسيحاول جاهداً أن يُلبِّس علينا الأمر . فعندما يعرف الشيطان ميلاً في نفس إنسان إلى لون من الشهوات ، يدخل إليه من باب المعاصي . وإن كان الإنسان قد أوصد بعض السبل أمام الشيطان فلا يستطيع مثلا إغراءه بالسرقة أو شرب الخمر ، لا يتركه بل يدخل إليه من باب الطاعة ، فيأتي الشيطان إلى الإنسان لحظة الوضوء وينسيه هل غسل هذه اليد أو تلك ، وهل أسبغ الوضوء أم لا ؟ أو يأتي الشيطان إلى المؤمن لحظة الصلاة فينسيه عدد الركعات أو عدد السجدات ، وهكذا يدخل الشيطان للمؤمن من ناحية الطاعة . ومعنى قوله سبحانه : { وَٱحْذَرُواْ } أي احذروا أن يحتال الشيطان عليكم لأنه سيحاول أن يدخل لكم من كل مدخل ، يدخل على المسرف على نفسه بالمعصية ، وأشد أعمال الشيطان على المؤمنين هي أن يدخل عليهم من باب الطاعة . ولذلك قال الحق : { وَٱحْذَرُواْ } وكثيراً ما نجد الإنسان منا ينسى موضوعاً ما ، وحين يأتي إلى الصلاة فهو يتذكر هذا الموضوع . والشيطان لا يترك الإنسان في مثل هذه الحالة ، فقد أقسم الشيطان فقال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] . وقال الحق سبحانه : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] . إنه أقسم أن يقف على الطريق المستقيم لا على الطريق المعوج . ومثال ذلك عندما يتصدق إنسان بصدقة قد يعلنها ويقول : لقد تصدقت أكثر من فلان . وهكذا يضيع منه الأجر . الشيطان يحاول - إذن - أن يدخل علينا من باب لا تفطن إليه وهو باب الطاعة . وأروي لكم هذه القصة حتى تعرفوا مدى تَدَخُّل الشيطان ، وقد حدثت مع الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه . فقد جاء إليه من يسأله الفتوى في أمر غريب قال السائل : ضاعت مني نقودي ، فقد دفنتها في مكان من الأرض ، ونزل السيل فطمس مكان النقود وأزال الحجر الذي وضعته علامة على مكانها . فقال الإمام أبو حنيفة : اذهب الليلة بعد صلاة العشاء وقف أمام ربك إلى أن يطلع الفجر ، وقل لي ماذا سوف يحدث . وعندما جاءت صلاة الفجر جاء الرجل متهللاً إلى أبي حنيفة وقال : وجدت مالي . فسأله أبو حنيفة : كيف ؟ قال الرجل : بينما أنا أقف للصلاة تصورت مكان وضع النقود ، ومتى نزل السيل ، وكيف سار ، وهكذا قست المسافة وقدرتها إلى أن عرفت موقع النقود . فضحك الإمام وقال : والله لقد علمت أن الشيطان لن يدعك تتم ليلتك مع ربك . هكذا ترى كيف يدخل الشيطان من باب الطاعة . ولذلك قال الحق : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } [ المائدة : 92 ] . أي فإن أعرضتم عمّا كلفتكم به فاعلموا أنكم بتوليكم وإعراضكم لن تضروا الرسول لأن الرسول ما كلف إلاّ أن يقوم بالبلاغ المبين ، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم به . إن الحق يعلم أزلاً أن بعضاً من عباده قد يقول : إن هذا الحكم لم يَرِد في القرآن لذلك جاء بالأمر بطاعة الرسول . وهكذا صارت للرسول طاعة مستقلة ، وأرادها الله حتى يَرُدّ مقدماً على الذين يسألون عن نص فيه كل تفصيل . بينما نجد هذه التفاصيل في السنة النبوية الشريفة . ومثال ذلك عدد ركعات كل صلاة ، إنها لم تَرِدْ في القرآن ، ولكننا عرفناها تفصيلاً من الرسول . وفَوَّض الحق رسوله في التشريع : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] . فسبحانه قد علم أزلاً أن هناك من سيدَّعي أنه لن يطيع إلا القرآن . ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول : بيني وبينكم كتاب الله عزوجل ، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه ، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله " أي أن الرسول هو المبلغ عن ربه ، وأن علينا أن نحذر الشيطان إذا أراد أن يدخل علينا من باب الطاعة . ولكن لماذا قال الحق : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } ؟ وعن أي شيء يكون التولي ؟ قال الحق ذلك ليوضح لنا أن الإنسان له الاختيار في أن يذهب إلى الطاعة ، وله الاختيار في أن يذهب إلى المعصية ، وإن تولى الإنسان عن الطاعة إلى المعصية ، وعن الإيمان الذي جاء به الرسول الذي بلغ عن الله إلى البقاء في الكفر ، فليعلم ذلك الإنسان أن الرسول قد أوفى مهمته وأداها . فالمطلوب من الرسول أن يبلغ المنهج ، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم بلاغاً مبيناً ، محيطاً ، واضحاً ومستوعباً لكل أقضية الحياة . لقد أبلغنا صلى الله عليه وسلم مطلوب الله منا أن نؤمن بإله واحد ، قادر ، حكيم ، له كل صفات الكمال ، ذلك هو الأمر الأول في العقيدة . وأبلغنا صلى الله عليه وسلم أن نبتعد عما كان عليه العرب من الأنصاب ، ومن الأوثان ، ومن الأصنام . وبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منا إيماناً ، وعملاً ، والعمل ينقسم إلى قسمين : عمل إيجابي ، وعمل سلبي . ويتركز العمل الإيجابي في " افعل كذا " ، إذا لم تكن تفعله ، أما العمل السلبي فهو أن تكف عما نهاك عنه الله ، ونهاك عنه الرسول صلى الله عليه وسلم . إذن أول مطلوب الإيمان هو الاعتقاد في الإله الواحد ، وأن نكف عن عبادة الأوثان والأصنام ، والطلب - كما نعرف - هو أن تنشىء كلاماً تطلب به من مخاطبك أن يفعل شيئاً لم يكن مفعولاً وقت طلبه . فإذا أوضح الحق : لا تعبد الأوثان ، فهذا طلب الفعل ، وهو أن نكف عن عبادة الأوثان . وحين يأمرنا الحق بالصلاة والصوم والزكاة وحج البيت ، فهذا طلب لأفعال . وطلب الفعل يقال له : " أمر " . وطلب الكف عن فعل يقال له : " نَهْي " . وأنت إذا نظرت إلى كل التكاليف في الإسلام ، تجدها لم تأت مرة واحدة ، وإنما جاءت على مدار ثلاثة وعشرين عاماً . فعندما جاء الإسلام آمن به أناس ، ولم يكن قد صدر إليهم تنفيذ أي من الأحكام التي وردت على مدار سنوات الرسالة ، وإنما كان المطلوب منهم بعضاً يسيراً منها ، وكانوا يؤدونها ، منهم من بلغه فقط ضرورة الإيمان بالإله الواحد ، وآمن بذلك ثم وافاه الأجل وكانت له الجنة . ومنهم من امتدت حياته ، فزادت عليه أحكام جديدة فنفذها ، وكان إسلامه بذلك إسلاماً تاماً . إذن ، فالتمام في الإسلام هو تنفيذ كل عمل جاء في الأحكام التي أدركها المسلم . فإن لم يكن المسلم قد أدرك إلا حكماً واحداً ونفذه فله كل ما وعد الحق به . ومثال ذلك : " مخيريق اليهودي " الذي أسلم وأوصى بماله للنبي صلى الله عليه وسلم . فلما كان يوم أُحُد ، وقف في قومه قائلاً : يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لَحَقُّ . فلم يجيبوه ، فأخذ سيفه وعدته وقال : إن أُصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء . ثم خرج إلى القتال فقاتل حتى استشهد . ولم يكن قد نفذ أي حكم من أحكام الإسلام ، لكنه قاتل فنال شرف الشهادة ، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مُخَيْريق خير يهود " ولا بد لنا أن نفرق دائماً بين " أركان الإسلام " والمطلوب من المسلم . ونعلم جميعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " بني الإسلام على خمسٍ : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان " هذه هي أركان الإسلام . أما المسلم فقد يختلف المطلوب منه ، فالمطلوب من المسلم أن يشهد مرة واحدة في حياته أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . ومطلوب منه دائماً أن يقيم الصلاة مهما تكن حالته . لكن فرض الزكاة قد يسقط عنه إن كان لا يملك مالاً . وقد يسقط عنه الصوم إن كان مريضاً مرضا لا يرجى شفاؤه أو كان كبير السن لا يقدر على الصوم وعليه فدية طعام مسكين ، أما المريض الذي يرجى شفاؤه وكذلك المسافر فيقضيان الصوم بعد زوال العذر ومثلهما الحائض والنفساء . وقد يسقط عنه الحج لأنه لا يملك المال الكافي . هكذا تختلف أركان الإسلام من مسلم لآخر ، وهكذا نعرف أن من عاش في بدايات الإسلام ونفذ القليل من الأحكام التي نزلت حتى مات أو استشهد ، فقد أدى مطلوب الإسلام منه . وعندما نزلت مسألة النهي عن الخمر ، والميسر ، ذهب أناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن مصير زملائهم وإخوتهم في الإيمان الذين ماتوا أو استشهدوا قبل أن ينزل تحريم الخمر والميسر . ومجرد السؤال هو دليل على اليقظة الإيمانية ، فالإنسان لا يكون مؤمناً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . وهنا أنزل الحق سبحانه وتعالى القول الكريم : { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ … } .