Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 71-71)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه الآية تبدأ بسؤال عن عبادة الأصنام أو غيرها ، ما الذي صنعته تلك الأصنام أو غيرها لمن عبدها ؟ وماذا صنعت لمن لم يعبدها ؟ . وهذا أول منطق في بطلان ألوهية غير الله ، فمن عبد الشمس مثلا ماذا أعطته الشمس ؟ ومن كفر بها كيف عاقبته الشمس ؟ . إنها تشرق لمن عبدها ولمن لم يعبدها . والصنم الذي عبدوه ، ماذا صنع لهم ؟ لا شيء . وهذا الصنم لم يُنْزِل عقاباً على مَنْ لم يعبده ، بل إن الذي انتفع هو من لم يعبد الأصنام لأنه أعمل فكره ليبحث عن خالق لهذا الكون . وهكذا نجد النفع والضر إنما يأتيان من الإله الحق : { وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ } والإنسان دائماً حين يسير فهو يقطع خطوة إلى الأمام فيقصر المسافة أمامه ، أما من يُرَدُّ على عقبه فهو من يرجع هذه الخطوة التي خطاها . وهذا حديث المؤمنين الذين يرفضون أن يعودوا إلى عبادة غير الله لأنهم آمنوا وساروا في طريق الهدى ، وليس من المنطق أن يرتدوا على أعقابهم وأن ينقلبوا خاسرين . { كَٱلَّذِي ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فِي ٱلأَرْضِ } كلمة " شيطان " مقصود بها عاصي الجن . والجن جنس مقابل للإنس ، وما دام في الإنس طائعون وعاصون فكذلك في الجن طائعون وعاصون . والحق قال : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } [ الجن : 1 - 2 ] . إذن فمن الجن من هو مؤمن . ومن الجن من هو عاصٍ . والعاصي من الجن يُسمى شيطاناً . وإياك أن تنكر أيها المسلم وجود الشيطان لأنك لا تراه ، لأن الشيطان من المخلوقات التي ذكرها الله من عالم الغيب ، وحجة وجودها هو تصديقك لمن قال عنها ، وهناك فرق منطقي وفلسفي بين وجود الشيء وبين إدراك وجود الشيء . والذي يتعب الناس أنهم يريدون أن يوحدوا ويربطوا بين وجود شيء وإدراكه . وهناك فارق بين أن يوجد أو يدرك ذلك أن هناك ما يكون موجوداً ولكنه لا يُدرك . { قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ } [ الأنعام : 71 ] . جاء هذا التصور في صورة استفهام . إنّ الحق طلب من رسوله أن يقوله ، فكأن الصورة : أن قوماً هداهم الله إلى الحق فدُعُوا إلى أن يعبدوا غير الله ويدعوا ما لا ينفع ولا يضر ، فيردوا على أعقابهم ، أي بعد الهداية ، وهذه هي صورة الحيرة والتردد لأنهم كانوا على هدى ، ثم دُعُوا إلى أن يعبدوا من دون الله ما لا ينفع ولا يضر . وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة لهذه الحيرة ، ولهذا التردد ، فقال : { كَٱلَّذِي ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَاطِينُ } . و " استهوته " من مادة " استفعل " وتأتي دائماً للطلب كقولنا " استفهم " . أي طلب الفهم ، و " استخرج " . أي طلب الإخراج للشيء ، " فاستهوته " طلبت هُوِيَّة . أي جعلته يتقبّل ما تريد واستولت عليه دون أن يكون لديه أي دليل أو حجة على صحة ما تدعوه إليه بأن صار عجينة تشكله الشياطين كما تشاء ، وترده مادة " الهاء والواو والياء " لمعانٍ ، إن مُدَّت فهي الهواء الذي نتنفسه ، وما به أصل الحياة ، وإن قُصِرَت ، فإنها هي الهَوَى وهو ميل النفس إلى شيء ، أو تكون هُويًّا أي سقوطاً . إذن فالمادة تأتي إما للهواء إن كانت ممدودة ، وإن كانت بالقصر فهي من الهَوَى أو من الهُوِىّ كأن تقول : " هَوَى ، يَهْوِي هُوِيّاً " أي سقط من علوٍّ إلى أسفل ، وهَوِىَ ، يَهْوَى ، هَوّى . أي أحبَّ ، وهكذا نعرف أن " استهوته " أي طلبت هويَّه أو هواه أي ميل نفسه إلى اتباع الهَوَى ، وحين تستهوي الشياطين الإنسان فهي تريد أن تجتذبه إلى ناحية هواه ، وتوقظ الهوى في النفس ، وبذلك تدعوه ليَهْوِي . والحق يقول : { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ] . وحين يخرّ عبد من السماء ، إما أن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ، وحين تأتي إلى الهَوَى والهُوِىّ فاعلم أن الهوى يجذبك إلى ما يضرك ، ولذلك لا تسلم منه إلا أن يكون هواك تبعاً لما جاء به الحق ، ولكن إن اتبعت هواك فلا بد أن يؤدي بك إلى الهُوِيّ : { كَٱلَّذِي ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فِي ٱلأَرْضِ حَيْرَانَ } [ الأنعام : 71 ] . وما هي الحَيْرة ؟ هي التردد بين أمر ومقابله . وعرفنا من قبل أن الحَيْرة في هذه الآية جاءت لمن اهتدى وسار خطوة للمنهج ثم رُدَّ على أعقابه ورجع ، ولكن له أصحاب يدعونه إلى الهدى ، فهو بين شيطان يستهويه ، وأصحاب يدعونه للمنهج لذلك يكون حيران : بين هاوية ونجاة ، والشيء الذي يهوي لا استقرار له ، وحين نرى - على سبيل المثال - حجراً يهوي للأرض نجده يدور ، ولا اتجاه له . وهذه صورة معبرة ، ويأتي له القول الفصل : { قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ } [ الأنعام : 71 ] . فمن يتبع إذن ؟ إنه يتبع الذين يدعونه إلى منهج الحق سبحانه وتعالى لأن الهدى هو المنهج والطريق الموصل للغاية ، والصنعة لا تضع غاية لنفسها ، بل الذي يضع الغاية هو من صنعها ، وسبق أن قلت : إنّ التليفزيون لا يقول لنا غايته ، ولا يعرف كيف يصون نفسه ، بل يضع ذلك مَنْ صنعه ، وكذلك الإنسان عليه أن يأخذ غايته مِمَّن خلقه ، والذي يفسد الدنيا أن الله خلق ، لكن الناس أرادوا أن يضعوا لأنفسهم قانون الصيانة ، لذلك نقول : إن علينا أن نأخذ قانون الصيانة ممن خلقنا ، وهدى الله هو هدى الحق . وجاءت " الهدى " هنا لتعطينا يقيناً إيمانياً في إله واحد ، وحين توجد عقيدتنا في إله واحد ، لا تختلف أهواؤنا أبداً لأنه هو الذي يضع لنا القانون ، وساعة يضع لنا القانون ويكون كلٌّ مِنِّا خاضعا لقانونه ، لا يذل أحد منا لأحد آخر فأنا وأنت عبيد لإله واحد ، ولا غضاضة عليك ولا غضاضة عليّ . وحين يُريد البشر أن يسير الناس على أفكارهم فإن صاحب الفكر يريد أن يُذِل الآخرين له ويأخذهم على منهجه وعلى مبدئه ، وهو في الحقيقة ليس أفضل منهم ، ولذلك تجد الهداية الحقة حين نخضع جميعاً لإله واحد ، ويتساند المجتمع ويتعاضد ولا يتعاند ، ويتوجه الهوى إلى محبة منهج الله . { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ } [ المؤمنون : 71 ] . ولهذا جاء الدين لأن الشرع لا يقرر شيئاً ضد الإنسان . ونذكر جميعاً قصة ملكة سبأ وسيدنا سليمان عليه السلام حينما قالت : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } [ النمل : 44 ] . ولم تقل : أسلمت لسليمان بل أسلمت مع سليمان لله ، فلا غضاضة أن تكون قد أسلمت فهي ليست تابعة لسليمان ، بل تابعة لرب سليمان ، إذن حين يأتي التشريع من أعلى ، لا غضاضة لأحد في أن يؤمن ، ولا يظن واحد أنه تبع لآخر بل كلنا عبيد لله . وحين نكون جميعاً عبيداً لواحد نكون جميعاً سادة . ويتمثل الهدى في الإيمان بإله واحد ، ونأخذ هذا الإيمان بأدلتنا العقلية . إننا ندخل عليه من باب العقل ، ونسلم أمرنا له لأنه هو أعلم بما يصلحنا . { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 71 ] . وقوله تعالى : { وَأَنْ أَقِيمُواْ ٱلصَّلاةَ … } .