Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 155-155)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَهَـٰذَا } إشارة وعادة ما تأتي وترد على متقدم ، ولكن إذا لم يكن لاسم الإشارة متقدم أو حاضر يشار إليه فهذا دليل على أنك إن أشرت لا ينصرف إلا إليه لأنه متعين ينصرف إليه الذهن بدون تفكير لوضوحه . وكلمة { كِتَابٌ } تدل على أنه بلغ من نفاسته أنه يجب أن يُكتَب ويسجَّل لأن الإنسان لا يُسجل ولا يكتب إلا الشيء النافع ، إنما اللغو لا يسأل عنه ، وقال ربنا عن القرآن : إنه " كتاب " ، ومرة قال فيه : " قرآن " فهو " قرآن " يتلى من الصدور ، و " كتاب " يحفظ في السطور . ولذلك حينما جاءوا ليجمعوه أتوا بالمسطور ليطابقوه على ما في الصدور . { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 155 ] . و " أنزلناه " أي أمَرْنا بإنزاله ، ونزل به الروح الأمين ، وكلمة " مبارك " مأخوذة من " البركة " أي أنه يعطي من الخير والثمرة فوق ما يُظَنُّ فيه ، وقد تقول : فلان راتبه مائتا جنيه ، ويربي أولاده جيداً ويشعر بالرضا ، وتجد من يقول لك : هذه هي البركة . كأن الراتب لا يؤدي هذه المسئوليات أبداً . وكلمة " البركة " تدل على أن يد الله ممدودة في الأسباب ، ونعلم أن الناس ينظرون دائماً إلى رزق الإيجاب ، ولا ينظرون إلى الرزق الأوسع من الإيجاب وهو رزق السلب ، فرزق الإيجاب يأتي لك بمائتي جنيه ، ورزق السلب يسلب عنك مصارف لا تعرف قدرها . فنجد من يبلغ مرتبه ألفاً من الجنيهات ، لكن بعض والده يمرض ، ويحتاج ولد آخر إلى دروس خصوصية فتتبدد الألف جنيه ويحتاج إلى ما فوقها . إذن فحين يسلب الحق المصارف وإنفاق المال في المعصية أو المرض فهذه هي بركة الرزق ، ونجد الرجل الذي يأتي ماله من حلال ويعرق فيه يوفقه الله إلى شراء كل شيء يحتاج إليه ، ويخلع الله على المال القليل صفة القبول ، ونجد آخر يأتي ماله حرام فيخلع الله على ماله صفة الغضب فينفقه في المصائب والبلايا ويحتاج إلى ما هو أكثر منه . وأنت حين تقارن القرآن بالتوراة في الحجم تجده أصغر منها ولكن لو رأيت البركة التي فيه فستجدها بركة لا تنتهي فكل يوم يعطي القرآن عطاءه الجديد ولا تنقضي عجائبه ، ويقرأه واحد فيفهم منه معنى ، ويقرأه آخر فيفهم منه معنى جديداً . وهذا دليل على أن قائله حكيم ، وضع في الشيء القليل الفائدة الكثيرة ، وهذا هو معنى { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } فكل كتاب له زمن محدود وعصر محدود وأمة محدودة ، أما القرآن فهو يواجه من يوم أن أنزله الله إلى أن تقوم الساعة قضايا متجددة يضع لها حلولاً . والمهم أن القرآن قد جاء على ميعاد مع طموح البشريات ، وحضارتها وارتقاءاتها في العقول لذلك كان لابد أن يواجه كل هذه المسائل مواجهة تجعل له السبق دائماً ولا يكون ذلك إلا إذا كانت فيه البركة . وكلنا يعلم أن القرآن قد نزل على رجل أمّي ، وفي أمة أميّة ، ولذلك حكمة بالغة لأن معنى " أمّي " أي أنه لم يأخذ علماً من البشر ، بل هو كما والدته أمه ، وجاءت ثقافته وعلمه من السماء . إذن فالأمية فيه شرف وارتقاء بمصادر العلم له . ونزل القرآن في أمة أمية لأن هذا الدين وتلك التشريعات ، إنما نزلت في هذ الأمة المتبديّة المتنقلة من مكان إلى آخر وليس لها قانون بل يتحكم فيها رب القبيلة فقط ، وحين تنزل إليها هذه القيم الروحية والأحكام التشريعية ففي ذلك الدليل على أن الكتاب الذي يحمل هذه القيم والأحكام قادم من السماء . فلو نزل القرآن على أمة متحضرة لقيل نقلة حضارية ، لكنه نزل على أمة لا تملك قوانين مثل التي كانت تُحكم بها الفرس أو الروم . وما دام الكتاب له هذه الأوصاف التي تريح الخلق من عناء التشريع لأنفسهم ويضم كل الخير ، لذلك يأتي الأمر من الله : { فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأنعام : 155 ] . وساعة تأتي بـ " لعل " فاعلم أن فيها رجاء ، وقد ترجو أنت من واحد وتقول : لعل فلاناً يعطيك كذا ، الرجاء هنا من واحد ، ومَن يفعل العمل المرجو إنسان آخر ، وقد يفعل الآخر هذا العمل ، وقد يغضب فلا يفعله لأن الإنسان ابن أغيار ، بل ومن يدري أنه ساعة يريد أن يفعل فلا يقدر . وإذا قلت : " لعلي أفعل لك كذا " ، وهنا تكون أنت الراجي والمرجوّ في آن واحد ، ولكنك أيضاً ابن للأغيار ، فأنت تتوقع قدرتك على الفعل وعند إرادتك الفعل قد لا تتيسر لك مثل هذه القدرة . ولماذا أنزل الحق هذا الكتاب ؟ . يأتي الحق هنا بالتمييز للأمة التي أراد لها أن ينزل فيها القرآن فيقول : { أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ … } .