Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 1-1)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سبق أنْ تحدثنا عن الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن ، وهنا نكتفي بالإشارة إلى أن هذه الحروف المقطعة مثل ق تمثل جانبَ الغيب في القرآن ، والغيب هو محكّ الإيمان كما بيَّنا . فالفلاح الأمي مثلاً يستخدم التليفزيون ويتنقل بين قنواته دون أنْ يعرف كيف يعمل وكيف ينتقل من قناة إلى أخرى ، فهو يستفيد به دون معرفة بكيفية عمله ، كذلك يستخدم رافعة المياة الطلمبة ، وهو لا يعرف ميكانيكية عملها . كذلك نحن مع الحروف المقطعة هذه نؤمن بها وندع معانيها لقائلها سبحانه . والدين ينقسم إلى عناصر ثلاثة : عقائد تعمر القلوب ، وعبادات وتكاليف هي عمل الجوارح ، ثم الكلام الذي ينقل هذه الأمور كلها وهو مهمة اللسان أي التعبير . وكل من العقائد والتكاليف والتعبير فيه غيب ومشهد ، فالله غيب ، لكن آثار قدرته في الكون مشهد ، والصلاة من حيث ترددك على المسجد خمس مرات وما فيها من ركوع وسجود وحركات مشهد ، لكن عدد ركعاتها غيب . فكأن الحق سبحانه يعطينا الغيب في هذه الأشياء ليختبر فينا حقيقة الإيمان ، فما علمته دليل على صدق ما لم تعلمه . كذلك الحال في حروف القرآن الكريم وآياته ، فآيات القرآن على وجه العموم نفهمها ونعرف معانيها ، لكن الحروف المقطعة هي الغيب الذي يجب علينا أنْ نؤمن به حتى ولو لم نعرف معناه ، وتبقى هذه الحروف دليلَ إعجاز القرآن . فقوله تعالى : { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 ] جمعتْ بين الاثنين ، الغيب في ق والمشهد في { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 ] وهما المكوِّنان للقرآن الكريم ق دليل الإعجاز { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 ] إذن : أتى بالدليل والمستدل عليه . وق تحمل معنى القسَم ، وهي حرف واحد كما أقسم الله بالشيء الواحد ، فقال : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 1 - 2 ] وقال : { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } [ النجم : 1 - 2 ] . كما يقسم بالحرفين مثل يس ، طه ، حم ، وكذلك يقسم بشيئين من مخلوقاته مثل : { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [ الضحى : 1 - 2 ] ويقسم بثلاثة أحرف مثل الم ، وبثلاثة أشياء مثل : { وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا * فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ذِكْراً } [ الصافات : 1 - 3 ] . ويقسم بأربعة في { الۤمۤصۤ } [ الأعراف : 1 ] وفي { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } [ التين : 1 - 3 ] كما يقسم بخمسة أحرف في { كۤهيعۤصۤ } [ مريم : 1 ] وفي قوله سبحانه { وَٱلطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ * وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ * وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } [ الطور : 1 - 6 ] . إذن : جاء هذا القسم على خمسة أضرب من الواحد إلى خمسة ، ولم يزد على ذلك حتى لا يكون القسمُ ثقيلاً على اللسان ، ولأن أقصى ما يمكن في الكلمة المجردة خمسة أحرف ، لكن في القسَم بآياته الكونية زاد على ذلك . اقرأ : { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا * وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [ الشمس : 1 - 7 ] . ولو فعل مثل ذلك في القسم بالحروف لخرج عن بنية الكلمة في اللغة . ونلاحظ أيضاً أن القسم بالحروف المقطعة لم يأتِ إلا في أوائل السور ، أما القسم بالآيات الكونية فيأتي في أولها كما رأينا ، وياتي في خلالها كما في قوله تعالى : { كَلاَّ وَٱلْقَمَرِ * وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } [ المدثر : 32 - 34 ] . ثم إن القسم بالحروف المقطعة لا يأتي بالواو ، إنما تأتي واو القسم مع الآيات الأخرى التي تفهم معناها ، وهنا يقول : { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 ] ولم يقل وق لأن الواو حرف ، وق حرف ، فيحدث بينهما لَبْسٌ ، هذه من إعجازات القرآن التي ينبغي أنْ نقف عندها وقفة تأمل . والتصديق بهذه الغيبيات هو الذي يثبت صدق الإيمان ، وإلا فما الميزة في أنْ تكون كلُّ آيات القرآن مفهومة معلومة المعنى والمراد ؟ ما الميزة في أن تكونَ كل أمور الدين معلومة لنا خاضعة للقياس العقلي وعليها دليل ؟ وسبق أنْ أوضحنا أن المشهد والإيمان بالمشهد أمر عادي الكل يؤمن به ، المهم أنْ تؤمنَ بما غاب عنك ثقةً منك فيمَنْ أبلغك به . هَبْ أنك ذهبتَ إلى الطبيب وبعد أنْ فحص حالتك كتب لك الدواء ، بالله هل تناقشه لِم كتبتَ كذا ؟ ولم كتبتَ كذا ؟ إنك لا تناقشه لأنك ذهبتَ إليه مختاراً ، ذهبتَ إليه وأنت تثق به ومستعد لأن تنفذ تعلمياته وتتناول الدواء الذي وصفه لك وأنت لا تعرف شيئاً عنه . فإذا كنتَ تثق بالطبيب وهو إنسان مثلي ومثلك وعُرْضةٌ للخطأ ، فما بالك بالله ؟ ألاَ تثق في كلامه ؟ ولأهمية الإيمان بالغيب مدح الله المؤمنين به ، فقال : { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ … } [ البقرة : 3 ] فكما نؤمن بالآيات واضحة المعنى نؤمن بالحروف غير واضحة المعنى ، فهذا قرآن مشهد ، وهذا قرآن غيب ، وكما نؤمن بالآيات الكونية المشاهدة نؤمن بالله خالقها ومبدعها ، وهو سبحانه غيب . وقوله تعالى : { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 ] القرآن اسم لما نزل من عند الله على قلب سيدنا رسول الله ، ودلّ على صدقه في البلاغ عنه . وسُمِّي قرآناً ليدل على أنه مقروء ، وسُمِّي الكتاب ليدل على أنه مكتوب ، فهو مُسجَّل في السطور محفوظ في الصدور . وللقرآن مزية خاصة به لم تُعْطَ لكتاب قبله ، هي أن القرآن يحمل المنهج ويحمل المعجزة معاً ، أما الرسالات السابقة عليه فكان المنهج في الكتاب ، والمعجزة منفصلة عنه . فسيدنا عيسى مثلاً كان كتابه الإنجيل ، ومعجزته أنْ يبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله ، وسيدنا موسى كان كتابه ومنهجه في التوراة ، أما معجزته فكانت في العصا ، أما سيدنا رسول الله فكانت معجزته هي عين منهجه ، لماذا ؟ لأن رسالته دائمة باقية في الزمان كله إلى قيام الساعة وباقية في المكان كله ، فلها عمومية الزمان وعمومية المكان ، ونحن الآن نقول : هذا محمد رسول الله وهذه معجزته ، في حين لا نستطيع أنْ نقول ذلك مع سيدنا موسى مثلاً أو سيدنا عيسى ، لأن معجزاتهما انتهت بانتهاء زمانيهما . ومعنى { ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 ] أي : العظيم صاحب الشرف والمجد والعلو ، ومجيد على وزن فعيل ، وهي من أوزان المبالغة مثل رحيم ، وفعيل وتأتي مرة بمعنى فاعل مثل رحيم أي : راحم ، وتأتي بمعنى مفعول مثل قتيل أي : مقتول . فمعنى { ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 ] أي : ماجد في ذاته وممجَّد في ذاته فهي تحمل المعنيين ، فهو ماجد وممجد ، لأنه أعلى وأرفع كلام وأغلى الكتب وأشرفها ، فهو في ذاته مجيد . ثم لأنه جاء من مجيد أعلى هو الحق سبحانه ، وبلَّغه مَلَك مجيد إلى رسول مجيد ، ويبقى بعد ذلك أنه أُنزل على أمة مجيدة . لكن إذا كانت : { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 ] قسم فأين جوابه ؟ قالوا : قسم على أن البعث حَقّ ، أي : ق والقرآن المجيد لتبعثن ، والأقرب من ذلك أنْ نأخذ الجواب من الكلام بعد القسم ، وهو قوله تعالى : { بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ … } .