Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 73-73)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ، وما دام الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير فلننظر إلى خلق السماء والأرض ، يقول سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] . وحين ننظر إلى الأفق نجد السماء من غير عمد ، وهذه مسألة عجيبة ، ولذلك يقول سبحانه : { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [ الرعد : 2 ] . وهنا يقول الحق : { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وذلك حتى نعرف أن خلق السماوات والأرض ليست عملية سهلة وهو سبحانه القادر إنّه خلقك أنت بخلق عجيب ، وأعجب منه خلق السماوات والأرض ، فهو القائل : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [ غافر : 57 ] . وحين ينظر الإنسان في تكوينه يجد أشياء عجيبة ، ويتحقق من قول الله : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] . وحين تتأمل السماء والأرض تجد دقة الخلق ، فكأنه سبحانه قد جعل نفسك مقياساً ، إنك ستعلم أحوالها تباعاً وأنك سَتُهْدَي مع الأيام ، إلى سر جديد في هذه النفس ، هذا السر لم يعرفه الأولون ، لكنك حين تتقدم في البحث العلمي وآلات السبر وآلات الاختبار تتعرف وتكتشف هذا الجديد . مثال ذلك ما يسمى بالاستطراق ، وكلنا رأينا الأواني المستطرقة التي نضع فيها سائلا ينفذ في أنابيب متعرجة وأخرى مستقيمة ، فيرتفع السائل فيها بمستوى واحد وهو ما نسميه بظاهرة الاستطراق ، وهناك استطراق مائي ، ويوجد أيضاً استطراق حراري ، ويتمثل الاستطراق الحراري حين نأتي بالمدفأة في الشتاء ونجلس في الغرفة ، ونشعر بالحرارة التي تشع من المدفأة ، وأنت تجد نفسك محتفظاً بدرجة حرارتك العادية وهي سبع وثلاثون درجة . ومن العجيب أنها تتساوى في البشر جميعا حتى في القطب الشمالي والقطب الجنوبي ! ! فلماذا لم تستطرق درجة حرارتك مع الجو ؟ ولماذا لم يأخذ الجو البارد من حرارتك لتتساوى درجات الحرارة ؟ . إن ذلك يثبت أن ذلك ذاتية تجعلك وحدة مستقلة عن الكون الذي تحيا فيه ، وتظل درجة حرارتك عند خط الاستواء 37 درجة ، وفي القطبين 37 درجة ، هذا عجيب ، والأعجب من ذلك أن أجزاء جسمك المختلفة تختلف فيها درجة الحرارة ، فلو أن درجة حرارة العين 37 درجة لانصهرت لذلك نجد أن درجة حرارة العين تسع درجات فقط ، وهناك الكبد الذي تبلغ درجة حرارته أربعين درجة ، وكل أعضاء جسمك وهي مجموعة في شكل واحد ومع ذلك لا تستطرق فيها درجة الحرارة . ولذلك قال الحق : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] . ومثال آخر من عملية التنفس ، فحين تدخل ذرة من غبار في مجرى النفس نجد السعال قد هاجم الإنسان ليطرد هذه الذرة وتجد أنك قد سعلت قسراً إلى أن تطرد هذه الذرة ، فهل أنت سعلت بقرار منك ؟ لا ، بل هو عمل لا إرادي خاضع لنظام دقيق لا يمكن أن يصممه إلا خالق له مطلق الحكمة ، وعلى سبيل المثال نجد الكبد محوطا بتغليفات متتابعة ليحتفظ بحرارته التي تبلغ أربعين درجة لأنه لا يؤدي مهمته إلا عند هذه الدرجة . وكذلك نجد أنّ الأذن هي أطول عضو يشعر بالبرودة لأن درجة حرارتها قليلة ، وهكذا أراد الصانع الأعلى . كما جاء في قوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } [ الأنعام : 73 ] . لقد خلق الحق السمٰوات والأرض بقوانين ثابتة لا تتغير إلا بمشيئته ، فهو القائل : { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] فيامَنْ تريد النظام دليلاً على حكمة الخالق الموجد خذها في النظام الأعلى . ويا من تريد الشذوذ دليلاً على سيطرة الحق فوق الميكانيكية ، خذها في الأفراد لأنه لو حصل شذوذ في الكون الأعلى لفسدت السماوات والأرض ، لكن عندما يوجد أعمى واحد من ألف إنسان ، فلا يحدث خلل في الكون ، ولذلك نجد الشذوذ إنما يأتي فيما فيه عوض ، والنظام يأتي فيما في تركه فساد ، كما يقول سبحانه : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ } [ الأنعام : 73 ] . وبذلك نرى الإيجاد الأول بالحق ، وأيضاً حين يهدم سبحانه السماء والأرض وينهي الدنيا ويزيلها ، فتمور السماء ، والكواكب تنتثر وتتساقط فإن ذلك يحدث أيضاً بالحق ، فليس الخلق والإيجاد وحده دليلاً على عظمة الخالق بل إنهاء الخلق وإفناؤه وإزالته أيضاً دليل عظمة لأنه سبحانه قال في البدء : " كن " فكان الكون ، وفي النهاية يقول : " كن " فيكون إنهاء الخلق ليعطي للمحسن جزاء إحسانه ، ويحاسب المسيء لأن المحسن قد يشقى بإحسانه طول عمره ، ولا بد له من ثواب ، والمسيء لن يأخذ راحته بل يأخذ عقاباً . فمن الخير والعظمة أن تنتهي الحياة ليأتي يوم الحساب لينال كلٌّ جزاءه . إذن فخلق السماوات والأرض حق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق ، فالحق في الإيجاد والحق في الإعدام ، إنّه حاصل في بدء الخلق ، وفي نهايته . { وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } [ الأنعام : 73 ] . وهل كان الملك يوماً لغير الله ؟ في هذا المقام علينا أن ننتبه إلى أن فيه ملْكاً ، ويقال لصاحبه مالك ، وفيه مُلك ويقال لصاحبه ملك . والملك ما تملكه فقد تملك جلبابك الذي ترتديه . أما المُلْك فهو أن تملك من يَمْلك ، فهذا اسمه مُلْك ، وربنا سبحانه وتعالى في دنيا الأسباب جعل لكل واحد منا ملكاً ، وجعل لبعض علينا مُلكاً فبقوا ملوكاً ، لكن في الآخرة لا يوجد شيء من هذا ، لذلك يقول الحق : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . وفي الدنيا قد تملك مثلاً أن توظفني عندك وتعطيني أجراً ، وقد تملك أنك تطبخ لي طعامي أو تعطيني طعاماً ، أو تملك أنك تخيط جلبابي ، لكن في الآخرة لا يملك أحد لأحد سبباً لأننا نحيا في الدنيا بالأسباب التي منحنا الله إياها ، وفي الآخرة بالمسبب وحده دون أسباب . { وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ } ولو سلسلتها قبل أن ينفخ في الصور تجد الملك أيضاً لله ولكن بوسائط لأن الحق سبحانه وتعالى جعل الأرض أرض معاش ، وهناك الآخرة إنّها أرض معاد ، لذلك قال : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [ إبراهيم : 48 ] . والأرض التي نحيا عليها مخلوقة لنستعمرها ، ونحرث جزءاً منها لنزرعه ، ونبني بيوتاً على جزء آخر ، وهكذا تكون المسألة كلها أسبابا يتوافق بعضها مع بعض فأنا لا أستطيع أن أحرث إلا بمحراث ، وكذلك من يرغب في استخراج عنصر الحديد من الأرض يقيم منجماً ، ومن يرغب في استخراج البترول يأتي بالآلات التي تستكشف أماكنه ، ولا أحد يستطيع أن يملك كل أسباب حياته بل توجد في يده زاوية واحدة ، وباقي الزوايا في أيدي بقية الخلق . وحين تسلسل الأسباب التي نحيا بها سنرجع للحق سبحانه وتعالى ، فحين تنتهي يد المخلوق وأسبابه تضيق به فإن يد الخالق جلت قدرته مبسوطة إليه دائماً ، وإياك أن تغرك الأسباب ولكن سلسل الأسباب إلى أن تنتهي إلى الله . ولو سلسلت كل ظاهرة من ظواهر الكون لوصلت إلى منطق الحق فالطفل الصغير يرقب ظاهرة في البيت ، هي زر في الحائط ، عندما يضغطون عليه بأصبع واحد يضيء المصباح ، فيقلدهم ، وحين يراه أخوه الذي يدرس الإعدادية يقول له : لا تصدق أن الضوء يأتي من هذا الزر بل هناك سلك قادم من خارج المنزل يربط بين صندوق الكهرباء والمنازل ، وحين يسمعهما من هو أعلى منهما علماً يشرح لهما أن الكهرباء الموجودة داخل هذا الصندوق قادمة من المولد الكبير الذي في موقع ما من المدينة ، وقد صنعته المعامل والعقول حتى ينتهي الشرح فيصل إلى فكرة التيار المكهرب المستخلص من شلالات الأنهار مثلا . إذن فكل ظاهرة تراها أمامك وراءها حلقات غيبية لو سلسلتها لوصلت إلى الحق سبحانه وتعالى ، وسبحانه قد احترم دنيانا وجعلنا نفهم أن بعضنا له مُلك ، ولكن نقول لكل مَلِك : إن هذا المُلك ليس بذاتك لأنه لو كان بذاتك لما سلبك أحد هذا المُلْك أبداً . وسبحانه القائل : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [ آل عمران : 26 ] . إذن فليس هناك من له المُلْك بذاته إلا الله . والحق يقول هنا : { وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } [ الأنعام : 73 ] . ينفخ في الصور تفيد الإيذان بمقدم أمر ما ، فبعد النفخة الأولى يموت من كان حيًّا ، وبعد النفخة الثانية يصحو الموتى ويقومون . وكلمة { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } تشرح لنا أنه سبحانه ما دام عالم الغيب فمن باب أولى أنه يعلم المشهود . وهذا تعبير دقيق ، وإنّه يعلم الغيب ويعلم الشهادة وعلمه يترتب عليه جزاء لا عن تحكم ، ولكن عن حكمة . ويذيل الحق الآية بقوله سبحانه : { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } والحكيم هو الذي يضع كل أمر في مكانه ، والخبير هو من يعلم كل شيء بإحاطة تامة ، وسبحانه ليس بحاجة إلى أن يظلم أحداً ، لأن من يظلم إنما يريد أن ينتفع بالشيء الموجود لدى المظلوم ، وربنا لا ينتفع بحاجة من هذه ، بل ينفعنا جميعاً ، ولذلك إذا نظرت إلى الإيمان تجده كله عزّة ، وأنت تجد الناس تكره كلمة " عبودية " ، وتقوم حروب من أجل تحرير البشر من عبودية البشر ، أما عبودية بشر للحق فأمرها مختلف لأن العبودية للبشر ، نجد فيها أن السيد يأخذ خير عبده ، ولكن العبودية لله نجد فيها أن العبد يأخذ خير سيده ، وهكذا تكون العبودية لله عزّة ، أما العبودية للبشر فهي ذلة . ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى قد امتن على نبيه بصفة العبودية فقال : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] . فقد أخلص صلى الله عليه وسلم العبودية لله ، فأخذ من فيوضات الحق بما يناسب عبوديته . والحق سبحانه يوضح لكل عبد : نم ملء جفنيك فأنا لا تأخذني سنة ولا نوم ، وأنا قيوم ، وإن احتجت مني إلى شيء ما فادعني وسأمد لك يد العون بما يناسبك ، فهل في هذه العبودية لله شيء غير العزّة ؟ ! ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً … } .