Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 98-98)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقد تكلم سبحانه لنا - أولاً - عن الآيات المحيطة بنا والتي بها قوام حياتنا من فلق الحب والنوى ، وبعد ذلك تكلم عن الشمس والقمر ، ثم تكلم عن النجوم ، كل هذه آيات حولنا ، ثم يتكلم عن شيء في ذواتنا ليكون الدليل أقوى ، إنه - سبحانه - يأتي لك بالدليل في ذاتك وفي نفسك لأن هذا الدليل لا يحتاج منك إلى أن تمد عينيك إلى ما حولك ، بل الدليل في ذاتك ونفسك ، يقول سبحانه : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] . أي يكفي أن تجعل من نفسك عَالَماً ، هذا العالم موجود فيه كل ما يثبت قدرة الحق ، وأحقيته بأن يكون إلهاً واحداً ، وإلهاً معبوداً . { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ينطبق على هذا القول أنه إخبار من الله ، وأنه - أيضاً - استقراء في الوجود ، الذي نسميه التنازل للماضي لأنك لو نظرت إلى عدد العالم في هذا القرن ، ثم نظرت إلى عدد العالم في القرن الذي مضى تجده نصف هذا العدد ، وإذا نظرت إليه في القرن الذي قبله ، تجده ربع تعداد السكان الحاليين . وكلما توغلت في الزمن الماضي وتذهب فيه وتبعد ، يقل العدد ويتناهى إلى أن نصل إلى { نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ، وهذا ما ذكره الله لنا ، ولقائل أن يقول : كيف تكون نفساً واحدة وهو القائل : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] . ونقول : إن الحق سبحانه وتعالى خلق النفس الواحدة ، وأوضح أيضاً أنه خلق من النفس الواحدة زوجها ، ثم بدأ التكاثر . إذن فالاستقراء الإحصائي في الزمن الماضي يدل على صدق القضية . وكذلك كل شيء متكاثر في الوجود من نبات ومن حيوان . تجدها تواصل التكاثر وإن رجعت بالإحصاء إلى الماضي تجد أن الأعداد تقل وتقل إلى أن تنتهي إلى أصل منه التكاثر إنّه يحتاج إلى اثنين : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا } [ يس : 36 ] . ولماذا جاء الحق هنا بقوله : { مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ولم يقل زوجين ؟ أوضح العلماء أن ذلك دليل على الالتحام الشديد لأننا حين نكون من نفس واحدة فكلنا - كل الخلق - فيها أبعاض من النفس الواحدة ، وقلنا من قبل : إننا لو أتينا بسنتيمتر مكعب من مادة ملونة حمراء مثلاً ثم وضعناها في قارورة ، ثم رججنا القارورة نجد أن السنتيمتر المكعب من المادة الحمراء قد ساح في القارورة وصار في كل قطرة من القارورة جزء من المادة الملونة ، وهب أننا أخذنا القارورة ووضعناها في برميل ، ثم رججنا البرميل جيداً سنجد أيضاً أن في كل قطرة من البرميل جزءاً من المادة الملونة ، فإذا أخذنا البرميل ورميناه في البحر فستنساب المادة الملونة ليصير في كل قطرة من البحر ذرة متناهية من المادة الملونة . إذن ما دام آدم هو الأصل ، وما دمنا ناشئين من آدم ، وما دام الحق قد أخذ حواء من آدم الحي فصارت حية ، إذن فحياتها موصولة بآدم وفيها من آدم ، وخرج من آدم وحواء أولاد فيهم جزء حي ، وبذلك يردنا الحق سبحانه إلى أصل واحد ليثير ويحرك فينا أصول التراحم والتواد والتعاطف . ويقول سبحانه : { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } والمستقر له معان متعددة يشرحها الحق سبحانه وتعالى في قرآنه . وفي قصة عرش بلقيس نجد سيدنا سليمان يقول : { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا … } [ النمل : 38 ] . وأجاب على سيدنا سليمان عفريت من الجن ، وكذلك أجاب من عنده علم من الكتاب . ويقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ … } [ النمل : 40 ] . مستقر هنا إذن تعني حاضراً لأن العرش لم يكن موجوداً بالمجلس بل أحضر إليه . وفي مسألة الرؤية التي شاءها الحق لسيدنا موسى عليه السلام : { قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي … } [ الأعراف : 143 ] . ونعلم أن الجبل كان له استقرار قبل الكلام ، إذن فـ " استقر " تأتي بمعنى حضر ، وتأتي مرة أخرى بمعنى ثبت . والحق يقول : { وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ … } [ الأعراف : 24 ] . وذلك بلاغ عن مدة وجودنا في الدنيا ، وكذلك يقول الحق : { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً … } [ الفرقان : 24 ] . إذن فالجنة أيضاً مستقر ، وكذلك النار مستقر للكافرين ، يقول عنها الحق : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] . إذن فمستقر تأتي بمعنى حاضر ، أو ثابت ، أو كتعبير عن مدَّة وزمن الحياة في الدنيا ، والجنة أيضاً مستقر ، وكذلك النار . ولذلك اختلف العلماء ونظر كل واحد منهم إلى معنى ، منهم من يقول : " مستقر " في الأصلاب ثم استودعنا الحق في الأرحام . ومنهم من رأى أن " مستقر " مقصود به البقاء في الدنيا ثم نستودع في القبور . ونقول : إن الاستقرار أساسه " قرار " حضور أو ثبات ، وكل شيء بحسبه ، وفيه استقرار يتلوه استقرار يتلوه استقرار إلى أن يوجد الاستقرار الأخير ، وهو ما يطمع فيه المؤمنون . وهذا هو الاستقرار الذي ليس من بعده حركة ، أما الاستقرار الأول في الحياة فقد يكون فيه تغير من حال إلى حال ، لقد كنا مستقرين في الأصلاب ، ثم بعد ذلك استودعنا الحق في الأرحام ، وكنا مستقرين في الدنيا ثم استودعنا . في القبور . حتى نستقر في الآخرة . إن كل عالم من العلماء أخذ معنى من هذه المعاني . والشاعر يقول : @ وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع @@ ونلحظ أن هناك كلمة " مُسْتَقَرّ " وكلمة " مستودع " ، و " مستودع " هو شيء أوقع غيره عليه أن يودع . لكن " مُسْتَقَرّ " دليل على أن المسألة ليست خاضعة لإرادة الإنسان . فكل واحد منا " مُسْتَقَرّ " به . ويقول الحق : { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } والتفصيل يعني أنه جاء بالآيات مرة مفصلة ومرة مجملة لأن الأفهام مختلفة ، وظروف الاستقبال للمعاني مختلفة ، فتفصيل الآيات أريد به أن يصادف كل تفصيل حالة من حالات النفس البشرية لذلك لم يترك الحق لأحد مجالاً في ألا يفقه ، ولم يترك لأحد مجالاً في ألا يتعلم ، ونلحظ أن تذييل الآيتين المتتابعتين مختلف فهناك يقول سبحانه : { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ الأنعام : 97 ] . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } [ الأنعام : 98 ] . و " الفقه " هو أن تفهم ، أي أن يكون عندك ملكة فهم تفهم بها ما يقال لك علْماً ، فالفهم أول مرحلة والعلم مرحلة تالية . وأراد الحق بالتفصيل الأول في قوله : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } الدعوة للنظر في آيات خارجة عن ذات الإنسان ، وهنا أي في قوله سبحانه : { لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } لفت للنظر والتدبر في آيات داخلة في ذات الإنسان . ويقول الحق بعد ذلك : { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ … } .