Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 25-25)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إن من هؤلاء من يستمع إلى القرآن لا بهدف التفهم والهداية ، ولكن بهدف تلمس أي سبيل للطعن في القرآن ، فكأن قلوبهم مغلقة عن القدرة على الفهم وحسن الاستنباط وصولاً إلى الهداية ، وهم يجادلون بهدف تأكيد كفرهم لا بنية صافية لاستبانة آفاق آيات الحق والوصول إلى الطريق القويم . ونعلم أن السورة كلها جاءت لتواجه قضية الأصنام والوثنية والشرك بالله ، ونعلم أن المعجزة التي جاءت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي القرآن ، وهو معجزة كلامية ، تختلف عن المعجزات المرئية التي شاهدها المعاصرون لموسى عليه السلام : كشق البحر بالعصا أو رؤية العصا وهي تصير حية تلقف كل ما ألقاه السحرة ، أو معجزة عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص ، فهذه كلها معجزات مرئية ومحددة بوقت ، أما معجزة رسول الله فهي معجزة مسموعة ودائمة . إن السمع هو أول أدوات الإدراك للنفس البشرية . إنه أول آلة إدراك تنبه الإنسان ، إنه آلة الإدراك الوحيدة التي تُستصحب وقت النوم وتؤدي مهمتها لأن تصميمها يضم إمكانات مواصلة مهمتها وقت النوم . ونعلم أن الحق حينما أراد أن يقيم أهل الكهف مدة ثلاثمائة وتسع سنين ضرب على آذانهم حتى يكون نومهم سباتاً عميقاً ، فهم في كهف في جبل ، والجبل في صحارى تهب عليها الرياح والزوابع والأعاصير ، فلو أن آذانهم على طبيعتها لما استراحوا في النوم الذي أراده الله لهم ، ولذلك ضرب الله على آذانهم وقال سبحانه : { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] . ومعجزة رسول الله - إذن - جاءت سمعية وأيضاً يمكن قراءتها . وحين يتلقى الإنسان بلاغاً فهو يتلقاه بسمعه ، ويستطيع من بعد ذلك أن يقرأ هذا البلاغ ويتفقه فيه ، ولا أحد يعرف القراءة إلا إذا سمع أصوات الحروف أولاً ثم رآها من بعد ذلك ، لقد تميزت معجزته صلى الله عليه وسلم بسيد الأدلة في وسائل الإدراك الإنساني ، وهو السمع ، والحق يقول : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } . إن هناك فارقا بين " يسمع " و " يستمع " ، فالذي يسمع هو الذي يسمع عرضاً ، أما الذي " يستمع " فهو الذي يسمع عمداً . والسامع دون عمد ليس له خياراً ألاّ يسمع ، إلا إذا سد أذنيه . أما الذي يستمع فهو الذي يقصد السمع . وهم كانوا يستمعون للقرآن لا بغرض اكتشاف آفاق الهداية ولكن بغرض الإصرار على الكفر وذلك بقصد تصيد المطاعن على القرآن . ويقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } و " الأكنة " جمع " كنان " وهي الغطاء أو الغلاف . ويتابع الحق : { وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً } أي جعلنا في آذانهم صمماً ، كأنهم باختيارهم الكفر قد منعهم الله أن يفهموا القرآن ، ونعلم أن جميع المعاصرين لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمعوا لرسول الله ومنهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر . ونعرف أن لكل فعل مستقبلاً . ويمكن للمستقبل أن يؤمن وبذلك يكون الفعل قد أتى ثمرته ، وقد يكون المُستقبل مصراً على موقفه السابق فلا يؤمن ، وهنا يكون الفعل لم يؤت ثمرته ، والفاعل واحد ، لكن القابل مختلف . وكان بعض الكافرين يسمعون القرآن ثم يخرجون دون إيمان : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } [ محمد : 16 ] . إنهم ككفار يستمعون للقرآن ، ثم ينصرفون ليقولوا في استهزاء للمؤمنين الذين علموا وآمنوا : أي كلام هذا الذي يقوله محمد ؟ هؤلاء المستهزئون هم الذين ختم الله على قلوبهم بالكفر ، وانصرفوا عن الهداية إلى الضلال . والمتكلم بكلام الله هو رسول الله مبلغاً عن الله ، والسامع مختلف فهناك سامع مؤمن يتأثر بما يسمع ، وهناك سامع كافر لا تستطيع أذنه أن تنقل الوعي والإدراك بما سمع . لكن القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء ، أما الذين لا يؤمنون به فآذانهم تصم عن الفهم وأعماقهم بلا بصيرة فلذلك لا يفهمون عن الله ، وتجد نفس المؤمن تستشرف لأن تعلم ماذا في القرآن . أما الذي يريد أن يكون جباراً في الأرض فهو لا يريد أن يلزم نفسه بالمنهج . وحتى نعرف الفارق بين هذين اللونين من البشر ، نجد المؤمن ينظر إلى الكون ويتأمله فيدرك أن له صانعاً حكيماً ، أما الكافر فبصيرته في عماء عن رؤية ذلك . وحين يستمع المؤمن إلى بلاغ من خالق الكون فهو يرهف السمع ، أما الكافر فهو ينصرف عن ذلك . وكان صناديد قريش أمثال أبي جهل وأبي سفيان ، والنضر بن الحارث ، والوليد ابن المغيرة ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وحرب بن أمية ، كل هؤلاء من صناديد قريس يجتمعون ويسأل الواحد منهم النضر قائلاً : يا نضر ما حكاية الكلام الذي يقوله محمد ؟ وكان النضر راوية للقصص التي يجمعها من أنحاء البلاد ، فهو قد سافر إلى بلاد فارس والروم وجاب الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها ، فقال : والله ما أدري ما يقول محمد إلا أنه أساطير الأولين . ويتجادل النضر وأبو سفيان وأبو جهل مع رسول الله ، وهذا الجدال دليل عدم فهم لما جاء من آيات القرآن . ولم يجعل الله الوقر على آذانهم قهراً عنهم ، بل بسبب كفرهم أولاً ، فطبع الله على قلوبهم بكفرهم ، واستقر مرض الكفر في قلوبهم وفضلوه على الإيمان فزادهم الله مرضاً ، وقال فيهم الحق سبحانه : { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ الأنعام : 25 ] . والأساطير هي جمع أسطورة ، والأسطورة شيء يسطر ليتحدث به من العجائب والأحداث الوهمية . وكأن الحق سبحانه وتعالى يكشفهم أمام أنفسهم وهو يحاولون أن يجدوا ثغرة في القرآن فلا يجدون . وقال الله عنهم قولاً فصلاً : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . فهم يعلمون عظمة القرآن فكيف يقولون إنه أساطير الأولين ؟ لقد كانوا من المعجبين بعظمة أسلوب القرآن الكريم فهم أمة بلاغة ، ولكنهم يعلمون أن مطلوبات القرآن صعبة على أنفسهم . كما أنهم أرادوا أن يظلوا في السيادة والجبروت والقهر للغير ، والقرآن إنما جاء ليساوي بين البشر جميعاً أمام الحق الواحد الأحد . لقد جاءت حوادث قسرية بإرادة الله لتكون سبباً للإيمان ، مثلما حدث مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما علم أن أخته قد أسلمت فذهب إليها وضربها حتى أسال منها الدم . وإسالة الدم حركت فيه عاطفة الأخوة فأزالت صلف العناد ، فأراد أن يقرأ الصحيفة التي بها بعض من آيات القرآن ، وتلقى الأمر من أخته بأن يتطهر فتطهر وجلس يستمع ، وبزوال صلفه وعناده وبتطهره صار ذهنه مستعداً لفهم ما جاء بالقرآن ، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إيمانه بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته الخاتمة . ويقول الحق من بعد ذلك : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ … } .