Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 2-3)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي هاتين الآيتين الكريمتين خمسُ صفاتٍ لها ترتيب عقائدي وحركي وجوارحي ، وبذلك يتحدد تشخيص كلمة " المؤمنين " ، هذه الصفات هي الأولى : أنه إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وثانية الصفات أنه : إذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيماناً ، ثالثة الصفات : أنهم على ربهم يتوكلون ، ورابعة الصفات : أنهم يقيمون الصلاة ، وخامسة الصفات : أنهم ينفقون مما رزقهم الله . والصفة الأولى للمؤمنين هي : { إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] . والوجل هو الخوف في فزع ينشأ منه قشعريرة ، واضطراب في القلب ، وحينما أراد الشعراء أن يعطوا صورة بهذا الإحساس ، نجد شاعراً منهم يقول : @ كأن القلب ليلة قيل يغدى بليلى العامرية أو يراح قطاط غرها شرك تجا ذبه وقد علق الجناح @@ فالشاعرُ يصور حالة قلبه حين سمع بنبأ سفر حبيبته ، كأنه صار مثل حمامة تحاولُ أن تخلّص نفسها من شبكة أو مَصْيدة وقعت فيها ، إنها تجاذب المصيدة حتى تخرج ، وهي ترجف في مثل هذا الموقف ، هكذا حال القلب لحظة فراق المحبوبة عند الشاعر . وإذا كان ذكر الله عز وجل يدفع قلوب المؤمنين إلى الوجل ، ألا يتنافى ذلك مع قول الحق سبحانه وتعالى : ؟ { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] . في الحقيقة لا يوجد تعارض بين القولين لأن ذكر الله تعالى يأتي بأحوال متعددة ، فإن كان الإنسان مسرفاً على نفسه ، فهو يرجف حين يذكر الله الذي خالف منهجه . وإن كان الإنسان يراعي حق الله في كل عمل قَدْر الاستطاعة ، فلا بد أن يطمئن قلبه لحظة ذكر الله لأنه اتبع منهج الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا . إذن فالخوف أو الوجل إنما ينشأ من مَهابةِ وسطوة صفات الجلال . والاطمئنان إنما يجيء من إشراقات وحنان صفات الجمال . ولذلك تجمعهما آية واحدة هي قول الحق تبارك وتعالى : { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 23 ] . فالجلود تقشعر خوفاً ووجَلاً ومهابة من الله عز وجل ، ثم تلين اطمئناناً وطمعاً في حنان المنّان سبحانه وتعالى ، لأن ربنا قال : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [ الحجر : 49 ] . إذن فلا يقولن أحد إن هناك تعارضاً بين الوجل والاطمئنان ، فكلها من ذكر الله بالأحوال المتعددة للإنسان ، فإذا ما وجل الإنسان فهو يتجه إلى فعل الخير فيطمئن مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ } [ هود : 114 ] . وهل يزيد الإيمان أو ينقص ؟ اختلف العلماء في هذا الأمر . ونحن عندما ننظر إلى قول الحق نجده يؤكد زيادة الإيمان ، وحينما نسأل ما الإيمان ؟ وما الإسلام ؟ … إلخ نجد الجواب في توضيح الرسول صلى الله عليه وسلم ورده على السائل في الحديث الآتي والذي يرويه الصحابي الجليل سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال يا رسول الله : ما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر ، قال يا رسول الله : ما الإسلام ؟ قال : الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان . قال يا رسول الله : ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك . قال : يا رسول الله : متى الساعة ؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها ، إذا ولدت الأَمَةُ ربها فذلك من أشراطها ، وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاءُ البَهْم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلاّ الله . ثم تلا صلى الله عليه وسلم : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ردوا عليّ الرجل فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم " . وجبريل عليه السلام حين جاء يسأل ليعلم بعضاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الرسول عليه السلام عن الإيمان : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر " ، وفي رواية أخرى ذكر القضاء والقدر خيره وشره . وهذه كلها أمور غيبية ، ولا يقال في الأمر المحسّ إيمان ، فلا يقول واحد : أنا مؤمن أنى أتحرك على الأرض لأن هذا أمر حسيّ . والإيمان لا يكون إلاّ بالأمور الغيبية وأولها أن تؤمن بإله واحد لا تدركه الأبصار وهو غيب ، وبملائكته وهي غيب ، وصدقنا وجودها لأنه أبلغنا بذلك الوجود . وكذلك أن نؤمن بالكتب المنزلة على الرسل . وبالرسل ، وصحيح أن الكتاب أمر حسيّ والرسول كذلك له وجود حسيّ ، لكن لم نشاهد الوحي وهو ينزل الكتاب على الرسول . إذن فهو أمر غيبي ، وكذلك الإيمان باليوم الآخر أمر غيبي أيضاً ، والايمان بالقضاء والقدر وهو ما غابت عنا حكمته ، وكلها إذن أمور غيبية . هذا الإيمان في القمة ، لكن هناك إيمان آخر يجيء لأننا نعلم أن التشريعات لم تأتِ مرة واحدة ، بل كانت تأتي على مراحل ، فتشريع ينزل أولاً بأن نؤمن أنه من الله . إذن فالذي يزيد وينقص من الإيمان هو الإيمان بالتكليفات ، وأنها صادرة من الله عز وجل ، وكلما كانت تنزل آية بتشريع جديد كانت تزيد المؤمنين إيماناً ، فعندما نزل الأمر بالصلاة آمنوا بإقامتها واستجابوا ونفذوا ، ثم جاء الصوم فامتثلوا للأمر به ، ثم يجيء الأمر بالزكاة فتكون الطاعة والتنفيذ ، وطبعاً هناك فرق بين أن تؤمن بالشيء ، وأن تفعل الشيء . فالإيمان شيء ، وفعله شيء لأن الإسلام هو الانقياد الظاهري للمنهج ، وتطبيق كل ما يجيء به الإسلام هو إيمان مستمر متزايد لأننا آمنا بأن ما يجيء من المنهج هو من الله . إذن فالذي يزيد هو توابع الإيمان من التكليفات والامتثال لهذه التكليفات ، مثال ذلك : كلنا نعرف قول الحق : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] . لكن هناك أناس يتمسكون بحرفية قوله الحق : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 97 ] . والذين يتمسكون بحرفية القول الحق لم يتساءلوا : كفر بماذا ؟ هل كفر لأنه لم يحج ؟ لا ، إن كفره في هذه المسألة لا يكون إلا بأن ينكر أن الحج ركن من أركان الإسلام ، فالمطلوب منا إيمانياً أن نقر بالحج كركن من أركان الإسلام في حدود الاستطاعة ، فإن فعله الإنسان كان قد نفذ الحكم ، أما إن لم يفعله فقد يكون ذلك في حدود عدم الاستطاعة . ويذيل الحق تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها بقوله : { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . ومُتَعلّق الجار والمجرور دائماً يكون متأخراً ، بينما هنا يتقدم الجار والمجرور لذلك ففي الأسلوب حصر وقصر ، مثلما نقول : " لزيد المال " أي أن المال ليس لغيره ، وقول الحق : { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي لا يتوكلون على غيره ، بل قصروا توكلهم على الله سبحانه وتعالى ، والتوكل : أن تؤمن بأن لك وكيلاً يقوم لك بمهام أمورك ، بدليل أن الشيء الذي لا تقوى عليه تقول بصدده : " وكلت فلاناً ينجزه لي على خير وجه " وحتى تختار الذي توكله ويكون مناسباً لأداء تلك المهمة فأنت تعلن باطمئنان : أنك قد وكلت فلاناً . إذن معنى { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي أنهم يكلون أمورهم على من ائتمنوه على مصالحهم ، وهو الحق سبحانه وتعالى القادر العظيم الذي خلق الكون ، وخلق فيه أسباباً تؤدي إلى مسبَّبات الأسباب مقدمة ، والمسبّبات هي النتيجة . وبعد ذلك ترك أموراً ليس فيها أسباب ، إلا أن نلحظ دائماً المسبب وهو الله تعالى ، فكل أمر يعز عليك في أسبابه إياك أن تيأس من أنه لا يحدث ، بل قل : تلك هي قضية الأسباب ، أما أنا فلي رب خلق الأسباب . وهو القادر فوق كل الأسباب ، وفي حياتنا اليومية نلحظ أن الناس يخلطون بين عمل الجوارح ، وعمل القلوب ، ويظن إنسان ما أنه متوكل ولا يأخذ بالأسباب ويركن إلى الكسل ويقول : أنا متوكل على الله ، وهذا نقول له : لا ، إن هذا منك تواكلٌ وليس توكلاً لأن التوكل ليس عمل جوارح ، التوكل عمل قلوب . والمؤمن الذي يستقبل منهج الله بالفهم يجد الأسباب التي يجب أن يأخذها ، وسبحانه وتعالى هو المسبب الأعلى ، والإيمان يؤكد أن الجوارح تعمل والقلوب تتوكل ، فعلى الجوارح أن تحرث الأرض ، وأن تختار البذرة الطيبة ، وتنثرها في الأرض ، ثم ترويها ، وتتعهدها ، وهذه العمليات اسمها الأسباب ، ثم لا تركن إلى الأسباب فقط ، بل عليك أن تقول : إن فوق كل الأسباب هناك المسبِّبُ . فمن الجائز أن يخضر الزرعُ وينمو ، ثم تأتي له آفةٌ من مطر أو حر وتضيعه . ومن ينقل التوكل إلى الجوارح . نقول له : أنت تواكلت ، أي نقلت عمل القلب إلى الجوارح . ومن يقول ذلك إنما يكذب على نفسه وعلى الناس . لأنه تكاسل عن الأخذ بالأسباب وادّعى أنه متوكل على الله . ولو كان الواحد من هؤلاء صادقاً في توكله على الله لأخذ بالأسباب . وعادة فإني دائماً أقول لمن يدّعي التوكل مع الكسل : لماذا لا تترك الطعام يأتي إلى فمك ، لماذا تمد إليه يديك ؟ . إن من يكسل إنما يكذب في التوكل ، فلا أحد مثلاً يترك قطعة اللحم تقفز من طبق الطعام إلى فمه ، لكنه يأخذها بيده . ويمضغها بأسنانه ، ويبلعها بعد المضغ ، ولو كان صادقاً في أن التوكل هو ألا تعمل جوارحه لما فعل شيئاً من ذلك ، لكنه يكذب ويتواكل فيما يتعبه ويشغل جوارحه فيما يريحه ، ولا يستعملها في الأمور التي تتعبه . وقول الحق تبارك وتعالى : { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . هذا القول يعني أنهم يؤمنون بأن الأسباب من خلق الله . وحين يأخذ المؤمن بالأسباب فهو يؤمن أنه لاجىء إلى الله ومعتمد عليه ، لكن إن عزت عليه الأسباب فهو يعلم أن له رباً ، ولذلك قال : { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ } ، والرب هو الخالق من عَدَم ، والممد من عُدْم ، وما دام قد خلقك وأمدك من عُدْم قبل أن يكلفك ، فهل من المعقول أن يظلمك ؟ طبعاً لا . لكن عليك أن تفطن أنه خلق لك جوارح ، فاستعملْ الجوارح فيما خلقت من أجله . وتأتي الآية التالية لتوضح عمل الجوارح ، وهي تحمل الصفتين الرابعة والخامسة من صفات المؤمنين : { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ الأنفال : 3 ] . والقيام والقعود والقراءة والتسبيح والتكبير في الصلاة عمل جوارح ، وكذلك الزكاة هي عمل ناتج من عمل سبق ، فحتى تخرج الزكاة لا بد أن تبذل الجهد وتأخذ بالأسباب لتنتج ما يعولك أنت ودائرتك القريبة من زوجة وأبناء ثم أقارب ، ومن بعد ذلك يفيض من المال ما تستقطع منه الزكاة ، وهذه بطبيعة الحال غير زكاة الزروع التي تُخْرَج في يوم الحصاد . { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [ الأنعام : 141 ] . ودائماً ما نجد الصلاة والزكاة وهما مقترنتان ببعضهما ، ولا تجد آية فيها ذكر للصلاة إلا وفيها ذكر للزكاة أيضاً لأن الصلاة تعني ترك أمورك الحياتية التي تسعى فيها لدنيا الأسباب ، وتذهب إلى الحق سبحانه وتعالى وتقف بين يديه ، أي أنك قد اقتطعت جزءاً من الزمن الذي كنت تقضيه في حركة حياتك لتقف فيه أمام ربك خالق الأسباب . والزكاة تعني أنك تقتطع جزءاً من مالك ، ولذلك قلنا : إن الصلاة فيها زكاة وزيادة ، فأنت تخرج مقدار اثنين ونصف في المائة مما يتبقى معك من مال يبلغ نصاباً ويكون زائداً عن الحاجة الأصلية ، لكنك بالصلاة تضحي ببعض الوقت الذي تقضيه في العمل الذي يأتي لك بأصل المال ، إذن ففي الصلاة زكاة وأكثر . وأنت في الزكاة تتنازل عن بعض المال ، لكنك في الصلاة تتنازل عن الوقت الذي هو محل العمل ، وهو الذي تنتج فيه الرزق ، والرزق وعاء الزكاة . ويذيل الحق سبحانه وتعالى هذه الآية قائلاً : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ونعلم أن الرزق كما ذكر العلماء هو كل شيء ينتفع به الإنسان ، وحتى اللص الذي يسرق وينتفع بسرقته يعد هذا بالنسبة له رزقاً لكنه رزق غير طيب وله عقاب في الدنيا إن تم ضبطه ، ولن يفلت من عقاب الله الحاكم العادل في الدنيا والآخرة ، وهو بطبيعة الحال غير الرزق الحلال الذي يأتي من عمل مشروع ، والمؤمن الحق هو من ينفق من هذا الرزق الحلال سواء لمتطلبات حياته أو رعاية المجتمع الإيماني . وبعد ذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ … } .