Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 30-30)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا الادعاء فيه مساس بجلال الله تعالى ، فالإنسان يتخذ ولداً لعدة أسباب إمَّا لأنه يريد أن يبقى ذِكْره في الدنيا بعد أن يرحل ، والله سبحانه دائم الوجود وإمَّا لكي يعينه ابنَه عندما يكبر ويضعف ، والله سبحانه وتعالى دائم القوة وإما ليرث ماله وما يملك ، والله تبارك وتعالى يرث الأرض ومن عليها . وإما ليكون عزوةً له ، والله جل جلاله عزيز دائماً . وهكذا تنتفي كل الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى هذا الادعاء . ولا يعقل أن يرسل الله سبحانه رسولاً ليبين للناس منهج الحق فإذا به يقول للناس : إنَّه ابن الله . إذن فهم لم يؤمنوا الإيمان الكامل بالله . ويسوق الحق تبارك وتعالى قول كل من اليهود والنصارى : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَٰرَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [ التوبة : 30 ] . وهكذا نجد أنهم لم ينزهوا الله وأخلُّوا بالإيمان الحق . ولا بد أن نعلم أن من قالوا : إن عُزَيْراً ابن الله ليسوا هم كل اليهود ، بل جماعة منهم فقط هي التي جعلت عُزَيْراً ابناً لله لما رأى أفرادها على يديه نعمة أفاءها الله تعالى عليه ، فقالوا : هذه نعمة عظيمة جداً لا يمكن أن يعطيها ربنا لشخص عادي ، بل أعطاها لابنه . ذلك أن اليهود بعد سيدنا موسى عليه السلام قتلوا الأنبياء ، وعاقبهم الله بأن رفع التوراة من صدور الحافظين لها ، ولكن طفلاً لم يعجبه مشهد قتل الأنبياء فخرج شارداً في الصحراء مهاجراً وهارباً ، فقابله شخص في الطريق فسأله : لماذا أنت شارد ؟ فقال : خرجْت أطلب العلم . وكان هذا الشخص هو جبريل عليه السلام ، فعلَّمه أن لله توراة ، فحفظها فصار واحداً من أربعة ، هم فقط من حفظوا التوراة : موسى ، وعيسى ، وعزير ، واليسع ، ولأن الكتب قديماً لم تكن تكتب على ورق رقيق مثل زماننا ، بل كانت تكتب على الأحجار وسعف النخيل ، لذلك كان وزن التوراة يقدر بسبعين حِمْل بعير ، وحين رجع عزير حافظاً للتوراة ، اندهش قومه وقالوا : لا بد أنه ابن الله لأن الله أعطاه التوراة وآثره على القوم جميعاً . ونشأت جماعة من اليهود تؤمن بذلك ، وكان منهم سلاَّم بن مشكم ، وشاس بن قيس ، ومالك ابن الصيف ، ونعمان بن أوفى . وحينما أنزل الله قوله : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ … } [ التوبة : 30 ] لم ينكر اليهود المعاصرون لهذا النزول تلك المسألة ولم يكذبوها ، فكأن هناك من اليهود الذين كانوا بالمدينة من كان يؤمن بذلك ، وإلا لاعترضوا على هذا القول ، وهذا دليل على أن ما جاء بالآية يصدق على بعضهم أو هم عالمون بأن قوماً منهم قد قالوا ذلك . وكذلك قالت النصارى عن عيسى عليه السلام ، فجاء قول الحق تبارك وتعالى : { وَقَالَتْ ٱلنَّصَٰرَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [ التوبة : 30 ] . ويتابع الحق : { ذٰلِكَ قَوْلُهُم } [ التوبة : 30 ] فيوضح لنا سبحانه أن البنوة لله جاءت فيها مشبهة ، كان يجب أن يلتفتوا إليها وينزهوا الله عن ذلك لأن الحق سبحانه وتعالى يصف عباده بأنهم عباد الله ، وأن الخلق كلهم خلق الله تعالى . فالمولى سبحانه وتعالى وهو الخالق والقادر على كل شيء خلق كل الخلق من عدم ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً . ولكن الشبهة عند بعض من أتباع المسيح جاءت من أنه أوجِدَ من دون أب ، ونقول لهم : لو أن هذا الأمر جاء لكم من هذا الطريق ، فكان من الأوْلى أن تجيء ذات الشبهة في خلق آدم لأن قصارى ما في المسيح أنه جاء من غير أب ، ولكن آدم جاء من غير أب ومن غير أم ، فأيهما كان أوْلى أن يكون ابن إله ؟ ولذلك يقول القرآن الكريم : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } [ آل عمران : 59 ] . والحق سبحانه وتعالى يخلق الشيء - أي شيء - بأسباب ، وكل الأَسباب مخلوقة له ، والولد منا - في جمهرة الناس - ينشأ من اجتماع الأب والأم ، والشيء المردود بين شيئين له صور منطقية أربعة : إمَّا أن يوجد بوجود شيئين ذكر وأنثى ، وإما أن يوجد بانعدام الشيئين مثل آدم ، وإما أن يوجد بوجود واحد من الشيئين وهو الذكر مثل حواء ، فقد خلقها الله من آدم مصداقاً لقوله : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 5 ] ، وإما بوجود واحد من الشيئين وهي الأنثى وخلق عيسى عليه السلام منها بدون وجود الذكر . وليعلمنا الله سبحانه وتعالى جميعاً أن الأسباب لا دخل لها في التكوين ، وأن المسبِّب هو القادر على أن يوجِد من غير أب وأم كما أوجد آدم ، وأن يوجد من أب وأم كما أوجد جمهَرة الناس ، وأن يوجد من أم دون أب كما أوجد عيسى ، وأن يوجد من دون أم كما أوجد حواء . إذن : فالقسمة دائرة بقدرة الله وإرادته ، ولا دخل لأحد إلا إرادة الحق سبحانه وتعالى ، فالأسباب ليست هي الفاعلة في ذاتها ، بل إرادة الخالق سبحانه هي الفاعلة ، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 49 - 50 ] . أي : قد يوجد الذكر والأنثى ولا يعطي لهما الحق عز وجل أولاداً ، وهذه طلاقة قدرة من الله تعالى ، فإياك أن تقول إنها بأسباب ، بل سبحانه وتعالى يَهَبُ لمن يشاء إناثاً ، ويهب لمن يشاء ذكوراً ، ويجمع لمن يشاء بين الذكور والإناث ، ويجعل من يشاء عقيماً ، وكان استقبال الناس للمواليد يختلف فالعرب كانوا يحبون إنجاب الذكر لأنه قوي ويحقق العزوة ويركب الخيل ، ويحارب الأعداء . ولم يكونوا يحبون إنجاب الفتاة لأنها قد تأتي منها الفضائح ، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ … } [ النحل : 58 - 59 ] . وجاء الإسلام ليوضح : أنه ما دام لا دخل لك في الإنجاب والإنسال ، فَدع الأمر لمن يهب الأبناء . وقد سمى الحق تبارك وتعالى الأبناء " هبة " ليذكرك أن الإنجاب شيء أعطاه سبحانه لك بلا مقابل منك ، فالذكور هبة ، والإناث أيضاً هبة . فلا تفضل تلك الهبة عن هذه الهبة . ودائماً أقول للذي ينجب بنات ، ويذهب هو وزوجته إلى الأطباء : لو استقبلتم هبة الله في الإناث كما تستقبلونها في الذكور ، فإن الحق سبحانه وتعالى يجزيكم جزاء لا يخطر لكم على البال ، فيحسن الله كل ابنة لكم في عين رجل صالح ويتزوجها ، فإن كُن عشر بنات فهُنَّ يأتين بعشرة رجال أزواج يعاملون الأب والأم لكل زوجة معاملة الأب والأم ، وهكذا يرزق الله من يرضى بقسمة الله في الإنجاب ، ويصبح أزواج البنات أطوع من الأبناء الذكور ، فالذي يرضى بالهبة في الإناث يوضح له الله : رضيتَ بهبتي فيك ولم تكن على سنة العرب من كراهة الإناث لذلك أهبك من أزواج البنات أبناء لم تتعب في تربيتهم ويكونون أكثر حناناً وولاءً من أي أبناء تنجبهم أنت . ولذلك إذا ما وجدت إنساناً قد وُفِّقَ في زيجات بناته ، من رجال يصونون أعراضهم ويحسنون معاملة أهل الزوجة ، فاعلم أن الأب قد استقبل ميلاد الأنثى بالرضا لأنها هبة الله . ويقول المولى سبحانه وتعالى : { وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 50 ] . إذن : فالعقم أيضاً هبة إلهية لأن الإنسان إذا ما استقبل العقم برضا الله لَوَجَد في كل رجل يراه ابناً له لأنه استقبل الهبة في المنع برضا ، مثله مثل من استقبل الإناث كاستقبال الذكور . إذن : ما دامت المسألة هبة من الله فيجب أن تستقبل عطاء الله ومنعه بالرضا . وعيسى عليه السلام جاء بنسبة طلاقة القدرة من الخالق سبحانه وتعالى لأن القسمة العقدية والعقلية لا تتم إلا به ، ولن تتكرر لأن آدم وُجِدَ أولاً ، ومن وجدوا بعد آدم جاء كل منهم من أبوين ، وكذلك حواء وُجِدَت من قبلهم ، فهذه ثلاث صور قد وجدت في الكون وبقيت صورة ناقصة ، هي أن يوجد إنسان من أم دون أب ، فأتمها الله عز وجل بعيسى عليه السلام : { وَقَالَتْ ٱلنَّصَٰرَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [ التوبة : 30 ] . وقول الحق { ذٰلِكَ } [ التوبة : 30 ] إشارة إلى القول بأن المسيح ابن الله أو عزير ابن الله ، ويضيف الحق عز وجل توضيحاً { قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [ التوبة : 30 ] . ونسأل : وهل يوجد قول بغير أفواه ؟ إن كل قول إنما يكون بالأفواه حتى قول المؤمنين بأن الله واحد وأن محمداً رسول الله هو قول بالأفواه . ونقول : هناك قول بالفم فقط دون أن يكون له معنى من المعاني ، وهناك قول بالفم أيضاً وله معنى ، إلا أنه غير حقيقي ، وكاذب . ولنعرف أولاً : ما هو القول ؟ إنه كلام يعبر به كل قوم عن أغراضهم كأن تقول للطفل : اجلس ، ولا بد أن يكون الطفل فاهماً لمعنى الجلوس ، وإن قلتها بالعربية لطفل إنجليزي فلن يفهم معناها . إذن : فاللغة ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ، والغرض هو معنى متفق عليه بين المتكلم والسامع ، ولا بد أن يعرف الاثنان ما يشير إليه اللفظ من موضوعات . فإن لم يعرف السامع اللفظ الذي يتكلم به المتكلم فهو لا يفهم شيئاً . وهكذا نعلم أن الفهم بين المتكلم والمخاطب يشترط فيه أن يكونا عليمين باللفظ ، فإذا تكلم متكلم بشيء لا علم للسامع به فهو لا يفهم . وكانوا يضربون لنا المثل قديماً بعلقمة النحوي وكان مشهوراً في النحو والألفاظ واللغة ، ويتقعر في استخدام الكلمات ، ولا يتكلم إلا باللغة الفصيحة الشاذة التي لا يعرفها الناس ، وكان عند علقمة خادم ، فمرض علقمة النحوي مرة وذهب إلى طبيب اسمه " أعجز " ليشكو له علة عنده ، وقال علقمة للطبيب : قد أكلت من لحوم هذه الجوازىء فقصأت منها قصأة أصابني منها وجع من الوابية إلى دأبة العنق ، ولم يزل يمني حتى خالط الخلب وأملت منه السراسيب . ولم يكن الطبيب متخصصاً في اللغة ولا معاجم عنده ، فوقف مستغرباً من كلمات علقمة وقال له : أعدْ عليَّ ما قلته فإني لم أفهم ، فأعاد علقمة عليه ما قاله بغضب ولوم لأنه لم يفهم لغته ، وعرف الطبيب تقعر علقمة فقال له : هات القلم والورقة لأكتب لك الدواء ، وكتب له : خذ حرقة وسلقة ورهرقة واغسله بماروس واشربه بماء ماء . فقال علقمة : أعِدْ عليَّ فوالله ما فهمت شيئاً ، فقال الطبيب : لعن الله أقلَّنا إفهاماً لصاحبه . وعرف علقمة أنه متقعر في اللغة ويأتي بألفاظ ليست من الألفاظ الدائرة على ألسن الناس . وقال أساتذتنا لنا : ولم يؤدبه عن هذا إلا غلامه أي خادمه ، فقد استيقظ علقمة ذات ليلة وقال : يا غلام أصعقت العتاريف ، ولأن الغلام لم يفهم فقد رد قائلاً : زقفيلا ، وقال علقمة للغلام : وما زقفيل ؟ قال : وأنت ما أصعقت العتاريف ؟ فقال له : يا بني لقد أردت أصاحت الديكة ؟ فقال : وأنا أردت لم تَصِحْ . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [ التوبة : 30 ] إذن : القول هو اللفظ الملفوظ من الفم ، وهذا القول إمَّا أن يكون له معنى ، وإما ليس له معنى . مثل كلمة " زقفيل " التي قالها خادم علقمة ، هذه الكلمة ليس لها وجود في اللغة فهي قول باللسان ليس له معنى . وقد يكون القول له معنى إلا أنه كلام باللسان لا يؤيده واقع ، فهو كذب . وقول الحق سبحانه وتعالى : { ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [ التوبة : 30 ] يحتمل الأمرين . إما أنهم يقولون كلاماً لا يقصدونه ولا يعرفون معنى ما يقولون ، والمثال : أن نقول : " كتب " ، وهي كلمة مكونة من الكاف والتاء والباء ، ويمكن أن نستخدم ذات الحروف فنقول : " كبت " وهي نفس الحروف أيضاً ولها معنى . أو نقول : " تكب " وهو لفظ غير مستعمل ، وهو كلام بالفم ولا معنى له في اللغة ، بل هو لفظ مهمل . فإذا قال إنسان كلاماً له معنى فهمناه مثل قول : " زيد كان بالأمس بالمكان الفلاني " وهنا زيد معلوم ، والمكان معلوم ، وأمس معلوم . لكن زيداً لم يذهب إلى ذلك المكان ، وبذلك يكون القول في حقيقته كذباً لم يحدث . ويكون كلاماً بالفم ، ولا واقع له في الحياة . إذن : فالقول بالفم إما أن يكون لا معنى له أبداً ، فيستعمل كلفظ مهمل لا وجود له في اللغة ، وإما أن يكون له معنى في ذاته إلا أنه ليس له واقع يؤيده . والحق سبحانه وتعالى يقول : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ الأحزاب : 4 ] . والله سبحانه يقول : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] . هذا إذن كلام لا وجود له في الواقع ، فالزوجة لا تصير أمّا لزوجها والولد المتبني لا يكون ابناً للرجل أو المرأة ، لذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] . والحق سبحانه وتعالى يقول : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَٰبَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } [ الكهف : 1 - 4 ] . أي : أن هذا القول منهم كلام له معنى في اعتقادهم ، ولكن ليس له واقع ، ولذلك قال المولى سبحانه وتعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } [ الكهف : 5 ] أي : لا واقع لهذا القول يسنده فهو كذب . { ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [ التوبة : 30 ] وهل هذا القول بالأفواه أهم ابتكروه أم ابتدعوه ؟ إن الحق سبحانه يوضح لنا : { يُضَٰهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } [ التوبة : 30 ] أي : أنهم لم يأتوا بهذا التصور من عندهم ، بل من شيء له واقع ، فقد قال المشركون ما أورده الحق على ألسنتهم : { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] . فقد توهم المشركون أن لله تعالى بنات والعياذ بالله - وسبحانه منزه عن ذلك ، في ذلك يخاطبهم المولى { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ } [ النجم : 21 ] - إذن : فهذا كلام قديم لذلك قال الحق عنهم : { يُضَٰهِئُونَ } [ التوبة : 30 ] أي : يشابهون ويماثلون الذين من قبلهم حينما قالوا مثل ذلك ، كما أن البوذية في الصين واليابان قالت ببنوة الإله والحلول وقد حفظ بعضهم من هؤلاء ، ولم يطرأ جديد من ألسنتهم ، وهم كما وصفهم القرآن الكريم { يُضَٰهِئُونَ } [ التوبة : 30 ] أي : يشابهون ويماثلون به قول الذين كفروا من قبل ، و " المضاهاة " هي المماثلة والمشابهة ، وقالوا : إن مادتها مأخوذة من امرأة " ضَهيْاء " وهي التي ضاهت وشابهت الرجل ، في عدم الحيض أو الحمل أو الولادة ، وهي بذلك تكون شبيهة بالرجل . { يُضَٰهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } [ التوبة : 30 ] والتعقيب هنا إنما يصدر من الحق تبارك وتعالى عليهم ، ولم يتركه الحق لنا ، وساعة تسمع : { ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } [ الكهف : 4 ] فالفطرة الإنسانية تفرض أن يقول السامع لهذا الكلام : قاتلهم الله كيف يقولون هذا ؟ وشاء الحق هنا أن يتحملها عنا جميعاً لأننا إن قلنا نحن : " قاتلهم الله أو لعنهم الله " فلا أحد منا يضمن استجابة الدعاء عليهم ، فالأمر قد لا يتحقق ، ولكن حين يقولها الحق سبحانه وتعالى . فتكون أمراً مقضياً . لذلك يقول الحق : { قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [ التوبة : 30 ] ، وما معنى قاتلهم الله ؟ أنت إذا رأيت فعلاً قبيحاً من فرد ، تقول : قاتله الله . لأن حياته تزيد المنكرات ، ومثال ذلك من يسب أباه ، يقول من يسمعه " قاتله الله " بينما يقول الإنسان منا لإنسان يفعل الخير : " فليعش هذا الرجل الطيب " لأنك ترى أن حياته فيها خير للناس . وقول الحق : { قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ } [ التوبة : 30 ] أي لعنهم وطردهم ، ويقول سبحانه وتعالى : { أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [ التوبة : 30 ] ، وكلمة { أَنَّىٰ } [ التوبة : 30 ] ترد بمعنيين ، فمرة تعني " من أين ؟ " ، ومرة أخرى تعني " كيف ؟ " ، والمثال على معناها الأول قول الحق سبحانه وتعالى على لسان سيدنا زكريا لما دخل على مريم البتول : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [ آل عمران : 37 ] . قال ذلك لأنه رأى عندها أشياء من الخيرات لم يأت بها إليها ، مع أنه هو الذي يكفلها ، والمفترض فيه أن يأتي لها بمقومات حياتها ، وعندما دخل عليها ووجد شيئاً هو لم يأت به ، سألها : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [ آل عمران : 37 ] أي : من أين لك هذا ؟ فأجابت مريم المصطفاة بما جاء في القرآن الكريم : { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] . وجاء الحق بهذه الكلمة لتخدم أموراً إيمانية كثيرة جداً ، وجاء بها على لسان مريم المصطفاة لأن المسألة ليست مجرد طعام يأتيها من مصدر لا يعلمه البشر حتى من هي في كفالته . بل هي تقديم لما سوف يحدث . فلا تظن أن الأمور تسير سير المسألة الحسابية بأسباب ومسببات ، وعلل ومعللات ، ومقدمات ونتائج ، بل هي بإرادة الله تعالى لأنها لو كانت من عند الإنسان لفعلها بحساب ، ولكن الحق سبحانه وتعالى يعطي بلا حساب لأنه خالق الأسباب ، وهو قادر على أن يخلق المسبَّب على الفور : { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] . وحين أنطق الحق سبحانه وتعالى مريم بهذا إنما كان ليوضح لها ولزكريا في آن واحد : إنك يا زكريا تأتي لها بالرزق في حدود قدراتك وحساباتك البشرية ، ولكن الله يأتيها بالرزق بغير حساب ، وهو ما لا تستطيع أن تأتي به قدرات البشر ، فقد يكون الرزق الذي رآه سيدنا زكريا عند سيدتنا مريم لوناً من الأطعمة لا يأتي إلا في الصيف ، بينما كان الوقت شتاء ، أو العكس ، وقد يصح أن هذا الرزق ليس في بلادهم مثله ، ولذلك قال : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } وقول الحق تبارك وتعالى : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } هو قضية تربوية اجتماعية بمعنى أن الكفيل على قوم حينما يرى عندهم أشياء لم يأتِ بها هو ، وجب عليه أن يسأل عن مصدرها ، فحينما ترى في يد ابنك قلم حبر غالي الثمن وأنت لم تحضره له ، لا بد أن تسأله : من أين جئت به ؟ وذلك لتعرف التأثيرات الخارجية عليه ، هل سرقه ؟ أم أن أحداً أراد استدراجه إلى غرض سَيِّئ فأغراه بهذا القلم ؟ لا بد إذن أن تسأل ابنك : من أين لك هذا ؟ وكذلك إن رأيت ابنتك ترتدي ثوباً لم تأتِ لها به ولا أتت به أمها بعلمك ، لا بد أن تسأل ابنتك : من أين لك هذا ؟ وهذه القضية إن سيطرت على كل بيت من بيوتنا فلن يحدث في البيوت ما يشينها ، لكننا للأسف الشديد نرى في بعض البيوت طفلاً يدخل ومعه قطعة من الشيكولاتة ، ولا تسأله الأم : من أين لك هذا ؟ بل تربت عليه وتأخذ منه قطعة من " الشيكولاته " لتأكل معه . لكن الأم التي تجيد التربية تماماً تسأل الابن : من أين أتيت بها ؟ حتى تعرف هل ثمنها مناسب لمصروف يده أم لا ، فإن لم تجد أنه قد جاء بهذه " الشيكولاتة " من مصدر معلوم لها وحلال فهي تحذره وتضرب على يده . ولا بد لنا أن نعلم أن قانون : " من أين لك هذا ؟ " يحكم العالم كله لأنه يتحكم في التربية الاجتماعية كلها . وقد سبق الإسلام العالم بأربعة عشر قرناً حين أنزل الحق تبارك وتعالى قوله : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } ، وأجابت سيدتنا مريم الإيجاب الإيماني ، وأوضحت لسيدنا زكريا عليه السلام : أنت تتكلم بحسابك ولكني أتكلم بحساب الله تعالى لأن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، أنطقها الحق ذلك لأن هذا القول سوف يخدم قضايا عقدية متعددة في الكون : القضية الأولى : أنها ساعة أن قالت : { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] . نبهت زكريا إلى قضية عقدية ، وهي أن الله سبحانه وتعالى غير محكوم بالأسباب ، وسبحانه يعطي بلا حساب ، ونظر زكريا إلى نفسه متسائلاً : ما دام الله عز وجل يعطي بغير حساب ، وأنا قد بلغت من الكبر عتياً ، وامرأتي عاقر ، فلماذا لا أطلب منه أن يعطيني الولد ؟ إذن : فقد نبهت مريم سيدنا زكريا عليه السلام ولفتت نظره إلى قضية عقدية ، وهي أن الله يعطي بلا أسباب ، وبلا حساب ، فدعا الله أن يرزقه غلاماً فلما بشره الحق بالغلام تساءل : كيف يرزق بالغلام وامرأته عاقر ، وهو قد بلغ من الكبر عتياً ؟ وجاءت الإجابة من الحق سبحانه وتعالى : { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] . وهكذا انتفع زكريا بعطاء الله بالابن ، ولم يكتَف الحق سبحانه وتعالى بذلك ، بل تكفل عن زكريا بتسميته ، ولله ملحظ في تسميته ، ونحن نعلم أن الناس تسمي الوليد الصغير بأسماء تتيمن بها ، مثل أن يسمى رجل ابنه " سعيداً " رجاء أن يكون سعيداً ، وقد يسمونه " فارساً " ، رجاء أن يكون فارساً ، ويسمونه " فضلاً " رجاء أن يكون كريماً ، ويسمون الفتاة " قمراً " لعلها تكون جميلة . إذن : فالتسمية باسم يحمل معنىً شريفاً على أمل أن يكون الوليد هكذا ، وهناك شاعر كان أولاده يموتون بعد الولادة ، فجاءه ابن وسمَّاه يحيى ، فمات هذا الابن أيضاً فقال الشاعر متحسِّراً : @ سَمَّيتُه يَحْيى لِيَحْيا فَلمْ يكُنْ لِرد قضاء اللهِ فيه سَبِيلُ @@ إذن : فالتسمية بالاسم الشريف ، أو بالاسم الذي يدل على الشيء المؤمَل هو رجاء أن يكون الوليد هكذا ، لكن المسمى لا يملك أن يكون سعيداً ، ولا أن يكون فارساً ، ولا أن يعيش لأن الذي يملك كل ذلك هو الله سبحانه وتعالى ، فإذا كان الله هو الذي سمى يحيى ، فلا بد أن يكون الأمر مختلفاً لأن الذي يملك هو الذي سمَّى ، فهل سيعيش يحيى بن زكريا كالحياة التي نحياها وفيها الموت مُحتَّم على الجميع ؟ نعم لذلك شاء له الله أن يموت لتبقى حياته موصولة إلى أن تقوم الساعة . وهكذا رأت سيدتنا مريم آثار ذلك منذ أن قال لها زكريا عليه السلام { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } وأجابت : { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] . لقد رأيت كل ذلك في سيدنا زكريا وفي ميلاد يحيى ، وجعل الله كل ذلك مقدمات لها لأنها سَتُمتحن في عِرْضها فهي التي ستنجب ولدا من غير أب ، وعليها أن تتذكر دائماً قولها : { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] . ولذلك تجد القرآن الكريم في قصصه العجيب يقول على لسان مريم : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم : 20 ] . وقد بشَّرها الحق تبارك وتعالى بذلك في سورة آل عمران : { إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَم } [ آل عمران : 45 ] . وما دام قد نسبه الله لها فلن يكون له أب ، فتساءلت : كيف يكون لي غلام من غير أب . ويُذكِّرها الحق عز وجل بهذا القول : { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] . وقال لها : { كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ … } [ مريم : 21 ] . مثلما قال لزكريا من قبل ، إذن { أَنَّىٰ } هذه هي مفتاح الموضوع العقدي كله ، في زكريا ويحيى ، وفي مريم وعيسى ، وهذا هو معنى { أَنَّىٰ } وقلنا إن " أنّى " تأتي بمعنى كيف ؟ مثل قول الحق تبارك وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [ البقرة : 260 ] . وسيدنا إبراهيم لا يُكذب أن الله قادر على الإحياء ، ولكنه يسأل عن الكيفية ، وهنا يقول الحق : { قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يعدلون عن الحق ؟ فالقضية منطقية ، وما كان يصح أن تغيب عنهم ، فكيف يُصرَفون عن هذه الحقيقة التي توجبها الفطرة الإيمانية ؟ وكيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ويعدلون إلى الباطل ؟ ويقول سبحانه بعد ذلك عن أهل الكتاب : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ … } .