Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 129-129)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لقد قالوا لموسى : من قبل أن تأتينا أوذينا بأن قتلوا الأبناء واستحيوا النساء ، وبعد أن جئت ها نحن أولاء نتلقى الإِيذاء . كأن مجيئك لم يصنع لنا شيئاً . إذن هم نظروا للابتلاءات التي يجريها الله على خلقه ، ولم ينظروا إلى المنة والمنحة والعطاء وإلى آلاء الانتصار ، وإلى أن فرعون قد حشد كل السحرة ، وبعد ذلك هزمهم موسى ، وكان يجب أن يكون تنبيهاً لهم لقدرة عطاء الله ، هم يحسبون أيام البلاء ، ولم يحسبوا أيام الرخاء . وقوله : { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } يدل على أنهم سوف يخونون العهود ، ويفعلون الأشياء التي لا تتناسب مع هذه المقدمات . وفي الإِسلام نجد عمرو بن عبيد وقد دخل على المنصور قبل أن يكون أميراً للمؤمنين ، وكان أمامه رغيف أو رغيفان ، فقال : التمسوا رغيفاً لابن عبيد . فرد عليه العامل : لا نجد . فلما ولي الخلافة وعاش في ثراء الملك ونعمته دخل عليه ابن عبيد وقال : لقد صدق معكم الحق يا أمير المؤمنين في قوله : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] . وقد قال موسى لقومه هذا القول بعد أن عايروه بعدم قدرته على رد العذاب عنهم . وهكذا استقبل قوم موسى أول هزيمة لفرعون أمام موسى ، وقالوا له : أوذينا من قبل أن تأتينا ، ومن بعد ما جئتنا ، أي بالتذبيح ، واستحياء النساء ، وقتل الأبناء ، فكأن مجيئك لم يفدنا شيئاً لأننا مقيمون على العذاب الذي كنا نُسامه . فلا حاجة لنا بك ، ولا ضرورة في أن تكون موجوداً بدليل أن الذي حدث بعدك هو الذي حدث قبلك . ولم يلتفتوا إلى أن الإِيذاء من قبل ومن بعد لا ينشأ إلا من عدو ، فكأن موسى يرد عليهم بأن أسباب الإِيذاء ستنتهي ، وأن الله سيهلك عدوكم الذي آذاكم من قبل ويؤذيكم من بعد . ولن يقتصر الأمر على هذه النعمة بل يزيدكم بأن يستخلفكم في الأرض ، ويعطيكم ملكهم ويعطيكم أرضهم . وكأن هنا أمرين : الأمر الأول سلبي : وهو إهلاك العدو ، والأمر الثاني إيجابي : وهو استخلافكم في الأرض وهذا أمر لكم ، ووعد من الله بأن تكون لكم السيادة والملك وعليكم أن تنتبهوا إلى أن نعمة الله عليكم بإهلاك عدوكم ، وباستخلافكم في الأرض لن تترك هكذا ، بل أنا رقيب عليكم أنظر ماذا تفعلون ، هل تستقبلون هذه النعم بالشكر وزيادة الإِيمان واليقين والارتباط بالله ، أو تكفرون بهذه النعمة ؟ وحين يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى { عَسَىٰ } فهي كلمة - كما يقول علماء اللغة - تدل على الرجاء ، ومعنى الرجاء أن ما بعدها يكون مرجو الحصول . وهناك فرق بين التمني وبين الرجاء . فالتمني أن تتطلب أمراً مستحيلاً أو يكون في الحصول عليه عسر ، ولكنك تريد - فقط - بالتمني إشعار حبك له ، فأنت إذا قلت : ليت الشباب يعود ، فهذا أمر لا يكون ، ولكنك تعلن حبك لمرحلة الشباب . وقصارى ما يعطيه أن يعلمنا أنك تحب هذا المتمنَّى . لكن هل يتحقق أو لا يتحقق … فهذه ليست واردة . لكن " الرجاء " شيء محبوب يوشك أن يقع . وهكذا نعرف أن الرجاء أقوى من التمني . وأداة التمني " ليت " وأداة الرجاء " عسى " . وحين يكون بعد " عسى " ما يُرْجَى فلذلك مراحل تتفاوت بقوة أسباب الرجاء في الوقوع . فأنا مثلاً إذا قلت : عسى أن أكرمك فهذا أمر يعود إليّ أنا ، لأنَّ إكرامي لك يقتضي بقائي ، وعدم تغير نفسي من ناحيتك ، فمن الجائز أن تتغير نفسي قبل أن أكرمك ولا يقع إكرامي لك . هذا هو الرجاء من صاحب الأغيار ، وما دمت صاحب أغيار فقد لا أقدر على الإِكرام ، أو أقدر ولكني لم أعد أحب هذا الأمر فقد انصرفت نفسي عنه ، وهذا يفسد الرجاء ويقلل الأمل في حصوله . فإذا قلت لإِنسان : عسى الله أن يكرمك فلان وهو مساويه ، فهذا أمر مستبعد قليلاً لأن من يقول ذلك لا يملك أن يقوم فلان بإِكرام المساوي له ، لأنه صاحب أغيار . لكن إذا قلت : عسى الله أن يكرمك فهذه أقوى ، لأن ربنا لا يعجزه شيء عن إكرام إنسان . وهل يقبل الله أن يجيب رجاءك ؟ هذه مسألة تحتاج إلى وقفة ، فسبحانه من ناحية القوة له مطلق القدرة فلا شيء يعطله أو يستعصي أو يتأبى عليه . فإذا ما قال الحق عن نفسه : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ } فقد انتهت المسألة وتقرر الوعد وتحقق ، وهذا ما يقال عنه رجاء محقق . إذن مراحل الرجاء هي : عسى أن أكرمك ، وعسى أن يكرمك زيد ، وعسى الله أن يكرمك ، وأقوى ألوان الرجاء أن بعد الحق بالإِكرام أو بالرحمة . { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ … } [ الأعراف : 129 ] . والكلام كما نراه هو من موسى ، ولا يقدر على هذه المسألة إلا الله ، فما موقع هذا من تحقيق الرجاء ؟ . نعلم أن موسى رسول أرسله الله لهداية الخلق ، وأرسله مؤيداً بالمعجزة ، فإذا كان الرسول المؤيد بالمعجزة قد أمره الله أن يبلغهم ذلك ، فيكون الرجاء منه مقبولاً : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } . ومرة تكون إزالة الشيء الضار نعمة بمفردها ، أما أن يهلك الله عدوي ويعطيني الحق مكانة عدوي العالية فهذه نعمة إيجاب ، تكون بعد نعمة سلب . ومثل هذا ما سوف يحدث يوم القيامة لأن الحق يقول : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ … } [ آل عمران : 185 ] . ومجرد الزحزحة عن النار فضل ونعمة ، فما بالك بمن زُحزح عن النار وأدخل الجنة ؟ . لقد نال نعمتين . وهنا يقول الحق سبحانه : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } . وتلك وحدها نعمة تليها نعمة أخرى هي : { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } . لكن ثمن هذه النعم هو أن ينظر ماذا تعملون ؟ . هل ستشكرون هذه النعم وتكونون عباداً صالحين ، أو تجحدونها وتكفرونها ؟ فالإِنسان ظلوم كفار . وكلمة " ينظر " إذا جاءت على الإِنسان فُهِم المراد منها أي يراك بناظره . وإذا أُسندت لله فالأمر مختلف ، فتعالى الله أن تكون له حدقة عين مثل عيوننا . لكنه سبحانه لا يجهل شيئاً لينظره لأنه هو - سبحانه - عالمه قبل أن يقع . ونعلم أن هناك فارقاً بين الحكم على المخلوق بعلم الخالق ، وبين الحكم على المخلوق بعمل المخلوق . مثال ذلك نجد الأستاذ في مادة ما يعرف مستويات الطلاب الذين يدرسون على يديه . وعميد الكلية يقول له : ما رأيك ؟ فيقول فلان تلميذ يستحق النجاح بتقدير مرتفع والثاني لا بد أن يرسب . الأستاذ يقول هذا الحكم بناء عن علمه بحال كل طالب . لكن إذا أرسب الأستاذ طالباً بناء على تقديره دون امتحان فالطالب الذي رسب قد يقول لأستاذه : أنت شططت في الحكم ولو مكنتني من الامتحان لنجحت . وحين يقرر العميد امتحان الطالب ، ويؤدي الامتحان بالفعل ، ولكنه يرسب . هنا يتأكد للعميد أن الحكم برسوب طالب قد عرفه الأستاذ أولاً ثم تلا ذلك إخفاق الطالب في الامتحان . إن الله سبحانه حين يقول : { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } . هو سبحانه لا ينظرها ليعلمها - حاشا لله - فهو عالمها ، ولكنه لا يريد أن يحكم بعلمه على خلقه . ولكن يريد أن يحكم على خلقه بفعل خلقه ، وسبحانه عالم أزلاً بكل من يهدي ومن يضل . ولذلك خلق الجنة وخلق النار لتسع كل منهما كل الخلق ، ولم يخلق أماكن في الجنة على قدر من سوف يدخلونها فقط ، وكذلك لم يخلق أماكن في النار لا تسع فقط أهل النار ، بل يمكنها أن تسع كل الخلق ، ولم يحكم بعلمه في هذه المسألة ، بل يترك الحكم الأخير لواقع الأشياء ما دام هناك اختيار للإِنسان ، فعلى فرض أنكم جميعاً آمنتم فلكم كلكم أماكن في الجنة . وعلى فرض أنكم - والعياذ بالله - كفرتم فلكم أماكن في النار ، وسبحانه لن ينشئ شيئاً جديداً ، بل أعد كل شيء وانتهى الأمر . وحين يأتي أهل الجنة ليدخلوا الجنة ، وأهل النار ليدخلوا النار سوف يكون لأهل الجنة مقاعد أخرى كانت مخصصة لمن دخلوا النار . ويعلن لأهل الجنة : أورثتموها وخذوها أنتم : { وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا … } [ الأعراف : 43 ] . وهي ميراث من الذين كانت معدة لهم ولم يقوموا بالعمل المؤهل لامتلاكها . فإياك أن تفهم أن نظر الله إلى خلقه ليعلم منه شيئاً . لا . أنَّه العليم أزلاً . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ … } [ الحديد : 25 ] . وسبحانه يعلم أزلاً ويتحقق بسلوك الناس علمهم بأفعالهم واقعاً ، وعلم الواقع هو الذي يكون حجة على الخلق . وهنا في الآية التي نحن بصددها ثلاثة أشياء : أن يهلك سبحانه عدوكم ، وأن يستخلفكم في الأرض ، فينظر كيف تعملون . ونحقق فيما تحقق منهما . وجاء سبحانه في مقدمة الإِهلاك ، فقال : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ … } .