Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 47-47)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والخبال مرض عقلي ينشأ معه اختلال موازين الفكر ، فتقول : فلان مخبول ، أي : أنه يحكم في القضايا بدون عقل ، إذن فقوله تعالى : { مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } أي : أنهم لن يكونوا إلا مصدراً لبلبلة الأفكار لو خرجوا معكم للقتال ، فلا تستطيعون اتخاذ القرار السليم . فكأنهم عين عليكم ، وضدكم وليسوا معكم ، وقد يكونون من عوامل الهزيمة التي لم يُرِدْهَا الله لكم ، وليسوا من عوامل النصر ، فكأن عدم خروجهم هو دفع لشَر ، كان سيقع لو أنهم خرجوا معكم . وشاء الحق عدم خروجهم حفاظاً على قوة المؤمنين وقدرتهم على الجهاد . وقوله تعالى : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } أي : أنهم كانوا سيُحْدثون فُرْقة بين صفوف المؤمنين ويُفرِّقونهم ، وسيتغلغلون بينهم للإفسَاد لأن الخلال هو الفُرْجة بين الشيئين أو الشخصين ، فيدخل واحد منهم بين فريق من المؤمنين فيفسد ، وآخر يفسد فريقاً آخر ، وهكذا يمشون خلال المؤمنين ليفرقوا بينهم . ولكن التساؤل : هل كانوا سيخرجون معهم أو فيهم ؟ هم كانوا سيدخلون في الفُرج بين المؤمنين ليبلبلوا أفكارهم . ونقول : إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض ، وعندما تسمع كلمة " فيكُم " اعلم أنها تغلغل ظرف ومظروف ولذلك قال الحق سبحانه وتعالَى في موضع آخر من القرآن ما يوضح لنا الظرف والمظروف ، قال الحق : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [ طه : 71 ] . هل كان فرعون سيصلب السحرة في داخل الجذوع أم على الجذوع ؟ وإن كان أهل اللغة قد قالوا : إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض . فإننا لا نرضى هذا الجواب لأننا إن رضيناه في أساليب البشر ، لا يمكن أن نقبله في أساليب كلام الله لأن هناك معنى " في " الظرفية ومعنى آخر في استخدام حرف " على " . ولو قال الحق سبحانه وتعالى : " لأصلبنكم على جذوع النخل " ، فإن لها معنى أن يكون الصَّلْب على الجذع أي : أنه صَلْبٌ عادي ، ولكن قوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } معناه : أن عملية الصَّلْب ستتم بقوة بحيث تدخل أجزاء من جسم المصلوب في المصلوب فيه ، أي : أن جنود فرعون كانوا سَيَدقُّون على أجساد السحرة حتى تدخل في جذوع النخل ، وتصبح هذه الأجساد وجذوع النخل وكأنها قطعة واحدة ، هذه صورة لقسوة الصلب وقوته . لكن إذا قلنا : على جذوع النخل لكان المعنى أخفَّ ، ولكان الصَّلْب أقل قسوة ، فكأن القرآن الكريم قد استعمل ما يعطينا دقة المعنى . بحيث إذا تغيَّر حرف اختل المعنى . ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول في موضع آخر من القرآن الكريم : { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عمران : 113 ] . أي : أن سرعتنا في العمل الصالح تنتهي بنا إلى المغفرة ، إذن : فنحن قبل أن نسرع إلى الصالح من الأعمال لم نكن في المغفرة ، وعندما نسارع نصل إليها . ثم نجد قول الحق سبحانه وتعالى أيضاً : { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ } [ الأنبياء : 90 ] . ولم يقل : يسارعون إلى الخيرات لأن عملهم الآن خير ، وهم سيسارعون فيه أي سيزيدونه إذن : إنْ سارعتَ إلى شيء كأنه لم يكن في بالك ، ولكنك ستسرع إليه ، ولكن سارعتَ في الخير ، فكأنك في الخير أولاً ثم تزيد في فعل الخير . وإذا تدبرنا قول الحق سبحانه : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } نجد أن " أوضع " تعني : أسرع بدرجة بين الإبطاء والسرعة ، فيقال : " أوضعت الدابة أي مشتْ بخُطىً غير بطيئة وغير سريعة في نفس الوقت ، ولو نظرتَ إلى حالة هؤلاء المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للقتال ، لرأيتهم وهم يزينون لهم الفساد ، ويعملون على أن تصاب عقول المقاتلين بالخبل ، ولوجدتَ أن هذا الأمر يتطلب آخر البطء وأول السرعة في الحركة ، كانوا يحتاجون إلى البطء لأنهم كانوا سيهمسون في آذان المؤمنين بتزيين الباطل وهذا يقتضي بُطئاً ، ثم ينتقل الواحد منهم إلى مؤمن ثان ليقوم معه بنفس العملية ، ولا بد أن يسرع إلى التواجد بجانب المؤمن الآخر . إذن : فالحركة هنا تحتاج إلى البطء في الوسوسة وسرعة في الانتقال من مؤمن لآخر . وهذا أدقُّ وصف ينطبق على ما كان سيحدث . ولكن ما هدف هؤلاء المنافقين من أن يضعوا الخبل في عقول المؤمنين ؟ ويُفرِّقوهم جماعات ؟ الهدف : أن ينالوا من وحدتهم وقوتهم ، ويقول الحق سبحانه وتعالى : { يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ } أي : يطلبون لكم الفتنة لأن الإنسان الشرير حين يرى خيراً يقوم به غيره ، يجد الملكات الإيمانية في أعماقه تصيبه بنوع من احتقار النفس ، فيحاول التقليل من شأن فاعل الخير بأن يسخر مما يفعله أو أن يستهزئ به ، وهذا أوضح ما يكون في مجالس الخمر ، حين يحس الجالسون في هذه المجالس بالذنب الشديد إن وُجِدَ بينهم إنسان لا يشرب الخمر ، فتجدهم يحاولون أن يُغْروه بكل طريقه لكي يرتكب نفس الإثم ، فإذا رفض أخذوا يُعيِّرونه ويستهزئون به ، ويسخرون منه ، ويدَّعُون أنه لم يبلغ مبلغ الرجال ، وغير ذلك من أساليب السخرية . وأيضاً تجد الكذاب يحاول دفع الناس إلى الكذب ، والسارق يغري الناس بالسرقة ، والمرتشي يحاول نشر الرشوة بين جميع زملائه ، فإذا وُجِدَ إنسان نزيه وسط هؤلاء الذين يرتكبون هذه الألوان من السلوك السيء فهم يضطهدونه ويسخرون منه . والمثال : حين يقوم إنسان للصلاة بين عدد من تاركي الصلاة ، تجدهم يحاولون السخرية منه ، فهذا يقول له : خذني على جناحك ، وهذا يقول له مستهزئاً : يجعلنا الله من بركاتك . ويُبيِّن لنا القرآن الكريم هذه القضية ليعطينا المناعة الإيمانية فيقول : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 29 - 36 ] . وهذه الآيات تعطينا صورة لما يحدث عندما يعمُّ الفساد في الأرض ، فالذين سخروا من المؤمنين يضحكون ضحكات ستزول حَتْماً طال الوقت أو قَصُر يتبعها عذاب في الآخرة ، أما أهل الإيمان فهم يخشون الله في الدنيا فيثيبهم الله في الآخرة ، ويضحكون ضحكة خالدة مستمرة . إذن : فقوله تعالى : { يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ } أي : إنهم من فَرْط حقدهم عليكم وعلى إيمانكم ، يحاولون أن يفتنوكم في دينكم حتى تنزلوا إلى مستواهم ، تماماً كأنماط السلوك التي بيَّناها من قبل . ثم يبيِّن الحق سبحانه وتعالى أن الصف الإيماني لن يكون في مَنَعة مما كان سيفعله هؤلاء المنافقون ، فصحيح أنهم لم يخرجوا مع المؤمنين ، ولكن هناك بين المؤمنين من كان يستمع لهم ، ويقول الحق تبارك وتعالى : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } وسمعتُ لفلان ، أي : سمعتْ أذني ما قاله ، وسمعت من فلان ، أي : لصالح شخص آخر ، أي : من يستمع منهم أو من يستمع أخباركم فهو ينقلها إليهم . إذن : فاللام تأتي بالمعنيين ، فمن المؤمنين من كان سيسمع لهؤلاء المنافقين مما يُحدث بلبلة في فكرهم ، ومن هؤلاء المبلبلين للأفكار جواسيس لهم ينقلون إليهم أخبار المؤمنين ويعملون لحسابهم ، وهناك من المؤمنين مَنْ سيسمع لهم أولاً ، فإذا أصيبوا بالخبل بدأوا في نقل أخبار المؤمنين إليهم ، وهكذا جاءت " اللام " فاصلة بين " سمعت له " أو " سمعت من غيره لصالحه " ويزيد الله سبحانه هذا الأمر إيضاحاً في قول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] . فنجد السطحي التفكير يقول : إن هذا تحذير من مخاصمة الخائنين خوفاً من ألاَّ يقدر عليهم ، أو أن يزدادوا في إثمهم بسبب هذه الخصومة . ونقول : إنك لم تفهم المعنى ، فالمعنى الواضح هو : لا تكُنْ لصالح الخائنين خصيماً ، أي : لا تترافع عن الخائنين أو تدافع عنهم . وقوله تعالى { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } لأن الذي كان سيسمع ، والذين سيسمع لصالحهم كلاهما ظالم والله عليم بهم . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ … } .