Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 103-103)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وبعد أن تكلم الحق عن نوح وهو وصالح ولوط وشعيب وما دار بينهم وبين أقوامهم ، وكيف أهلك سبحانه المكذبين وأنجى المؤمنين ، أراد أن يأتي بتاريخ رسول من أولى العزم من الرسل ، أي من الذين تعرضوا في رسالاتهم لأشياء لا يتحملها إلا جَلْد قوي . وأظن أنكم تعلمون أن علاج موسى لليهود أخذ قسطاً وافراً في القرآن ، بل إن قصة موسى مع قومه هي أطول قصص القرآن لأن انحرافاتهم ونزواتهم وتمردهم على أنبيائهم كانت كثيرة ، وكان أنبياؤهم كثيرون ولذلك فهم يفتخرون بأنهم كثيرو الأنبياء ، وقالوا : نحن أكثر الأمم أنبياء . وقلنا لهم : إن كثرة أنبيائكم تدل على تأصل دائكم لأن الأطباء لا يكثرون إلا حين يصبح علاج المريض أمراً شاقاً . إذن فكثرة أنبيائكم ، دليل على أن رسولاً واحداً لا يكفيهم ، بل لا بد من أنبياء كثيرين . وقوله الحق : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ } . وكلمة " بعث " - كما نفهمها - توحي وتشير إلى أنه سبحانه قد أرسل موسى رسولاً إلى فرعون ، واختيرت كلمة " بعث " للرسالات لأن البعث يقتضي أن شيئاً كان موجوداً ثم انطمر ثم بعثه الحق من جديد ، والإِيمان يتمثل في عهد الفطرة الأول الذي كان من آدم لأن الله خلقه بيديه خلقاً مباشراً وكلفه تكليفاً مباشراً ، فنقل آدم الصورة للذرية ، وهذه الصورة الأصلية هي التي تضم حقائق الإِيمان التي كانت لآدم ، وحين يبعث الله رسولاً جديداً ، فهو لا ينشئ عقيدة جديدة ، بل يحيي ما كان موجوداً وانطمر ، وحين يطم الفساد يبعث الله الرسول ، فكأن الحق سبحانه وتعالى حينما كلف آدم التكليف الأول طلب منه أن ينقل هذا التكليف إلى ذريته ، ولو أن الإِنسان أخذ تكاليف الدين كما أخذ مقومات الحياة ممن سبقه لظل الإِيمان مسألة رتيبة في البشر . إننا نأخذ الأشياء التي أورثها لنا أجدادنا وتنفعنا في أمور الدنيا نحتفظ بها ونحرص عليها ، فلماذا لم نأخذ الدين منهم ؟ لأن الدين يحجر على حرية الحركة ويضعها في إطارها الصحيح . والإِنسان يريد أن ينفلت من تقييد حرية الحركة ، وحين يقول ربنا مرة إنه : " أرسل " الرسل ، ومرة أخرى إنه قد بعثهم ، فهذا يدل على أنه لم يجيء بشيء جديد ، ولكنه جاء بشيء كان المفروض أن يظل فيكم كما ظلت فيكم الأشياء التي ورّثها لكم أسلافكم وتنتفعون بها مثال ذلك : نحن ننتفع برغيف الخبز وننتفع بخياطة الإِبرة فلماذا انتفعنا بهذه الأشياء المادية ونسينا الأشياء المنهجية ؟ لأن الأشياء المادية قد تعين الإِنسان على شهواته ، أما قيم الدين فهي تحارب الشهوات . { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ … } [ الأعراف : 103 ] . والآيات - كما نعلم - جمع آية ، وهي الأمر العجيب الذي يقف العقل عنده مشدوهاً . وتُطلق الآيات ثلاث إطلاقات فهي تطلق على الآيات القرآنية لأنها عجيبة أسلوبيًّا معبرة عن كل كمال يوجد في الوجود إلى أن تقوم الساعة ، وكل قارئ لها يأخذ منها على قدر ذهنه وقدر فهمه . والآيات الكونية موجودة في خلق الأرض والسماء وغير ذلك ، وكذلك تطلق الآيات على المعجزات الدالة على صدق الأنبياء . والبعث يقتضي مبعوثاً وهو موسى ، ويقتضي باعثاً وهو الله ، ومبعوثاً إليهم . وهم قوم فرعون ، ومبعوثاً به وهو المنهج . والآيات التي بعث الله بها موسى هي أدلة صدق النبوة ، وهي أيضاً الكلمات المعبرة عن المنهج ليشاهدها ويسمع لها فرعون وملؤه ، والملأ - كما عرفنا من قبل - هم القوم الذين يملأون العيون هيبة ، فلا يقال للناس الذين لا يلتفت إليهم أحد إنهم ملأ ، أو هم الأناس الذين يملأون صدور المجالس ، أي الأشراف والسادة . ولماذا حدد الحق هنا أن موسى قد بعث لفرعون وملئه فقط ؟ لأن الباقين من أتباعهم تكون هدايتهم سهلة إن اهتدى الكبار ، والغالب والعادة أن الذي يقف أمام منهج الخير هم المنتفعون بالشر ، وهم القادة أو من حولهم ، ولا يرغبون في منهج الخير لأنه يصادم أغراضهم ، وأهواءهم ، ولذلك يحاربونه ، أمّا بقية العامة فهم المغلوبون على أمرهم ، وساعة يرون أن واحداً قد جاء ووقف في وجه الذين عضوهم بمظالمهم وعضوهم بطغيانهم ، تصبح قلوبهم مع هذا المنقذ ! { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ … } [ الأعراف : 103 ] . وإن كانت الآيات هي الكلمات المؤدية للمنهج الموجودة في التوراة ، أو كانت الآيات هي المعجزات التي تدل على صدق موسى فقد كان ذلك يقتضي إيمانهم . ونعلم أن القرآن قد عدد الآيات المعجزات التي أرسلها الحق مع موسى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ … } [ الإِسراء : 101 ] . ومن هذه الآيات العصا ، واليد يدخلها في الجيب أو تحت جناحه وإبطه وتخرج بيضاء من غير سوء أو علة ، وأخذ آل فرعون بالسنين ، وكلمة " سنين " تأتي للجدب الشديد الذي يستمر لفترة من الزمن بحيث يلفت الناس إلى حدثٍ في زمان ، ولذلك نقول : كانت سنة عصيبة لأن السنة عضة من الأحداث ، تهدم ترف الحياة ، ثم تأتي لهم بما يهدم مقومات الحياة ، وأولها الطعام والشراب فيصيبهم بنقص الثمرات ، وهو الجدب والقحط ، وسمي الجدب سنة ، وجمعه سنين ، لأنه شيء يؤرخ به ، فماذا كان استقبال فرعون وملئه للآيات التي مع موسى عليه السلام ؟ يقول الحق : { فَظَلَمُواْ بِهَا } . وهل كانت الآيات أداة للظلم أو ظلموا بسببها لأنهم رفضوها كمنهج حياتي ؟ . لقد ظلموا بها لأنهم رفضوا اتباع المنهج الحق ، وظلوا على فسادهم ، والمفسدون - كما نعلم - هم الذين يعمدون إلى الصالح في ذاته فيفسدونه ، برغم أن المطلوب من الإِنسان أن يستقبل الوجود استقبال من يرى أن هناك أشياء فوق اختياراته ومراداته ، وأشياء باختياره ومراداته ، فإذا نظر الإِنسان في الأشياء التي بها مقومات الحياة ، مما لا يدخل في اختياره يجدها على منتهى الاستقامة . إننا نجد الإِنسان لا يتحكم في حركة الشمس أو حركة القمر ، أو النجوم أو الريح أو المطر ، فهذه الكائنات مستقيمة كما يريدها الله ، ولا يأتي الفساد إلا في الأمر الذي للإِنسان مدخل فيه ، والناس لا تشكو من أزمة هواء - على سبيل المثال - لأنه لا دخل في حركة الهواء لأحد ، لكنهم شَكَوْا من أزمة طعام لأن للبشر فيه دخلاً ، ونجد شكواهم من أزمة المياه أقل لأن مدخل الإِنسان على الماء قليل . إنه سبحانه وتعالى يجعل الأمر الذي يدير حركتك الوقودية لك فيه بعض من الدخل ، فيجعل من جسمك - على سبيل المثال - مخزناً للدهون ليعطيك لحظة الجوع ما كنزته فيه من طاقة . ومن العجيب أن الدهون هذه هي مادة واحدة وساعة نحتاج إلى التغذية منها تتحول المادة الواحدة إلى المواد الأخرى التي نحتاج إليها . تحتاج مثلاً إلى زلال ، فيتحول الدهن إلى زلال ، تحتاج إلى كربون ، يعطي لك الدهن الكربون ، تحتاج إلى فوسفور يعطيك فوسفوراً ، تحتاج إلى مغنسيوم يعطيك الدهن المغنسيوم ، وهكذا فإذا كنا نصبر على الطعام بقدر المخزون في أجسامنا ، ونصبر على الماء أيضاً بقدر المخزون في هذه الأجساد ، فنحن لا نصبر على الهواء لأن التنفس شهيق وزفير ، ولو أن إنساناً ملك الهواء يعطيك إياه لحظة الرضا ، ويمنعه عنك لحظة الغضب ، لمت قبل أن يرضى عنك ، لكن إن منع عنك الماء فترة فقد يحن قلب عدوك أو يأتي لك أحد بالماء أو قد تسعى أنت بحيلة ما لتصل إليه . إذن فالأمر الذي لا دخل للإِنسان فيه نجد على منتهى الاستقامة ، ولا يأتي الفساد إلا من الأمر الذي للإِنسان فيه دخل . { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ الأعراف : 103 ] . أي أن آخر الأمر سيعاقب الله المفسدين . وأراد سبحانه أن يَذْكُر سلسلة القصة لا من بدء سلسلتها ، بل يبدأ من نهايتها ، فسبحانه لا يدرس لنا التاريخ ، ولكن يضع أمامنا العظة ، واللقطة التي يريدها في هذا السياق ، ولذلك لم يتكلم سبحانه في هذه السورة عن ميلاد موسى وكيف أوحى لأمه أن تلقيه في البحر ، ولم ترد حادث ذهابه إلى مدين ومقابلته لسيدنا شعيب ، لكنه هنا يتكلم سبحانه عن مهمة سيدنا موسى مع فرعون . ويقول سبحانه : { وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ … } .