Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 16-16)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ساعة تسمع " أم " فاعلم أنها إضرابية ، أي : ما كان الله سبحانه ليترككم حتى يعلم - علم الواقع - من منكم يؤمن إيماناً يؤهله للجهاد في سبيل الله فإن ظننتم أن الله تارككم بدون ابتلاء وبدون أن يختبركم ويمحصكم ، فيجب أن تعرضوا عن ذلك وتفهموا ما يقابله . إذن فالابتلاء أمر ضروري لمن أراد الله تعالى له أن يتحمل أمر الدعوة ليواجه شراسة التحلل والفساد ، لذلك يُصفِّي الله من آمنوا حتى يقف كل واحد منهم موقف الانتماء إلى الله مضحيا في سبيل الله . وساعة يقول الحق عز وجل في شيء كلمة { وَلَمَّا يَعْلَمِ } فليس معنى ذلك أنه لم يعلم وسيعلم ، لا ، فسبحانه يعلم كل شيء أزلاً ، ولكن العلم الأزلي لا يكون حجة على البشر . ودائماً أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نجد عميد إحدى الكليات أحياناً يعلن عن جائزة علمية يريد أن يعطيها للمتفوقين فيقول له المدرس الذي يشرف على تحصيل التلاميذ : إن فلاناً هو الأول وهو يستحق الجائزة ، فيقول العميد : ولكني أريد أن تعقد امتحاناً ليكون حجة على غير المتفوقين وهذا هو علم الواقع العملي الذي أراده الحق عز وجل من الابتلاء ، وسبحانه وتعالى يعلم كل شيء أزلا ، ولكن العلم الواقعي هو حجة على المخالفين . { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ … } [ التوبة : 16 ] . أي بدون ابتلاء أو تمحيص . وقوله تعالى : { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ … } [ التوبة : 16 ] . " ولمَّا " للنفي ، ومثلها مثل قولنا : " لما يأت " أي : أنه لم يتحقق المجيء حتى الآن ، وتختلف " لما " عن " لم " ، فـ " لم " لا تؤذن بتوقع ثبوت ما بعدها ، فما يأتي بعدها لن يتحقق أبداً ، أما " لما " فتؤذن بتوقع ثبوت ما بعدها ، أي أن ما بعدها … لم يتحقق إلى لحظة نطقها ، ولكنه قد يتحقق بعد ذلك . فإن قلت : " لما يثمر بستاننا " أي : أن البستان الذي تملكه لم يثمر ، ولكنه قد يثمر بعد ذلك . وسبحانه وتعالى يقول : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … } [ الحجرات : 14 ] . ومعنى القول الكريم : أن الإيمان لم يدخل في قلوبهم إلى الآن ، ولكنه سوف يدخل بعد ذلك ، وهذه بشارة لهم . فقد قالت الأعراب : " آمنا " فأوضح الحق سبحانه وتعالى : بل أسلمتم ولم يدخل الإيمان قلوبكم لأن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم ، والإسلام انقياد لما يتطلبه إيمان القلب من سلوك ، أي : أنتم قد سلكتم سلوك الإسلام ، ولكنه سلوك سطحي لم يأت من ينابيع القلب . وقول الحق هنا : { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ . . } [ التوبة : 16 ] . لا يعني أن علمه متصل بوقت الكلام ، فعلم الله تعالى موصول أزلي وسبحانه مُنزَّهٌ عن الأغيار . إذن فالعلم المراد هنا هو علم الواقع الذي سوف يكون حجة عليكم لأن الله سبحانه وتعالى لو لم يختبركم لقلتم : لو أمرتنا يا رب بالقتال لقاتلنا ، ولو أمرتنا بالصبر في الحرب لصبرنا ، وَلَكُنَّا أكبر المجاهدين . ولذلك جاءت الابتلاءات كتجربة عملية ، ومن هذه الابتلاءات مواجهة العدو في حرب ، فمن هرب ثبت له التقصير في المواجهة ، ومن لم يصبر على الابتلاءات ، عرف نقص إيمانه وأصبح ذلك علماً واقعاً . { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً … } [ التوبة : 16 ] . إذن فالله يريد بعلم الواقع التمييز بين صدق الجهاد وبين الفرار منه ، وأن يكون هناك سلوك إيماني واضح يبين أن هؤلاء القوم لم يتخذوا من دون الله ولا رسوله وليجة ، و " الوليجة " من فعيلة ، بمعنى فاعل ، و " والجة " يعني " داخلة " . { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱللَّيْلِ … } [ الحج : 61 ] . أي : يُدخْل الليل على النهار ويُدخل النهار على الليل ، والمراد بـ " الوليجة " الشيء الذي يدخل في شيء ليس منه ، وهي من الكلمات التي تطلق ويستوي فيها المفرد المذكر والمؤنث ، والمثنى والمثناة وجمع المذكر وجمع المؤنث ، وتقول : " امرأة وليجة " و " رجل وليجة " ، و " امرأتان وليجة " ، و " رجلان وليجة " ، و " نساء وليجة " و " رجال وليجة " . كما تقول : " رجل عدل " و " امرأة عدل " ، و " رجلان عدل " ، " امرأتان عدل " ، و " رجال عدل " و " نساء عدل " ، لا تختلف في كل هذه الحالات . والمراد بالوليجة هنا بطانة السوء التي تدخل على المؤمنين الضعاف ، وتتخلل نفوسهم ليفشوا أسرار المؤمنين ويبلغوها للكفار . ولذلك شاء الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ } أي : أن يعلم سبحانه علماً واقعياً من جاهدوا ، ولم يتخذوا بطانة سوء من الكفار يدخلونهم في شئونهم دخولاً يكتشفون أسرارهم . { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً … } [ التوبة : 16 ] . فالممنوع هنا - إذن - أن يتخذ المؤمنون الكفار وليجة لأن الكافر من هؤلاء سيأخذ أسرارهم ويفشيها لعدوهم . وبذلك يتعرض المؤمنون للخطر . وعلى المؤمن أن يجعل الله عز وجل هو وليجته ، وأن يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هو وليجته ، وأن يجعل المؤمنين هم وليجته ، ويسمح لهم أن يتداخلوا معه ، وهم مأمونون على ما يعرفونه من بواطن الأمور ، أما الأعداء والخصوم من الكفار فهم غير مأمونين على شيء من أسرار المؤمنين . ويذيل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله : { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ التوبة : 16 ] . والمعنى : إن كنتم تحسبون أنكم تتداخلون مع الكفار وتعطونهم أسرار المؤمنين ولا أحد يعرف ، فاعلموا أن الله تعالى يسمع ويرى ، وأن الله خبير لا تخفى عليه خافية ، فلا تخدعوا أنفسكم وتحسبوا أنكم إن أخفيتم شيئاً عن عيون الخلق قد يخفى على الله أبداً فلن يخفى شيء عن عيون الخالق لأنكم إن عمَّيتُم على قضاء الأرض ، فلن تُعمُّوا على قضاء السماء . وينقلنا الحق سبحانه وتعالى إلى قضية أخرى في قوله عز وجل : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ … } .