Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 129-129)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولم يقل الحق لرسوله : " إن تولوا وأعرضوا فاعتقد أن حسبك الله " لا ، بل أعلنها للناس كافة حتى يسمعوها ، ولعل في إعلانك لها ما يلفتهم إلى الحقيقة لأنك إن قلتها فلن تقولها إلا وعندك رصيد إيماني بها ، وإن فعل أحدهم شيئاً ضدك فسوف يعاقبه الله . وحين تعلن : { حَسْبِيَ ٱللَّهُ } بعد أن كذبوك ، فالأحداث التي سوف تأتي بعد إعلانك { حَسْبِيَ ٱللَّهُ } ستؤكد أن حسبك في مكانه الصحيح ، ولله المثل الأعلى - أنت تقول : " حسبي نصرة فلان " لأنك تثق في قدرة فلان هذا ، ولكن القوة في الحياة أغيار ، وحين تقول : { حَسْبِيَ ٱللَّهُ } فلا إله غيره سبحانه ، ولا إله آخر يعارضه في هذا أو في غيره . وقل : { حَسْبِيَ ٱللَّهُ } برصيد { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } و { لاۤ إِلَـٰهَ } نفي ، و { إِلاَّ هُوَ } إثبات ، إذن : ففي هذا القول { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } نفي منطقي مع سلب ، وإثبات منطقي مع الإيجاب ، وهنا نفي أيِّ ألوهية لغير الله ، والاستثناء من ذلك هو الله ، ورحم الله شيخنا عبد الرحمن عزام حين ترجم عن محمد إقبال شاعر باكستان الكبير ، فقال : @ إنَّما التوحيد إيجابٌ وسلبٌ فيهما للنفسِ عزمٌ ومضاءُ @@ إيجاب في { إِلاَّ هُوَ } ، وسلب في { لاۤ إِلَـٰهَ } ، فيهما للنفس عزم ومضاء ، أي : هما للنفس قطبا الكهرباء ، فاسلب الألوهية من غير الله وأثبتها لله . والناس - كما نعلم - ثلاثة أقسام : قسم ينكر وجود إله للكون مطلقاً ، وهم الملاحدة ، وقسم ثان يقول : إن هناك الله الذي يوحده المسلمون لكن له شركاء ينفعوننا عند الله . وقسم ثالث يقول بوحدانية الله . وساعة نقول { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } نكون قد أثبتنا الألوهية لله ، وأثبتنا أن لا شريك له ، وأثبتنا ألا إله غيره ، وسبحانه يقول : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } وهذا أمر طبيعي ، ويمكن أن نعرفه بالحساب ولذلك جاء بـ { حَسْبِيَ } من الحساب . واحسبها فلن تجد إلا الله . وما دام حسبك الله ولا إله إلا هو ، فسبحانه يبسط عليك حمايته ونصرته لك ، فمن العقل أن تضع نفسك بين يدي رسولك ، الذي أبلغك البلاغ الكامل عن الله ، وأن تتوكل عليه سبحانه . وما دام سبحانه هو حسبك ولا إله إلا هو ، والواجب يفرض عليك أن تظل في مَعيَّته سبحانه ، ومعيّة الله مرحلتان : الأولى بأخذ الأسباب التي أمدّ بها خلقه ، ومعية إيمانك المطلق بأن الأسباب إن عجزت معك ، فأنت تلجأ إلى مسبِّب الأسباب الموجود وهو رب الوجود . وترى - مثلاً - الناس وهي تحتاج إلى المياه لأنها ضرورة للحياة فيذهبون إلى البئر فلا يجدون الماء رغم وجود البئر لأن المياه التي تأتي من جوف الأرض لم تعد تتسرب إليه ، ولماذا ؟ لأن المخزون من ماء المطر الذي كان يأتي من أعالي الجبال ويتسرب تحت الأرض قد نفد ، ولهذا نحتاج إلى مدد من أمطار السماء لتجري إلى المسارب تحت الأرض وتعود المياه إلى البئر . وإذا جفَّت الآبار المحيطة بنا ، هل نيأس ؟ لا لأن ربنا بيَّن لنا : ارفعوا أيديكم لربكم . إذن : فنحن إذا استنفدنا الأسباب نطلب من المسبب ، ولذلك أتحدى أن يستنفد واحد أسباب الله الممدودة إليه ، ويلجأ إلى الله فيرده . إن يد الله ممدودة لنا بالأسباب ولا يصح أن يهمل إنسان ولا يأخذ بالأسباب ، ويقول : أنا متوكل على الله ، إن على الإنسان أن يأخذ أولاً بالأسباب وأن يستنفدها ، وبعد ذلك يقول : ليس لي ملجأ إلا أنت سبحانك ، واقرأ إن شئت قول الله سبحانه : { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] . والمضطّر : هو من استنفد أسبابه ، وليس له إلا الله . لكن أن يقول إنسان : أنا أدعو الله ليل نهار وأسبِّحُه سبحانه وأقرأ سورة يس مثلاً ، ولا يستجيب الله لدعائي . ونقول لمثل هذا القائل : أنت لا تدعو عن اضطرار ولم تأخذ بالأسباب ، خذ بالأسباب التي خلقها الله ، أولاً ، ثم ادْعُ بعد ذلك . ولا تدْعُ إلا إذا استنفدت الأسباب فيجيبك المسبِّب ، وبذلك لا تفتن بالأسباب ، فحين تمتنع الأسباب تلجأ إلى الله . ولو كانت الأسباب تعطى كلها لفُتِنَ الإنسان بالأسباب ، والحق سبحانه يقول : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . لذلك نجد الحق يبيّن دائماً أن كل الأسباب بيده ، فنرى من يحرث ويبذر ويروي ويرعى ، ثم يقترب الزرع من النضج ، وبعد ذلك تأتي موجة حارة تميته ، أو ينزل سيل يجرفه . إذن : خذ بالأسباب واجعل المسبب دائماً في بالك ، وهنا يصح توكلك على الله . وكثير من الناس يخطئ في فهم كلمة " التوكُّل " ، وأقول : إن التوكل يعني أن تأخذ ، أولاً ، أسباب الله التي خلقها سبحانه في كونه ، فإن عَزّت الأسباب ولم تصل إلى نتيجة فاتجه إلى الله ، مصداقاً لقوله : { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } . ونحن ندعو أحياناً عن غير اضطرار ونهمل الأسباب ، والمثال تجده في حياتنا حين يقول الابن لأمه : " ادعي لي حتى أنجح " وتجيب الأم الأمية قائلة كلمة بسيطة هي : " ساعد الدعاء بقليل من المذاكرة " ، وهي بذلك تدل ابنها على ضرورة الأخذ بالأسباب . إذن : فمعنى التوكل ، أن تستنفد الأسباب التي مدَّتها يد الله إليك . فإذا استنفدتها إياك أن تيأس لأن لك ربّاً ، وهو سبحانه ركن شديد ترجع إليه . ومثال آخر : إذا كنت سائراً في الشارع ومعك جنيه واحد مثلاً ثم وقع منك أو سُرق ، ولا تملك في البيت أو في البنك مليماً واحداً ، هنا تغضب وتحزن ، أما إن كان في البيت عشرة جنيهات فنسبة الغضب والحزن ستكون قليلة ، وإذا كان في البيت عشرة جنيهات وفي البنك مائة جنيه فلن تحزن أو تغضب لضياع الجنيه الواحد . وهكذا تثق بالمثل عوضاً عن المثل ، أفلا تثق بواهب هذا المثل عن عوض المثل ؟ إذن : فالتوكل هو أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب . والكسالى هم من يريدون أن يكون التوكل للجوارح وليس القلوب . وكان من الممكن أن يغيّر الحق الأسلوب في الآية فيقول : توكلت عليه . بدلاً من { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } ولكن إن وفقت الفهم عن قوله الحق ، ستجد أن الإنسان إن قال : " أنا اعتمدت عليك " فقد تعطف قائلاً : " وعلى فلان وعلى فلان " . لكن قولك : عليك توكلت لا يمكن أن تعطف من بعدها ، وفيها تنزيه لله ولا أحد غيره يتوكل عليه الخلق ، مثلما تقول في الفاتحة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أي : لا نعبد غيرك ، فتكون قد قصرت العبادة عليه سبحانه . وتوكلك على الله له رصيد لأن ربك ورب الكون الذي استقبلك ، ولا تصل قدرتك إليه ، فأنت في الأرض تحرثها ، وتبذرها ، وترويها ، ثم تأخذ من عطاء الله لك فهو ربك ، ورب الكون الذي استقبلك ، وأصبح هذا الكون مسخراً لك ، وأنت لم تكن قادراً على تسخير الكون . صحيح أنك قد تُسخِّر الدابة وتربطها وتمتطيها وتحمل عليها السماد مثلاً وكل ذلك مسخر لك وفي قدرتك ، وهذا من فضل الله عليك . ويزيد فضله سبحانه ، وترى مخلوقات مُسخَّرة لك ، وليست في قدرتك فالشمس مُسخَّرة لك تشرق كل يوم بالدفء وبالحرارة ، وكذلك القمر ، والغمام ، وكل هذه مخلوقات ليس في قدرتك السيطرة عليها ، بل سخرها الله لخدمتك . وربك رب الكون الذي استقبلك سخر لك ما ليس في يدك ، وهو سبحانه رب الملكوت الذي يدير كل ذلك وأنت لا تراه ، وهو الذي يدير كل هذه الأشياء . فلا تنظر إلى ظواهر العطاء فقط ، بل انظر إلى مسبِّبات العطاء في ظواهر العطاء ، ولا تلتفت إلى ظاهرة إلا لتعرف ما وراء هذه الظاهرة . وما وراء أي ظاهرة كثير . ويقول الحق سبحانه : { وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } نعم ، هو رب الكون الذي استقبلك وسخر لك ما في يدك وما ليس في يدك ، وما وراء المرئيات من عالم الملكوت ليدير بكمال قدرته كل شيء ، وكل ما في الكون ملك لله . وله سبحانه العرش العظيم ، فما هو العرش ؟ نعرف لأول وهلة أن العرش هو السقف ، فحين تبني دوراً واحداً تصنع له السقف ليحميك من وهج الشمس والمطر ، وإن كانت الأرض رخوة فالمباني تهبط ، وبنينا السقوف حتى تحمي الجدران من عوامل التعرية . وقول الله سبحانه : { ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } معناها : استواء الأمر استواءً يدخل فيه كل مقدور ولذلك عبر سبحانه عن الملك مثلاً في ملكة سبأ على لسان الهدهد فقال : { إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] . العرش ، إذن ، رمز السيطرة ، وفي حياتنا - ولله المثل الأعلى - نجد أن الذي يأخذ الملك من واحد قبله يبدأ في تطهير الجيوب المحيطة به ويبحث عن الأنصار ليعيد ترتيب الملك بما يراه مناسباً له حتى تستقر له الأمور ، ثم يجلس بعد ذلك على العرش . إذن : فالجلوس على العرش معناه استتباب الأمر استتباباً نهائياً للمالك الأعلى . وسبحانه يقول : { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ … } [ غافر : 7 ] . وساعة تسمع كلمة " العرش " خذها على أنها رمز لاستتباب الأمر لله ، وأن كل شيء دخل في حيِّز قدرته ، وفي حيِّز { كن } ، كما يستقر الأمر للملك المحَسِّ ، فلا يجلس على العرش ، ولا يهدأ ، إلا إذا استقرت الأمور . هذا ما نراه في الأمور الدنيوية ، فما بالنا باستقرار كل الكون من الأزل لله سبحانه وتعالى ؟ يقول الحق سبحانه : { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ … } [ الأعراف : 54 ] . أي : أن الأمور قد استتبت له . وهكذا نجد أن كلمة " الْعَرْشِ " وردت في عروش الدنيا ، وفي عرش الله سبحانه ، فعروش الدنيا ترمز إلى استتباب الأمر لمن يجلس عليها ، والعرش بالنسبة لله رمز للاستتباب أمر الكون كله له سبحانه لا ينغص عليه شيء ولا يخرج من ملكه شيء . والكون كله ، بكل ما فيه مستتب لكلمة " كن " ومخلوق بها وخاضع لسلطان الحق سبحانه وتعالى . وهنا يقول الحق : { وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } ولا يوصف العرش بأنه عظيم إلا وفي أذهان الناس عروش الملوك التي نراها في حياتنا ، مثلما قال الهدهد عن ملكة سبأ : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] . أي : بمقاييس البشر . أما قوله تعالى هنا : { وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } [ التوبة : 129 ] . فهو بمقاييس رب البشر ، إنه عرش الخالق العظيم سبحانه وهو فوق التصور البشري لذلك نفهمه في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] .