Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 65-65)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وساعة تسمع أن فلاناً يُحَرِّضُ فلاناً ، فهذا يعني أنه يحثه ، ويثير حماسه ويغريه على أن يفعل ، وأنواع الطلب كثيرة ، فهناك طلب نسميه نداء ، أي تناديه ، وطلب نسميه أمراً أي تفعله ، وطلب نسميه نهياً ، أي لا تفعله . هذه كلها أفعال طلب يسبقها النداء . هناك مثلاً طلب أن يُقبل عليه ، وطلب آخر أن يبتعد عنه ، وطلب ثالث أن يقضي له حاجة ، كل هذا يعني أن المتكلم يعرض على السامع أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا . وهناك لون من الطلب لا يحمل الإلزام ، بل هو عَرْض فقط وهو الطلب برفق ولين كقولك لمن تعلوه : أنا لا آمرك ، بل أعرض عليك فقط . وهناك لون ثالث من الطلب تحمله كلمة " حض " وهو الطلب بشدة لأن المعروض معه دليل الإقبال عليه . فأنت حين تحض ابنك على المذاكرة مثلاً فهناك مبرر الإقبال على المذاكرة وهو النجاح . وأنت حين تحض الإنسان على فعل ، فأنت لا تنهاه أو تأمره لأنك تريد أن يقبل على الشيء بحب ، ولكن حين تأمره بقسوة قد يكره هذا الشيء . وقد تعرض على إنسان شيئاً فتجده يحب أن يفعله ولو بدون أمر منك . إذن فقول الله تعالى : { حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 65 ] . أي حثهم وحضهم وحمسهم ، والفعل يتكون من الحاء والراء والضاد ، ومنها " حرض " و " يحرض " ومادة هذه الكلمة معناها القرب من الهلاك . ونجد قول الحق تبارك وتعالى على لسان إخوة يوسف لأبيهم : { قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } [ يوسف : 85 ] . أي أنك ستستمر في ذكر يوسف حتى تقترب من الهلاك أو تهلك بالفعل . ولكن هل معنى " حرِّض " هنا يعني : قرب المؤمنين من الهلاك ؟ نقول : لا لأن ما يسمونه الإزالة ، وهي أن يأتي الفعل على صورة يزيل أصل اشتقاقه ، عندما تقول : " قشرت البرتقالة " أي أزلت قشرتها . وكذلك قولنا : " مرّض " الطبيب فلانا وليس المعنى أن الطبيب قد أحضر له المرض ، ولكن معناها أزال المرض ، إذن فهناك أفعال تأتي وفيها معنى الإزالة . ويأتي معنى الإزالة مرة بتضعيف الحرف الأوسط مثل " حرَّض " و " قشَّر " ومرة تأتي بهمزة ، فتعطي معنى الإزالة ، فإذا قلت : " أعجم الكتاب " . فمعناها أنه أزال عجمته ، ولذلك نسمي كتب اللغة " المعاجم " ، أي التي تزيل خفاء اللغة وتعطينا معاني الكلمات . ومن قبل شرحنا معنى " قسط " و " أقسط " وقسط تعني " الجور " أي الظلم مصداقاً لقوله تعالى : { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] . وأقسط أي أزال الظلم . إذن فهناك حروف حين تزداد على الكلمة تزيل المعنى الأصلي لمادتها . وهناك تشديد يزيل أصل الاشتقاق مثل " قشّر " أي أزال القشر ، و " مَرَّض " أي أزال المرض . و " حرَّض " أي أزال الحرض . ومعنى الآية الكريمة : اطلب منهم يا محمد أن يزيلوا قربهم من الهلاك بالقتال . وهذه القاعدة اللغوية تفسر لنا كثيراً من آيات القرآن الكريم . ففي قوله تعالى : { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] . الذين يأخذون بالمعنى السطحي يقولون : " أكاد أخفيها " أي أقرب من أن أسترها ولا أجعلها تظهر ، ونقول : الهمزة في قوله : " أكاد " هي همزة الإزالة ، فيكون معنى " أكاد " أي أنني أكاد أزيل خفاءها بالعلامات الصغرى والعلامات الكبرى التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها . وبعضهم قد أرهق نفسه في شرح " أكاد أخفيها " ولم ينتبهوا إلى أن إزالة الاشتقاق تأتي إما بتضعيف الحرف الأوسط ، وإما بوجود الهمزة . وقول الحق تبارك وتعالى هنا : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ } [ الأنفال : 65 ] . أي أن الله سبحانه وتعالى يطلب من رسوله صلى الله عليه وسلم تحريض المؤمنين على الجهاد وكأنه يقول له : ادع قومك إلى أن يبعدوا الدنو من الهلاك عن أنفسهم لأنهم إن لم يجاهدوا لتغلب عليهم أهل الكفر ، فأهل الكفر يعيشون في الأرض بمنهج السيطرة والغلبة والجبروت ، وحين يجاهدهم المؤمنون إنما ليوقفوهم عند حدهم . ولذلك قال الحق تبارك وتعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ } [ الأنفال : 65 ] . فكأنهم إن لم يحاربوا أهل الكفر سوف يحيط بهم الهلاك في الدنيا وفي الآخرة . والله سبحانه وتعالى يريد لهم الحياة الآمنة الكريمة في الدنيا والجنة في الآخرة . ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قد وضع معياراً إيمانياً في القتال بين المؤمن والكافر ، والمعيار هنا وضعه خالقهم ، وخالق قواهم وملكاتهم وعواطفهم . والمعيار الإيماني هو في قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الأنفال : 65 ] . إذن فالمعيار الإيماني باختصار يساوي واحداً إلى عشرة ، أي أن القوة الإيمانية تجعل من قوة المؤمن ما يعادل قوة عشرة من الكفار ، هذا هو المقياس . وهنا يأتي بعض الناس ليقول : أساليب القرآن مبنية على الإيجاز وعلى الإعجاز ، فلماذا يقول الحق سبحانه وتعالى : " عشرون يغلبوا مائتين " . ثم يقول " مائة يغلبوا ألفاً " ألم يكن من الممكن أن يقال : إن الواحد يغلب عشرة وينتهي القول ؟ . نقول : إنك لم تلاحظ واقع الإسلام لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذهب مع المؤمنين في قتالهم ويحضر معهم بعضاً من أحداث القتال التي نسميها " غزوات " . أما البعثات القتالية التي لم يخرج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يكتفي فيها بإرسال عدد من المؤمنين ، فقد كانت تسمى سرايا ، وهذه السرايا كانت لا تقل عن عشرين مقاتلاً ولا تزيد على مائة ، فذكرها الله تعالى مرة بالعشرين ومرة بالمائة . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] . ونحن نرى أن المقياس هنا ليس بعدد المقاتلين فقط ، ولكن لا بد أن يكونوا موصوفين بالصبر ، وفي آية أخرى بالصبر والمثابرة ، فمن الجائز أن يصبر عدوك فعليك حينئذ أن تصابره ، أي إن صبر قليلاً ، تصبر أنت كثيراً ، وإن تحمل مشقة القتال ، تتحمل أنت أكثر . إذن فالقوة القتالية لكي يتحقق بها ولها النصر لا بد أن تكون قوة صابرة قوية في إيمانها قادرة على تحمل شدة القتال وعنفه . ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى تعليل هذا الحكم الإيماني الذي أبلغنا به فيقول عز من قائل : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [ الأنفال : 65 ] . إذن فالسبب في أن المؤمن يغلب عشرة من الكفار ، هو أن الكفار قوم لا يفقهون ، وما داموا لا يفقهون ، يكون المقابل لهم من المؤمنين قوماً يفقهون . وهنا نقارن بين المؤمنين الذين يفقهون ، والكفار الذين لا يفقهون ونقول : إن الكافر حين يقاتل لا يعتقد في الآخرة ، وليس له إلا الدنيا ويخاف أن يفقدها ، ولذلك حين يوجد الكافر في ساحة الحرب فهو يريد أن يحافظ على حياته ولو بالفرار ، ولكن الدنيا بالنسبة للمؤمن رحلة قصيرة والشهادة هي الفوز برضوان الله ودخول الجنة بلا حساب ، ولذلك فإنه يقبل على القتال بشجاعة من يريد الاستشهاد . ونجد خالد بن الوليد يقول للفرس : أتيتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة . فلو أن الكفار فقهوا أي فهموا أن الدنيا دار ممر ومعبر للآخرة ، وأن الآخرة هي المستقر لأنها الدار الباقية ، لامتلكوا قوة دافعة للقتال ، ولكنهم يريدون هذه الحياة لأنها بالنسبة لهم هي كل شيء . ولذلك يعلمنا القرآن الكريم فيقول : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ } [ التوبة : 52 ] . أي لن يحدث لنا في هذه الحرب إلا ما هو حسن ، فإما أن ننتصر ونقهركم ونغنم أموالكم ، وإما أن نُسْتَشْهَدَ فندخل الجنة وكلاهما حسن . ويكمل الحق سبحانه وتعالى : { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } [ التوبة : 52 ] . أي أنكم أيها الكفار لن يصيبكم إلا السوء والخزي . إما عذاب شديد من عند الله بغير أسباب ، وإما عذاب بأيدينا أي بالأسباب . إذن فالكافر حين يدخل المعركة لا ينتظر إلا السوء ، إما أن يقتل ويذهب إلى جهنم - والعياذ بالله - وإما أن يصيبه الله بعذاب يدفع الخوف في قلبه أثناء المعركة . والكفار في القتال لا يعتمدون إلا على قوتهم وعددهم وعُدتِهم أما المؤمنون فيعتمدون أولاً على الله القوي العزيز ويثقون في نصره . ولذلك يقبلون على القتال ومعهم رصيد كبير من طاقة الإيمان وهي طاقة تفوق العدد والعدة ، ويكون المقاتل منهم قوياً في قتاله متحمساً له لأنه يشعر أنه مؤيد بنصر الله . ونعلم أن كل إنسان يحرص على الغاية من وجوده وغاية الكفار متاع الحياة الدنيا المحدود ، أما غاية المؤمنين فممتدة إلى الآخرة . ولذلك فالكافر يحارب بقوته فقط وهو مجرد من الإيمان . ونلاحظ أن النصوص خبرية في قوله الحق تبارك وتعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [ الأنفال : 65 ] . والنصوص الخبرية ليس فيها طلب ، ، وإن كان الطلب يخرج مخرج الخبر ليوهمك أن هذا أمر ثابت . وعندما قام بعض المتمردين من سنوات ودخلوا الحرم بأسلحتهم وحاصروا الناس فيه قال بعض السطحيين : إنَّ القرآن يقول : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] . وأن هذا خبر كوني معناه أن كل من دخل الحرم كان آمناً ، وقلنا : إن قول الحق تبارك وتعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] هذا كلام الله فمن أطاع الله فليؤمِّن من يدخل الحرم . وقد تطيعون فتؤمِّنون من يدخل الحرم وقد تعصون فلا تؤمِّنونهم . إذن فالمسألة هي حكم تطيعونه أو لا تطيعونه ، كذلك قول الحق سبحانه وتعالى : { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } [ البقرة : 228 ] . هذا كلام خبري . فإن أطاعت المطلقة الله انتظرت هذه الفترة ، وإن عصت لم تنتظر ، وكذلك قوله تعالى : { وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ } [ النور : 26 ] . وقد نرى في الكون زيجات عكس ذلك تجد رجلاً لئيماً يتزوج بامرأة طيبة وامرأة لئيمة تتزوج رجلاً طيباً ، وقد تتساءل : لماذا لم يتزوج الطيب طيبة مصداقاً لقول الحق ، ولماذا لم يتزوج الخبيث خبيثة ؟ ونقول : لقد أخطأت الفهم لقول الله تعالى ، فما قاله الله ليس خبراً كونياً ، ولكنه خبر تشريعي ومعناه : زوجوا الطيبات للطيبين ، وزوجوا الخبيثات للخبيثين ، فإن فعلتم استقامت الحياة ، وإن عصيتم لا تستقيم الحياة لأن الرجل الخبيث إن عاير امرأته وأهانها فهي ترد عليه الإهانة بالمثل ويكون التكافؤ موجوداً حتى في القبح . ولكن الشقاء في الكون إنما يأتي من زواج الطيب بالخبيثة ، والخبيث بالطيبة ، وليس معنى الآية - إذن - أنك لا تجد طيباً إلا متزوجاً من طيبة ، ولا خبيثاً إلا متزوجاً من خبيثة لأن هذا أمر تكليفي تشريعي ، فإن فعلت تكون قد أطعت ، وإن لم تفعل تكون قد عصيت . ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك : { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ … } .