Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 45-45)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم يُنزِل الله حكمه في هؤلاء فيقول : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } وهكذا أصدر الله حكمه فيمن أقدموا على الاستئذان ، فما دام الإنسان قد تردد بين أن يخرج للجهاد أو لا يخرج ، فهذا يكشف عن اهتزاز إيمانه ، وهذا الاهتزاز يعني وجود شك في نفسه ، فيما أعد الله له في الآخرة لأنه إذا كان واثقاً في داخله يقيناً أنه سيدخل الجنة بلا حساب إنْ استشهد ، ما تردد ثانية واحدة ، ولا أدار الأمر في رأسه هل يذهب أو لا يذهب ؟ فما دامت الجنة هي الغاية ، فأيُّ طريق مُوصل إليها يكون هو الطريق الذي يتبعه مَنْ في قلبه يقين الإيمان ، وكلما كان الطريق أقصر كان ذلك أدعى إلى فرح الإنسان المؤمن لأنه يريد أن ينتقل من شقاء الدنيا إلى نعيم الآخرة ، وحتى لو كان يحيا في نعيم في الدنيا ، فهو يعرف أنه نعيم زائل وهو لا يريد هذا النعيم الزائل ، بل يريد النعيم الباقي الذي لا يزول . والتردد والاستئذان هنا معناهما : أن الشك قد دخل في قلب الإنسان ، ومعنى الشك - كما نعلم - هو وجود أمرين متساويين في نفسك لا يرجح أحدهما حتى تتبعه . والنسب الكلامية والقضايا العقلية تدور بين أشياء متعددة ، فأنت حين تجزم بحكم فلا بد أن يكون له واقع يؤيده لأنك إن جزمتَ بشيء لا واقع له فهذا جهل ، والجهل - كما نعلم - أن تعتقد أن شيئاً ما هو حقيقة ، وهو غير ذلك ولا واقع له . فإذا أنت على سبيل المثال قلت : إن الأرض مبسوطة ، ثم جاءوا لك بصورة الأرض كروية وأصررت على أنها مبسوطة ، فهذا جهل وإصرار عليه . وفرق بين الجاهل والأمي ، فالأمي الذي لم يكن يعرف أن الأرض كروية ، ثم علم حقيقة العلم وصدقها فهو متى عرف الواقع صدقه وآمن به . ولكن الجاهل يؤمن بما يخالف الواقع . فإن جئت له بالحقيقة أخذ يجادل فيها مُصراً على رأيه . ولذلك نجد مصيبة الدنيا كلها ليست من الأميين ، ولكن من الجهلة لأن الأمي يحتاج إلى مجهود فكري واحد ، أن تنقل له المعلومة فيصدقها ، أما الجاهل فإقناعه يقتضي مجهودين : الجهد الأول : أن تخرج ما في عقله من معلومات خاطئة ، وأوهام ليست موجودة في الواقع ، والجهد الثاني : أن تقنعه بالحقيقة . وإذا كان هناك واقع في الحياة تستطيع أن تدلل عليه فهذا هو العلم . فإن لم تستطع التدليل عليه فهذا هو التلقين ، والمثال : أننا حين نُلقن الطفل الصغير أن الله أحد ، وهو لم يبلغ السن التي تستطيع عقلياً أن تدلل له فيها على ذلك . ولكنك قلت له : إن الله أحد ، وجزم بها الطفل ، وهذه حقيقة واقعة ، ولكنه لا يستطيع أن يدلل عليها . وهو في هذه الحالة يُقلد أباه أو أمه أو مَنْ لقنه هذا الكلام حتى ينضج عقله ويستطيع أن يدلل على ما اعتقده في صغره بالتلقين . إذن : فالعلم يقتضي أن تؤمن بقضية واقعية عليها دليل ، ولكن إن كنت لم تصل إلى مرحلة الجزم تكون في ذهنك نسبتان وليست نسبة واحدة . فإن لم ترجح نسبة على الأخرى ، فهذا هو الشك . وإن ظننتَ أنت أن إحداهما راجحة فهذا هو الظن ، فإن أخذت بالنسبة غير الراجحة فهذا هو الوهم . الحق سبحانه وتعالى يقول : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } ولو استقر في قلوبهم الإيمان اليقيني بالله واليوم الآخر ، وأن مَردَّهم إلى الله سبحانه وتعالى ، وأنهم سوف يحاسبون على ما قدموا ، واعتبروا أن تضحيتهم بالمال والنفس عمل قليل بالنسبة للجزاء الكبير الذي ينتظرهم في الآخرة ، لو كان الأمر كذلك لما استأذنوا ، ولكن ما دام الشك قد دخل قلوبهم فمعنى هذا أن هناك ريبة في أمر ملاقات الله في اليوم الآخر . وهل هذا الأمر حقيقة يقينية ؟ ولأنهم يرتابون في هذه المسألة فهل يضحون بأموالهم وأنفسهم من أجل لا شيء ، ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى : { وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } . إذن : فالارتياب محله القلب ، والعلم أيضاً محله القلب ، ويمر كل من الارتياب والعلم على العقل لأن العقل هو الذي يُصفِّي مثل تلك المسائل بعد أن يستقبل المحسَّات ويناقش المقدمات والنتائج ، فإن صفَّى العقل هذه الأمور واستقر على الإيمان ، هنا يصبح الإيمان قضية يقينية ثابتة مستقرة في القلب ، ولا تطفو مرة أخرى إلى العقل لتُناقَش من جديد ، ولذلك سمَّوْها عقيدة ، أي عقدت الشيء حتى يستقر في مكانه ولا يتزحزح . إن الطفل - مثلاً - إنْ قرَّب يده إلى شيء مشتعل فأحس بلسعة النار . هنا يعرف أن النار محرقة ولا يحاول تكرار نفس التجربة ، ولا يناقشها في عقله ليقول : لن تلسعني النار في هذه المرة ، بل تستقر في ذهنه المسألة ، وتنتقل من قضية حسية إلى قضية عقدية لا تخضع للتجربة من جديد ولا يحتاج فيها إلى دليل . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } ، وفي آية أخرى يقول سبحانه : { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } والقلب هو محل القضايا التي انتهت من مرحلة التفكير العقلي ، وصارت قضايا ثابتة لا يبحثها العقل من جديد . وقوله هنا : { وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } معناه : أن الإيمان عندهم لم يصل إلى المرتبة التي لا يطفو فيها مرة أخرى للتفكير العقلي … أيؤمن أو لا ؟ ، أي : لم يصل إلى مرتبة اليقين ، بل ما زال في مرحلة الشك الذي يعيد القضايا من القلب إلى العقل لمناقشتها من جديد ، ولذلك يصفهم الحق سبحانه وصفاً دقيقاً فيقول : { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي : أن الإيمان عندهم يتردد بين العقل والقلب ، فينزل إلى القلب ثم يطفو إلى العقل ليُناقَشَ من جديد ، ثم ينزل إلى القلب مرة أخرى ، وهكذا يتردد الأمر بين العقل والقلب ، ولا يستقر في مكان ، وهم بذلك على غير يقين من الآخرة ، وما أعدَّ الله لهم فيها من جزاء . ويشكُّون في لقاء الله في اليوم الآخر . ويدور كل ذلك في نفوسهم ، ولكنه لا يصل إلى مرتبة اليقين . ويريد الله سبحانه وتعالى أن يوضح لنا الصورة أكثر فيقول : { وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ … } .