Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 53, Ayat: 29-30)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بعد أنْ بيَّن الحق سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم موقف خصومه ، وكيف أنهم لا يريدون الحق ، بل يريدون الهوى والظن والشهوات ، يقول له : يا محمد أرح نفسك من هؤلاء ، فلا فائدة منهم . وقد كان سيدنا رسول الله حريصاً كلّ الحرص على هداية قومه ، وكان يُحمِّل نفسه في سبيل دعوتهم إلى الحق فوق ما تحتمل ، لذلك خاطبه سبحانه بقوله : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] وقال له : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ … } [ الشورى : 48 ] . وقد بيّنا أن الله تعالى لا يريد منهم قوالب تأتي راغمة ، إنما يريد قلوباً تأتي إليه طواعية واختياراً . لذلك يقول سبحانه لنبيه : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا … } [ النجم : 29 ] فأعرض : أمر من الفعل عَرَض عارض ، وأعرض مُعرض . والهمزة هنا تُسمّى همزة الإزالة . أي : إزالة العرض ، تعرفون المعرض الدولي الذي نعرض فيه المنتجات ، فصاحب المنتج عارض يعرضه على الناس ، ويُبيِّن لهم مزاياه فهو عارض . وهكذا كان سيدنا رسول الله يعرض الهدى ومنهج الحق على قومه ، ويُبيِّن لهم أهدافه ومزاياه ، فلم يكْن منهم إلا الصبر والأذى والإعراض عنه والانصراف . وظل كذلك ألى أنْ أمره ربه بالإعراض عنهم ، فقال له : { فَأَعْرِضْ … } [ النجم : 29 ] من أعرض ، وهو عكس عرض ، وهمزة الإزالة تُحوِّل الفعل إلى ضده ، فكما انصرفوا عنك فانصرف عنهم ، أعرضوا عنك فأعرض عنهم . وهمزة الإزالة في أعرض مثل أعجم . نقول : أعجم الكتاب . أي : أزال عُجْمته ومنه معجم ، وهو الكتاب الذي يُزيل غموض الألفاظ ، كذلك أعرض أي : أزال العرض . { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا … } [ النجم : 29 ] إذن : هم البادئون بالإعراض عن ذكر الله ، أي : عن القرآن وعن المنهج لأنه يُقيِّد حريتهم في الشهوات ، المنهج تكليف ، وهم لا يريدون تكليفاً ، يريدون الانطلاق خلف شهواتهم وملذاتهم دون رقيب . ولو تأمل هؤلاء المعرضون منهم الله لعرفوا أنه في صالحهم ، لأنه مثلاً حين ينهاك عن السرقة وأنت فرد ينهى الناس جميعاً أنْ يسرقوا منك ، كفَّ يدك وكفّ أيدي الملايين عنك . إذن : قبل أنْ تنظر إلى مشقة التكاليف انظر إلى عطائها . تذكرون الصحابي الشاب الذي أتى سيدنا رسول الله وقال له : يا رسول الله إئذن لي بالزنا ، تصوروا ماذا كان ردّ فعل رسول الله على هذا المطب الغريب ؟ لم ينهره بل أدناه منه وتبسَّم في وجهه وقال له : يا أخا العرب أتحبه لأختك ؟ فيقول : لا يا رسول الله جُعلْتُ فداك ، فيقول : أتحبه لأمك ؟ أتحبه لابنتك ؟ . يقول الراوي : حتى ذكر العمة والخالة ، والرجل يقول : لا يا رسول الله جُعلْتُ فداك ، ثم يقول له سيدنا رسول الله : كذلك الناس يا أخا العرب لا يحبونه لأخواتهم ولا لأمهاتهم ولا لبناتهم . فيقول الشاب : فانصرفت من عند رسول الله ، وليس شيء أبغض إليَّ من الزنا ، وما هممتُ بشيء إلا تذكرت أختي وأمي وابنتي . لذلك الحق سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة يقول عن المتقين : { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 5 ] فالتكاليف الدينية والمنهج ليس عبئاً عليك ، إنما هو دابة تحملك وتُوصِّلك إلى غايتك ، فهم على الهواء وعلى تفيد الاستعلاء ، فالمنهج هو الذي يحملك ، وهو الذي يساعدك ويُسعدك . وقوله تعالى : { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } [ النجم : 29 ] أي : هي غايتهم ، فلا يعملون إلا لها وقد أقروا بذلك فقالوا : { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ … } [ الجاثية : 24 ] فالآخرة ليست في حساباتهم . لذلك الحق سبحانه وتعالى يُسفه هذا الرأي ويقول : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ … } [ النجم : 30 ] أقصى ما وصلوا إليه من العلم الذاتي فقد وقف بهم عند هذا الحد . والعجيب أنهم أغلقوا آذانهم وصَمُّوا أسماعهم عن الهدى ، فلم يأخذوا بعلم الله الذي أنزله عليهم { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ } [ النجم : 30 ] . نقف أولاً عند أسلوب القصر { هُوَ أَعْلَمُ … } [ النجم : 30 ] حيث قصر العلم على الله وحده ، لأن الهداية والضلال أمر في غالبه غيبي لا يطلع عليه إلا عالم السر وأخفى ، ثم إن الجميع يدَّعي أنه على الهدى ، وأن غيره على الضلال ، لذلك اختصَّ الله بهذا العلم نفسه سبحانه . وقد جاءت هذه الآية { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ } [ النجم : 30 ] بعد قوله تعالى لنبيه : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا … } [ النجم : 29 ] فهنا تناسب بين الآيتين ، لأن الله تعالى سبق علمه بخَلْقه مَنْ يضل ومَنْ يهتدي ، مَنْ سيُقبل على الدعوة ، ومَنْ سيعرض عنها . لذلك قال لنبيه أرح نفسك { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ … } [ الشورى : 48 ] والحق سبحانه وتعالى أخبر رسوله بمَنْ سيهتدي وبمَنْ سيظل على ضلاله ، فأبو لهب وأبو سفيان وعمرو وخالد بن الوليد كانوا جميعاً في خندق واحد ضد الإسلام ، فشاء الله أنْ يؤمن أبو سفيان وخالد وعمرو . أما أبو لهب فقد ظلَّ على كفره ، حتى بعد أنْ نزلت فيه { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } [ المسد : 1 - 3 ] .