Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 32-33)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { هَـٰذَا … } [ ق : 32 ] إشارة إلى ما تقدَّم من تقريب الجنة للمتقين { مَا تُوعَدُونَ … } [ ق : 32 ] أي : وعد الله به { لِكُلِّ أَوَّابٍ } [ ق : 32 ] أوَّاب صيغة مبالغة نقول : آيب وأوَّاب يعني كثير الأوْب والرجوع إلى الله إنْ حصلت منه معصية ، فسرعان ما يندم عليها ويتوب . والحق سبحانه وتعالى شرح لنا هذا المعنى في قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ … } [ النساء : 17 ] يعني : لا يسعوْنَ إليها ولا يرتبون لها . { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ … } [ النساء : 17 - 18 ] . والأوَّاب كثير الرجوع إلى الله بالتوبة ، لا يعني أنه كثير الخطايا ، إنما إنْ حدثت منه غفلة عن الطاعة سارع بالتوبة ، لأن الذي يرجع في توبته من الذنب ثم يعود إليه وتتكرر منه هذه ، فقد شبَّهه رسول الله بالمستهزئ بربه ، وهذه صفة لا تليق بالأوَّاب . ومعنى : { حَفِيظٍ } [ ق : 32 ] هي أيضاً صيغة مبالغة من حافظ ، والحفيظ هو كثير الحفظ لحدود الله وحُرمات الله ، يحفظ نفسه من الوقوع في المعصية ، بل يحفظ نفسه من الاقتراب منها . وهذا هو معنى الحديث الشريف : " احفظ الله يحفظك " وحِفْظ الله يكون بحفظ حدوده والوقوف عند أوامره ونواهيه . ومن صفات المتقين الذين وعدهم الله هذا الوعد { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [ ق : 33 ] الخشية معناها الخوف وهو على نوعين : تخاف وأنت تكره مَنْ تخافه وتلعنه لأنه أقوى منك ، أو لأنه يذلُّك ويقهرك ، فأنت تخافه وتحتقره ، وهذا خوف العباد من العباد . وهناك خوف بحب وهيبة وإجلال على حَدِّ قول الشاعر : @ أخافك إجلالاً وما بك قدرة عليَّ ولكن مِلْءُ عين حبيبها @@ فأنت تحب مَن تخافه ، وتعلم أن له جميلاً عندك ، وأنك لا تستطيع أنْ تُوفيه حقه ، وهذا هو الخوف من الله . ويساعدنا على فهْم هذا المعنى قول الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ … } [ فاطر : 27 - 28 ] . الحق سبحانه هنا لم يأت بحكم شرعي يلزمنا به أو يُخوِّفنا من التهاون فيه ، إنما تحدث عن آيات كوْنِه ، أرادنا أنْ نبحث فيها ونتأملها ، وأنْ نُنقب عن أسرارها وما فيها من جمال . فكلما نظرنا في آيات الكون من حولنا ازددنا لله خشية ، ومهابة وإجلالاً لعظمته ونعمته علينا ، والعلماء هم أوْلَى الناس بهذا النظر ، وأقرب الناس إلى خشية الله وتقديره حَقَّ قَدْره . وتأمَّل هنا الاداء القرآني : { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ … } [ ق : 33 ] فاختار صفة الرحمة ، ولم يقل مَنْ خشي القهار أو الجبار ، لأن الخشية هنا مغلَّفة بالحب وبالرحمة والتعظيم والإجلال لله الذي نخافه ونخشاه . ثم قيد هذه الخشية بأنها { بِٱلْغَيْبِ … } [ ق : 33 ] يعني : ليست معلنة أمام الناس ، فالمؤمن الحق يخشى الله في سِرِّه قبل جهره ، وفي خلْوته قبل جلوته ، يخافه بينه وبين نفسه . أما ضعيف الإيمان فيخاف الله أمام الناس ، وإذا كان في جمع منهم تحدَّث عن الحلال والحرام ، لكن إذا خلا بنفسه انتهك حرمات الله . إذن : فخشيته من الله فيها رياء ويخالطها شرك ، لذلك وصف المتقين ، ووصف أهل الجنة بأنهم يخشوع الله بالغيب . ومن معاني الغيب أيضاً أن المؤمن لمّا تُخوِّفه عذاب الله وتذكر له النار وهو ما يزال في سَعَة الدنيا يخاف منها ، ويؤمن بوجودها وهو لم يرها ، فهذه خشية بالغيب ، لأن النار بالنسبة لنا الآن غيب وما صدَّقنا بوجودها إلا لأن الله أخبرنا بها . والمؤمن يأخذ الخبر عن الله كأنه واقع يراه بعينه ، ويلمسه بحواسه ، فالخبر من الله أصدق من رؤية العين ، وهذه المسألة أوضحناها في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [ الفيل : 1 ] . فالخطاب هنا لسيدنا رسول الله ، وهو لم يَرَ حادثة الفيل ، فقد وُلد في هذا العام ، فلماذا لم يخاطبه بقوله : ألم تعلم وعدل عنها إلى : ألم تر ؟ قالوا : لأن الخبر من الله أصدق من رؤية العين ، نعم لأن الرؤية قد تخدعك ، أما إخبار الله فصِدْق مطلق . { وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } [ ق : 33 ] أي : قلب أخلص لله وصدق في الطاعة ، والقلب هو موضع الإيمان ، والله تعالى - كما ذكرنا - يريد منا القلب لا القالب ، فالقالب يمكن أنْ تقهره على أنْ يؤمن ، أما القلب فلا يأتي إلا بالحب والطواعية . لذلك جعل الحق سبحانه الإيمان أمراً اختيارياً لا إجبار فيه ، وإلا لو شاء سبحانه لأجبر الخلق جميعاً على أنْ يؤمنوا به سبحانه ، كما أجبر السماوات والأرض ، لكن أراد لعباده أن يأتوه طواعية واقتناعاً .