Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 72-72)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والوعد : بشارة بخير يأتي زمانه بعد الكلام . والوعيد : إنذار بسوء يأتي بعد الكلام . الوعد يشجع السامع على أن يبذل جهده ويعمل حتى يتحقق له الخير الذي وُعِد به . والوعيد يعطي السامع فرصة أن يمتنع عما يغضب الله فلا يناله عذاب الله . على أننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال : { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ } ثم ذكر العذاب الذي ينتظرهم ، وبعد ذلك قال : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } ثم وصف النعيم الذي ينتظرهم ، مع أن الشائع في اللغة أن الوعد يكون بالخير والوعيد يكون بالشر ، فكان من المناسب في عرف البشر أن يقول الحق سبحانه وتعالى : " أوعد الله المنافقين " لأن الذي سيأتي بعد ذلك عذاب ونار وشر ، وأن يقول في المؤمنين : وَعَدَ اللهُ لأن الذي سيأتي بعد ذلك جنة ونعيم وخير . ولكن الأسلوب جاء مخالفاً للعرف البشري ، فجاء بكلمة " وعد " ، وهي تقال دائماً للخير في حديثه سبحانه وتعالى عن المنافقين والمؤمنين ، واستخدام وعد بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات موافق للمنطق البشري لأنه وعد بخير . ولكن بالنسبة للمنافقين فقد جاء الحق سبحانه وتعالى بكلمة " وعد " مكان " أوعد " . فالذي يتكلم هنا هو الحق سبحانه ، فلا تَقِسْ كلام الله على كلام البشر لأن البشر يفوتهم في كلامهم ملاحظ ، ولكنها لا تفوت ولا تخفى على الله ، والبشر يتفاوتون في الأداء وأساليبه ولكن الحق أسلوبه واحد . فلماذا جاء سبحانه - إذن - بكلمة " وعد " بدلاً من " أوعد " ؟ نقول : إن الحق سبحانه وتعالى بعد أن عرَّف المنافقين والمنافقات ، ثم تكلم عن جزائهم إن إصرُّوا على نفاقهم ، كان ذلك تحذيراً حتى لا يصروا على النفاق مخافة العذاب الذي ينتظرهم عَلَّهم يقلعون عن النفاق وينصرفون إلى الخير من الإيمان . إذن : فالحق سبحانه وتعالى حين حذرهم بالوعيد نصحهم ، كما تقول لمن يهمل في دروسه : سترسب إذا أهملت دروسك . فتكون بذلك قد خدمت إقباله على المذاكرة . وأوصلته بالوعيد إلى أن يتجنب الأمر الذي أوعد به ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 35 - 36 ] . هل الشواظ من النار نعمة حتى يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : فبأي نعم ربك تكذب ؟ نقول : نعم إنه نعمة لأن الحق سبحانه وتعالى حين يوضح لك : إن خالفت هذا فستذهب إلى النار ، يكون قد قدم لك العظة والنصيحة ، والعظة والنصيحة نعمة لأنه يجعلك تتجنب طريق النار وتختار طريق الجنة . إذن : فحين يحذر الله المنافقين والمنافقات بالمصير الذي ينتظرهم ، يكون هذا خيراً ونعمة لأنهم إن اتعظوا وأقلعوا عن النفاق إلى الإيمان فهم ينجون أنفسهم من عذاب النار ، وفي هذا خير عميم . ولذلك استخدم الحق سبحانه وتعالى كلمة " وعد " ولم يستخدم " أوعد " ، وتكون الكلمة مؤدية للمعنى الذي أراده الله . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } والوعد كما قلنا بشارة بخير مستقبلي ، والوعيد إنذار بشرٍّ يأتي في المستقبل ، والوعد والإيعاد هما ميزان الوجود دنيا وآخرة لأنك إن وعدت من يلتزم بمنهج الله خيراً ، استحسن الناس جميعاً أن يصلوا إلى الخير باتباعهم المنهج ، وإن أوعدتهم بشر إن خالفوا منهج الله نفر الناس من المخالفة والمعصية خوفاً من العذاب وتجنبوا الشر . فإن صدق وعدك لأهل الخير بالخير ، وصدق وعيدك لأهل الشر بالشر استقام ميزان الحياة . ولذلك نقول للذي يذاكر : إنك ستنجح ، فإن أتقنت المذاكرة حصلت على المجموع الذي يؤهلك لدخول الكلية التي تختارها ، وإن أهملت دروسك رسبت وفُصِلْتَ من التعليم وضاع مستقبلك . هنا وعد ووعيد . إن وفَّيْتَ ما وعدت ووقيت ما توعدت ، استقام ميزان الحياة . ولكن إذا جئت لإنسان لم يذاكر وأنجحته وأعطيته أعلى الدرجات مخالفاً بذلك وعيدك له ، فأنت تهدم قضية كونية يترتب عليها مصالح الخلق كلهم . وإن وعدت من يحصل على 90 % مثلاً أنه سيدخل كلية الطب ، ثم أخلفت وعدك فدخل كلية الطب من حصل على 70 % واستُبعِدَ الحاصل على 90 % بسبب تدخل الأهواء تكون أيضاً قد اعتديت على حركة الحياة كلها وتفسد قضية العمل الجاد في حركة الحياة ، وكل من لا يملك القدرة على تنفيذ ما وعد به أو أوعد به ، لا يكون لكلامه وزن في حركة الحياة . على أنه إذا كان الوعد والوعيد من الحق سبحانه وتعالى فإنه مختلف مع منطق البشر لأننا أهل أغيار ، فقد أعد بخير لا استطيع تنفيذه ، وقد أعد بعقاب ثم أضعف بسبب ظروف معينة فلا أقوى على التنفيذ . إذن : فلكي تستقيم حركة الحياة ، لا بد أن يأتي الوعد والوعيد من القادر دائماً ، القوي دائماً ، الموجود دائماً صاحب الكلمة العليا بحيث لا يوجد شيء يمكن أن يجعله لا يفي بوعده أو لا يُتِمُّ وعيده ، فإذا قرأت سورة المسد تجد الحق سبحانه يقول فيها : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } [ المسد : 1 - 5 ] . وقد حكم الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة بأن أبا لهب وامرأته سيموتان كافرين وسيدخلان النار ، ولكن كثيراً ممن كانوا كفاراً وقت نزول هذه السورة مثل : خالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ، وعمرو بن العاص وغيرهم آمنوا وحَسُنَ إسلامهم وجاهدوا في سبيل الله ، فلماذا حكم رسول الله بأن أبا لهب وامرأته لن يؤمنا كما آمن عمرو ، وكما آمن عكرمة ، وكما آمن خالد بن الوليد وغيرهم ؟ نقول : إن هذا ليس حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه الحق سبحانه وتعالى ، وإذا حكم الله فإياك أن تشُكَّ في هذا الحكم لأنه لا إله إلا الله وهو على كل شيء قدير . لذلك جاءت هذه السورة ، وبعدها في المصحف الشريف في سورة الإخلاص : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } [ الإخلاص : 1 - 2 ] . وما دام الله أحداً فأمره نافذ حتى في الأمور الاختيارية في الحياة ، فإذا قال الله : { لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ } . وإذا وعد بخير فإنه سيأتي لا محالة ، وإذا أوعد بشرّ فسوف يقع حتماً . إذن : فلكي تستقيم موازين الحياة ، كان لا بد أن يأتي الوعد والوعيد من الحق سبحانه وتعالى حتى نكون على يقين بأنه سيحدث لأنه لا أحد يشارك الله في مُلْكه ، ولا يوجد قوي إلا الله ، ولا غالب إلا الله لأنه هو الله أحد . وقد يأتي الحق سبحانه وتعالى بسنة كونية واقعة ، فأنت حين تزرع الأرض وتُحسن حَرْثها ، وريَّها ووضع البذور فيها يأتيك المحصول بخير عميم . وإذا أهملت الأرض وتركتها بلا حرث ولا زرع ولا بذور فهي لا تعطيك شيئاً . إذن : فالسُّنة الكونية هنا أعطت وعداً للذي يجدُّ في زراعة أرضه بالمحصول الوفير ، وأعطتْ وعيداً للذي لا يُقبل على زراعة أرضه بأنه لا يحصل على ثمرة واحدة منها . ولو اختلف الأمر ووجدنا من زرع وحرث وسقي لم يحصل على الثمار ، ومن لم يزرع ولم يفعل شيئاً أعطته الأرض من ثمارها الكثير ، لانقلبت المعايير في الكون ، وما وجدنا أحداً يزرع أرضه . إذن : فلكي تستقيم سنة الحياة ، إما أن يكون الوعد والوعيد من قادر على التنفيذ لا يضعف ولا يتغير . وإما أن يكون بسنة كونية نراها أمامنا في كل يوم ولا يقع ما هو مخالف لها . فالذي يجتهد ينجح ، والذي لا يذاكر يرسب . سُنة كونية . لو صدقت مع الواقع يعتدل ميزان الحياة . ولو لم تصدق مع الواقع وتدخلت الأهواء لتجعل من لا يذاكر ينجح ومن يذاكر يرسب اختلف حركة الحياة المثمرة الناجحة . إذن : فميزان الوعد والوعيد هو دولاب حركة الحياة ، فإن اختل هذا الميزان وجاء الوعد مكان الوعيد أي كوفئ الذي لا يعمل وعوقب الذي يعمل فسد الكون . لماذا ؟ لأن كل إنسان يحب النفع لنفسه ، ولا يختلف في ذلك مؤمن أو عاصٍ أو كافر ، ولكن العاصي والكافر يحبان نفسيهما حبّاً أحمق فيحققان لها نفعاً قليلاً زمنه محدود بعذاب مستمر زمنه بلا حدود . أما المؤمن فهو إنسان يمتاز بالذكاء وبُعْد النظر لذلك فهو حرم نفسه من متعة عاجلة في زمن محدود ، ليحقق لها متعة أكبر في زمن لا ينتهي . ولقد ضربنا مثلاً لذلك - ولله المثل الأعلى - فقلنا : هَبْ أن هناك أخوين : أحدهما يستيقظ من النوم مبكراً ، فيصلي ويفطر ويأخذ كتبه ويذهب إلى المدرسة ، ويحسن الإنصات للمدرسين ويعود إلى البيت ليذاكر دروسه . والآخر يظل نائماً يتمتع بالنوم ، ويقوم عند الضحى ، فيخرج ليتسكع في الشوارع ، وحين تُحدِّثه نفسه بأي متعة فهو يحققها بصرف النظر عن منهج الله وقيم الحياة . إن كلا الأخوين يحب نفسه ، لكن الأول أحب نفسه فأعطاها مشقة محتملة في سنوات الدراسة لتعطيه راحة ومركزاً ومالاً بقية حياته ، أما الأخ الثاني فقد أحب نفسه أيضاً وأعطاها المتعة العاجلة ولكنه أضاع مستقبله كله ، فلم يَعُدْ يساوي شيئاً في المجتمع . إذن : فكل منا يحب نفسه ، ولكن مقاييس الحب هي التي تختلف . فمنا مَنْ يأخذ المقياس السليم ، فيتحمل مشقة قليلة ليأخذ نعيماً أبديّاً ، ومنا من يعطي نفسه متعة عابرة ليفقد نعيماً مقيماً . والعجيب أنك تجد أن هذه هي سنة الحياة الدنيا ، فلا تجد إنساناً ارتاح في حياته إلا إذا كان قد أجهد نفسه في سنواته الأولى ليصل إلى الراحة بقية عمره ، ولا تجد إنساناً فاشلاً عالة على المجتمع إلا إذا كان قد أخذ حظه من الحياة في أولها ليشقى بقية عمره . لذلك يقال دائماً : إنه لا يوجد من يأخذ حظه من الحياة مرتين أبداً ، فالذي يتعب في أول حياته يرتاح بقية عمره ، والذي يرتاح أول حياته يتعب بقية عمره . والمثل الشائع يقول : من جار على شبابه ، أي : ضيَّعه فيما لا يفيد جارت عليه شيخوخته . والقائمون على الأمر عليهم أن ينبهوا المقبلين على الحياة بالوعد والوعيد حتى يستقيم أمر حياتهم ، وعليهم ألا يُؤجِّلوا الوعد إلى أن تنضج الثمرة . ولا الوعيد إلى أن يحدث الشر ويقع . وعلى كل ولي أمر في أي مكان أن يراقب حركة المقبلين على الحياة من أبنائه أو من يتولى أمرهم ، فيشجع ويعد المجتهد ، ولا ينتظر حتى ينجح ، بل لا بد من الوعد لكي يتم الاجتهاد . ولا بد من الوعيد قبل أن يرسب الابن أو يضيع حياته ، فلا ننتظر حتى يفسد الإنسان ثم بعد ذلك نتوعده لأن الوعد والوعيد هما اللذان يَزِنَانِ حركة الحياة . ولكن إذا رأينا في مجتمع ما أن الذي يعمل لا يأخذ شيئاً ، والذي لا يعمل يأخذ كل شيء ، نعرف أن مقاييس العمل قد اختلت . وأن المتاعب قد بدأت في المجتمع لأن الذي يعمل حين يجد أن العمل لا يوصله إلى شيء فهو يوجه حركة حياته إلى غير عمله ، فيبذل جهده كله في النفاق والرياء ، وقَلْب الحقائق وإرضاء الذي يملك الأمر . وتكون النتيجة هي فقدان المجتمع لقيمة العمل فيصبح المجتمع بلا عمل منتج ، ويصير مجتمعاً بارعاً في النفاق والرياء وضياع الحق . وقد وضع الحق سبحانه وتعالى مقياس حركة الحياة في الوعد والوعيد فلا تُعْطِ حافزاً إلا لمستحق ، ولا مكافأة إلا لمجتهد ولكنك إذا بعثرت الحوافز على المنافقين ، والذين يحققون لك أهدافك الشخصية ، كأن يخدموك في بيتك أو يقضوا لك مصالحك الخاصة ، ومنعت الحوافز عن الذي يعمل في جد ، تكون بذلك قد أفسدت حركة الوعد والوعيد فتختل حركة الحياة في المجتمع لأن حركة كل إنسان يتقن العمل ويجيده ، هي حركة تنفع المجتمع كله ، بصرف النظر عن صاحب الحركة نفسه ، فإذا وُجد عامل نشيط أنجز مصالح عشرات الناس ، أو موظف مخلص ارتاح كل من يتعاملون معه ، فإن أضعْتَ أنت هؤلاء ، فكأن المجتمع هو الذي خسر . لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى في سورة الكهف - ومعنى الكهف مغارة في جبل ، والحقائق أيضاً لها كهوف - حين ضرب سبحانه وتعالى مثلاً عن ذي القرنين قال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } [ الكهف : 83 ] فما هو الذكر الذي يعنيه الله سبحانه وتعالى هنا ؟ بعض الناس يحاول أن يُدخلَ نفسه في متاهة بالسؤال عمَّنْ يكون ذو القرنين ، هل هو قورش ؟ أو الإسكندر الأكبر أو غيرهما ؟ نقول : إن هذا لا يعنينا ، بل ما يعنينا هو أن نلتفت إلى أن ذا القرنين هو إنسان مكَّنه الله في الأرض . وهذا ينطبق على كل إنسان مكَّنه الله في الأرض في أي زمان ، وفي أي مكان . ومهمة من يمكنه الله في الأرض ألا يكتفي بعطاء الله من الأسباب ، بل عليه أن يُولد من الأسباب قوة مصداقاً لقوله تعالى : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً } [ الكهف : 84 - 85 ] . مهمته - إذن - أن يثيب من يحسن عمله ، ويعاقب من أساء عمله ، وفي هذا يقول الحق سبحانه وتعالى : { قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [ الكهف : 86 - 88 ] . وأول ما يجب أن يهتم به كل مُمكَّن في الأرض ، بعد توليد الطاقة من الأسباب ، هو معاقبة الظالم لتستقيم الأمور بالضرب على يده . وفي هذا إصلاح لحركة الحياة في الدنيا ، أما في الآخرة فللظالم عذاب آخر ، ذلك أن الذين يعيثون فساداً في الأرض لا يمكن أن نتركهم لعذاب الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالآخرة . ولو تركناهم ولم نضرب على أيديهم لملأوا الأرض فساداً . والفساد في المجتمع لا يصيب المفسد فقط ، ولكن يكتوي به المجتمع كله . إذن : فلا بد أن نُعجِّل لهم بالعقوبة في الدنيا ، لنحمي المجتمع من الفساد ، ثم يعذبهم الله في الآخرة ، وهو سبحانه لم يؤمنوا به ، ولم يحسبوا حساب لقائه يوم القيامة ، وأما من آمن وأصلح في المجتمع وصلح المجتمع بإيمانه ، فلا بد أن نجازيه خيراً ونشجعه . هذا هو قانون صلاح الكون ، وتلك هي معاييره . وكما قلنا ، يشترط فيمن يقوم بتنفيذ الوعد والوعيد القدرة الدائمة وعدم التغيير والوجود الدائم ، فإذا كانت القدرة مطلوبة ، فلا يوجد أقدر من الله ، أما التغير فالله يُغير ولا يتغير ، وأما البقاء فلا بقاء ولا دوام لغير الله ولذلك نجد أن المؤمن الحق هو من يعلم أن وعد الله لا تمسُّه الأغيار ، أما وعد البشر فهو عُرْضة للأغيار . لذلك يطلب منك الحق أن تقول : " إن شاء الله " حين تعد بشيء لتكون صادقاً . ويقول سبحانه : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً } [ الكهف : 23 - 24 ] . وليس معنى هذا أن نمتنع عن التخطيط ووضع خطط لعام قادم أو لخمس سنوات قادمة ، ولكن قل : إن شاء الله سوف أفعل ذلك غداً ، و : إن شاء الله سأفعل كذا في العام القادم لأن الذي تَعِدُ به ، قد يأتي وقت الوفاء ولا تجد عندك القدرة على أن تفعله . فإذا قلت - مثلاً - لإنسان : سنتقابل غداً في مسجد السيدة زينب رضي الله عنها ونتكلم في موضوع كذا . هل أملك أن أعيش لغد ؟ أو يملك مَنْ وعدته أن يعيش لغد ؟ أو أملك أن يظل سبب اللقاء موجوداً ؟ يجوز أني كنت سأقابله لأقترض منه عشرة جنيهات ، وجاءني مال في أثناء الليل ، أو غيَّرت رأيي . إذن : فساعة تقول " سأفعل ذلك غداً " ، قل : " إن شاء الله " لأنك لا تملك شيئاً من أسباب الفعل . فكل فعل إنما يحتاج لفاعل وأنت لا تضمن بقاءك كفاعل . ويحتاج كل فعل إلى مفعول يقع عليه ، وأنت لا تضمن بقاء المفعول ، وكل فعل يحتاج إلى قوة ليتم ، وأنت لا تضمن بقاء قوتك فيجوز أن تمرض ولا تقدر على الحركة . كذلك يحتاج كل فعل إلى سبب كي تفعله ، وقد يتغير السبب . إذن : فأنت لا تضمن شيئاً من أسباب الفعل لذلك لا تقل سأفعل ذلك غداً لأن الذي يملك أن يبقيك لغد ، أو يُبقي السبب أو يُبقي القدرة هو الله ، إذن : فكل شيء نقوله لا بد أن نقول : " إن شاء الله " لأنه سبحانه وتعالى وحده الذي يملك عناصر الفعل . ولكن إذا كان الذي وعد هو الحق سبحانه وتعالى ، فوعده محقق التنفيذ لأنه باق لا يموت ، قادر دائماً لا تضعف قدرته ، فعَّال لما يريد . وبعد أن تكلم الحق جل جلاله عن المؤمنين والمؤمنات بأنهم أولياء بعض ، وأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويطيعون الله ورسوله ، وقد وعد سبحانه بأنه سيرحمهم . فكيف ستكون هذه الرحمة ؟ لذلك يقول سبحانه وتعالى : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } إذن : فالحق سبحانه وتعالى وعد المؤمنين والمؤمنات بالجنة ، والجنة تطلق على البستان والأماكن الجميلة تملؤها الزهور والأشجار ، وهذه عامة للمؤمنين يتمتعون بها جميعاً ، ثم يأتي قوله تعالى : { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } وهذه المساكن زيادة على هذه الجنة ، وهنا وعد من الله لكل مؤمن بجنة خاصة بمفرده يكون له فيها مسكن طيب . إذن : فعندنا جنات ، وهي لجميع المؤمنين ، ثم مساكن طيبة ، أي مسكن طيب لكل مؤمن ، وما هو الطيب في هذه المساكن ؟ لنا أن نلاحظ أن الإنسان يحب الشيوع أولاً ، ثم يحب الانكماش ثانياً ، وإذا أراد أن يملك فهو يريد أن يملك مكاناً متسعاً خاصاً به ، ثم يخصص في هذا المكان مأوى طيباً خاصّاً به . وقول الحق سبحانه وتعالى : { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أي : ليس فيها ما يسيء أو يضايق ، بل كل ما فيها يملأ النفس بالسرور والبهجة . وكلمة " جنة " هي المكان الذي فيه زروع وخضرة ، وهذه الزروع تسترك وتخفيك عن الأعين ، أو أنها تسترك فلا تحتاج إلى أن تخرج منها لأن فيها كل مقومات حياتك من طعام وشراب . والحق سبحانه وتعالى أطلق لفظ " الجنة " على بساتين الأرض ، فقال : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ … } [ البقرة : 266 ] . ويقول تعالى أيضاً : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ … } [ القلم : 17 ] . وعندما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة الجنة في الآخرة كيف بيَّنها لنا سبحانه مع أن الجنة فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ؟ نقول : الوجود المعروف في الكون هو الوجود الذي تراه أو تسمعه ، وفي هذه الحالة يكون الوجود أوسع لأنك ستسمع الذي رآه غيرك حين يقصه عليك . إذن : فالسماع أوسع من الرؤية لأنه يأخذ مجالك ومجال غيرك . فأنت إذا قلت : إنك ذهبت إلى نيويورك مثلاً تكون قد رأيت ، فإذا لم تذهب ونقل إليك أحد أصحابك صورة هذه المدينة ، تكون دائرة معلوماتك أوسع لأنك أضفت إلى علمك ما رأيته وما رآه غيرك . وأما الأشياء التي لا تخطر على بال بشر ، فهي أوسع كثيراً مما ترى وتسمع لأنها أشياء فوق الحصر . والكلمات توضع لمعانٍ معلومة ، فألفاظ اللغة لا بد أن توضع لمعانٍ مرت على العين ، أو مرت على السمع ، أو مرت على الخاطر . فقبل أنّ يخترع التليفزيون لم يكن له اسم ، إذن : فلا يمكن أن يكون هناك اسم ، إلا إذا كان هناك وجود أولاً ، ولكن قبل الوجود لا يكون هناك في اللغة ما يعبر عن شيء غير موجود . ولكن الألفاظ تضاف إلى اللغة بعد وجود الشيء . وهذه مهمة المجامع اللغوية في العالم . فالأشياء توجد أولاً ، ثم تجتمع هذه المجامع لتختار لها أسماء . ولكن الجنة في الآخرة سيكون فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، فليس عندنا ألفاظ تعبر عما في جنة الآخرة ، فإذا أضفنا إلى ذلك " ولا خطر على قلب بشر " تكون اللغة عاجزة تماماً عن أن تعبر عما في جنة الآخرة . وسبحانه وتعالى حين يريد أن يعطينا صورة عن الجنة التي وعد بها المتقين فهو يوضح : أنتم لا تستطيعون أن تأخذوا هذه الصورة من لغتكم لأن لغتكم قاصرة فأنتم لم تروا هذه الأشياء ، ولم تسمعوا عنها ولا تستطيع عقولكم أن تستوعب ما في جنة الآخرة لأن فيها ما لم يخطر على قلب بشر . ولذلك فهو سبحانه وتعالى يعطينا فقط مثلاً ليقرب لنا الصورة فلا يقول الجنة ، وإنما يقول : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ … } [ محمد : 15 ] . أي : أن هذا مثل فقط يقرب الصورة ، ولكنه ليس حقيقة ما هو موجود في الجنة . وهنا يقول سبحانه : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } و { جَنَّاتٍ } جمع " جنة " . ومادة الجيم والنون هذه مأخوذة من الستر والتغطية . اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [ الأنعام : 76 ] . يعني : ستر وأظلم ، والجنون ستر العقل . والجنة تستر من فيها لأن أشجارها كبرت ونمت وترعرعت . بحيث يكون من يسير فيها مستوراً بأغصان الشجر وأوراقه فلا يراه أحد . ويكون مستوراً في كل مطلوبات حياته . فلا يحتاج أن يخرج منها لأن فيها كل مطلوبات الحياة من الماء والطعام والمكان يجلس أو يتريض فيه ، وغيرها من النعم التي أنعم الله بها عليه . فإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين والمؤمنات جنات ، فإن المؤمنين جماعة ، والمؤمنات جماعة ، والموعود به جنات جمع ، وتقابل الجمع بالجمع يقتضي القسمة لآحاد ، فيكون المعنى : أن الله وعد كل مؤمن جنة ، ووعد كل مؤمنة جنة ، والأفراد ستتكرر . إذن : فالموعود به جنات لا بد أن تتكرر ، فإذا قسمناها عرفنا نصيب كل مؤمن ومؤمنة ، تماماً مثلما يقول الأستاذ لتلاميذه ، أخرجوا كتبكم . و " أخرجوا " أمر لجماعة ، وكتبكم جمع ، أي : أن يخرج كل تلميذ كتابه . وقول المعلم " أمسكوا أقلامكم " يعني : أن يمسك كل تلميذ قلمه . إذن : فقول الحق سبحانه { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } أي : أن لكل واحد جنة . ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الرحمن : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] . وهنا لا بد أن ننتبه لمعطيات الألفاظ في سياقها ومقامها فسورة الرحمن لا تتكلم عن الإنس فقط ، وإنما تتكلم عن الإنس والجن . فسبحانه وتعالى يقول : { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ * وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } [ الرحمن : 14 - 15 ] . وكذلك قوله جل جلاله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } [ الرحمن : 31 ] . إذن : فيكون للإنس جنة وللجن جنة لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] . من خاف مقام ربه من الإنس له جنة ، ومن خاف مقام ربه من الجن له جنة . ويمكن أن يكون المعنى أن لكل واحد جنتين لأن الحق سبحانه وتعالى علم أزلاً ما سيصير إليه أمر عباده من التقوى أو الفجور ، ولكنه تبارك وتعالى لم يخلق للمتقين جنات تكفيهم وحدهم ، أو يخلق للكفار ناراً تكفيهم وحدهم ، بل خلق لكل واحد من خلقه إلى أن تقوم الساعة جنة ، ولكل واحد من خلقه إلى أن تقوم الساعة ناراً ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة بقيت الجنات التي خلقت ولم يدخلها أحد لأن أصحابها من أهل النار ، فيقوم الحق بتوزيعها على المؤمنين أصحاب الجنة مصداقاً لقوله تعالى : { وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزخرف : 72 ] . أي : أنها لم تكن مخلوقة لكم ، ولكنكم ورثتموها لأن أصحابها من أهل النار . ونزيد الأمر هنا توضيحاً ، فالقرآن الكريم له أسلوب مميز لأن الذي يتكلم هو الله سبحانه وتعالى . ولذلك فإن كل لفظ من ألفاظ القرآن الكريم يأتي مطابقاً للمعنى تماماً . وفي اللغة ، قبل أن تتكلم لا بد أن تكون عالماً بمعنى اللفظ . وأن يكون محدثك أيضاً عارفاً معناه حتى يستطيع أن يفهمك . فإذا قلت لإنسان مثلاً : أحضر لي كوباً من الماء لأشرب ، فلا بد أن يكون عارفاً لمعنى الماء ومعنى الكوب ، وإلا فإنه لن يفهم . إذن : فبالتخاطب توجد المعاني أولاً ثم توجد لها الألفاظ ولذلك قبل أن يتم اختراع التليفزيون لم يكن المعنى موجوداً ، وعندما اخترع وفهمنا معناه وضع له الاسم . فإذا وجدت لفظاً في اللغة ، فاعلم أن المعنى قد وجد أولاً قبل أن يوضع اللفظ أو الاسم ، ولعل هذا هو أكبر دليل لغوي ضد من ينكرون وجود الواجد الأعلى . نقول لهم : إن الله موجود في كل لغة وبما أن المعنى في اللغة يوجد أولاً . فوجود الله سبحانه وتعالى سابق لمعرفتنا باسمه سبحانه وتعالى لأن الاسم لا يمكن أن يوجد إلا بعد أن يوجد المعنى ، وما دمت قد نطقت بالاسم ، فهذا دليل على أن الله موجود . إذن : فقولك : إن الله غير موجود باطل لأنك ما دمت قلت : " الله " ، ووجد لفظ الجلالة في لغتك فلا بد أن الله سبحانه وتعالى موجود قبل وجود لفظ الجلالة . والكفر طرأ على اللفظ ، فحاول أن يستره ولذلك سمى الكفر ستراً لوجود الله . والستر لا يكون إلا لموجود . إذن : فالذي كفر ، ستر موجوداً فأعطى دليل الإيمان لأنك أيها الكافر - والعياذ بالله - تعرف لفظ الله في لغتك ، ولو لم يكن الله موجوداً ما وُجد لفظ " الله " سبحانه وتعالى في اللغة . إذن : فوجود الله سابق لمعرفتنا اسم الله ، ومحاولة ستر ذلك بالكفر إنما هي دليل على وجود الله ، لأنك لا تستر إلا ما هو موجود . ولفظ الجنة في القرآن الكريم أطلق على معان كثيرة ، في قوله تعالى : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } [ القلم : 17 ] . وقوله جل جلاله : { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ … } [ الكهف : 32 ] . إذن : فالجنة أطلقت في القرآن على المكان الذي فيه زروع وثمار وأشجار ، فهو يحجب من دخله ، أو يمنع الإنسان بالخير الذي في داخله من الحاجة للخروج إلى مكان آخر لأن فيه كل مقومات الحياة . وحين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يبشرنا بشيء في الآخرة ، لا بد أن يشبهه لنا بشيء نفهم معناه في الدنيا لأن اللغة مكونة من ألفاظ وأسماء سبقتها مَعَانٍ حتى نستطيع أن نفهمها ، ولذلك إياك أن تفهم أن جنة الدنيا هي جنة الآخرة لأن الحق سبحانه وتعالى يستخدم اللفظ الذي تفهم أنت معناه . ولكن جنة الآخرة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . ولكن من أين نأتي بالألفاظ التي يمكن أن تعبر لنا عن ذلك ؟ إن اللفظ لا يوجد إلا إذا كان المعنى موجوداً أولاً ، ومن يستطيع أن يأتي بلفظ لم تره عين ، ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر ؟ مستحيل لأن المعنى غير موجود . ولذلك ينبهنا الحق سبحانه إلى هذه النقطة ، ويوضح لنا أنه يعطينا معنى تقريبيّاً حتى نستطيع أن نفهمه فيقول سبحانه وتعالى : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ … } [ محمد : 15 ] . أي : أنها ليست هي ، ولكنه مثل فقط يقرب المعنى إلى ذهنك . خذ صورة من المجتمع الذي تعيش فيه ، أنت تحتاج إلى مسكن لتسكن وتستريح فيه من عناء الحياة . وهناك من عنده مسكن من حجرة واحدة ، فإذا ترقى يكون المسكن من حجرة وصالة أو حجرتين وصالة ، ثم بعد ذلك يزداد الرقي ، فيبحث عن شقة واسعة ، فإذا ارتقى كان له مسكن خاص فيلا ، فإذا ارتقى جعل حول مسكنه حديقة ، وهكذا يزداد الرقي . إذن : فالمسألة لم تَعُدْ مكاناً تأوي إليه فقط ، بل ترتقي في الإيواء كلما ارتقيت في الحياة . فتتحقق لك المتعة في الإيواء ، وهذا موضوع آخر . ولهذا يقول الحق سبحانه : { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أي : هناك جنات وهناك مساكن لأن الإنسان يحب في بعض الأوقات أن يجلس بمفرده وحوله المتعة التي تخصه ، وفي أحيان أخرى يحب أن يجلس مع الناس في مكان جميل مثلما يحدث في الأعياد والمناسبات ، عندما نخرج إلى الحدائق والبساتين ، ونجلس معاً ، فكأن الجنات هي للرفاهية الزائدة عندما تحب أن تجتمع مع الناس أتمتع بها أنا وأنت وغيرنا . أما المساكن فهي للخصوصية . فيكون لكل واحد مكان خاص يجلس فيه ويتمتع بما حوله . إذن : فالجنات صورة من البساتين ، ولكنها ليست مصنوعة بالأسباب ، بل هي من صناعة المسبب جل وعلا . ونحن حينما نذهب إلى بيت إنسان ثري ، قد نجد أن للبيت حديقة يشرف عليها بستاني متمكن من عمله ويقوم بتنسيق الزهور والأشجار بشكل يناسب ثراء المالك . ويكون إعجابنا في هذه الحالة بالحديقة إعجاباً كبيراً ، بحيث نجلس فيها ، ونكره أن نغادرها ، فإذا كان هذا هو ما يحدث بقدرات البشر ، فكيف بهذه الحقائق التي صُنعت بقدرة الله سبحانه وتعالى ؟ وكيف يكون جمالها وحلاوتها والمتعة فيها ؟ إن الذي وعدنا بهذه الجنات هو الحق سبحانه وتعالى . وهو قادر على أن ينفذ ما وعدنا به ، من جنات فيها من الكماليات والرفاهية مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وجعل هذه الجنات واسعة شاسعة ، فيها زروع وأزهار وأشكال تسرُّ العين بجمالها ، وتمتع اللمس بنعومتها وتملأ الأنوف برائحتها الزكية . ومن ميزات جمالها أن الأنهار تجري من خلالها ، ولكنها لا تجري من فوقها بل تجري من تحتها ، ومنابعها من مكان آخر ، أو تحتها ، ومنابعها ذاتية ، أي ينبع من نفس المكان . وكأن كل نهر ينبع من تحت جنة خاصة به . وإذا أردت أن تعرف جمال هذه الأنهار فهو جمال قد صنعه الحق سبحانه وتعالى . وإذا كنا في حياتنا نرى أن لكل نهر شاطئين ، فإن أنهار الجنة تجري من غير شواطئ وإنما يمسكها الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض ، ثم تجد الأنهار قد تشترك في المجرى نهر اللبن ، ونهر العسل ، ونهر الماء ، ونهر الخمر ، وكلها تجري في مجرى واحد ولكنها لا تختلط ببعضها البعض ، فكل منها منفصل لأن الحق سبحانه وتعالى هو الصانع وتبارك من صنع . ويعطينا سبحانه وتعالى بعد كل ذلك ، ميزة الخلود في هذه الجنات فيقول : { خَالِدِينَ فِيهَا } ونحن نعلم أن المتعة في الدنيا قد توجد للإنسان ، ولكنها لا توجد خالدة أبداً فقد تزول عنك النعمة وتذهب المتعة كأن تصاب بكارثة مالية مثلاً أو تخسر خسارة كبيرة في تجارتك أو غير ذلك ، وقد تزول أنت عن النعمة بالموت . ولكنك في جنات الآخرة تستمتع بقدر ما فيها من كمال وجمال ، ويزيدك الله فيها بأن يعطيك الخلود ، فلا تفارق النعمة ولا تفارقك لأنه ليس هناك أغيار ، وليس هناك موت . وكل إنسان في الدنيا يتمتع على قدر قدراته ، وتصورات الخلق لأنواع النعيم تختلف باختلاف بيئاتها ومقاماتها ، فقد تكون من الفلاحين وكل متعتك أن تجلس على مصطبة أمام بيتك ، وقد يكون عند إنسان آخر بيت فيه صالون كبير ، والثالث له بيت فيه عدة صالونات ، فكل واحد على قدر إمكاناته في الدنيا ، ولكننا في الآخرة نتمتع كلنا على قدر قدرات الحق سبحانه وتعالى ، ويكون متاعنا بقدرة لا تفوقها قدرة ، ويكون الجزاء بقدر ما فعلْتَ من خير في الدنيا ، واتبعت منهج الله . إذن : فأنت الذي تحدد المساحة التي لك في الجنة ، وتحدد المسكن وأنواع النعيم بقدر عملك . ثم ما الذي يهددك في نعيم الدنيا ؟ الذي يهدد الناس في الدنيا أحد شيئين : إما أن تزول عنهم النعمة فيفتقروا ، وإما أن يزولوا هم عن النعمة بالموت . ولكن نعمة الآخرة ليس فيها هذا التهديد . إنها النعمة الخالدة وأهل الجنة فيها خالدون . لذلك يقال : يا أهل الجنة ، خلود بلا موت ونعيم بلا بؤس . ولقد زاد الحق تبارك وتعالى في وصف الخلود فقال : { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } والخلود بقاء طويل جداً ، والأبدية لا تنتهي . وسبحانه حين تكلم عن الخلود استثنى فيه ، فقال سبحانه وتعالى : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ … } [ هود : 108 ] . أيُّ سماء وأيُّ أرض تلك التي تحدَّث عنها الحق سبحانه وتعالى ؟ هل هي السماء التي نراها ؟ إننا نعلم أن الأرض التي نعيش عليها ستبدل وأن السماوات ستمور . ولكن الحق سبحانه وتعالى حين يتحدث عن السماوات والأرض بالنسبة للآخرة . فهو يتحدث عن السماوات والأرض المبدلتين مصداقاً لقوله تبارك وتعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ] . إذن : فما دامت السماوات والأرض ستتبدل ، فالله سبحانه وتعالى يحدثنا عن السماوات والأرض في الآخرة غير حديثه عن السماوات والأرض في الدنيا . ولكن بعض السطحيين يقول : إن القرآن يتحدث عن بقاء المؤمنين في الجنة ما دامت السماوات والأرض ثم يقول : { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ * وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ } [ التكوير : 1 - 3 ] . فكأن هذه الأرض التي نعيش فيها ، والسماء التي تظلنا ستُدمَّر يوم القيامة ، فلماذا يقول الحق : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَاتُ وَٱلأَرْضُ … } [ هود : 108 ] . فأين هو الخلود إذن ؟ نقول لهؤلاء : اقرأوا القرآن كله لتعرفوا أن الحق سبحانه وتعالى قال : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَاتُ … } [ إبراهيم : 48 ] . إذن : فهذه الأرض هي أرض معاش وما فوقها من سماء هي سماء معاش ستتبدل بأرض مَعَاد لأن الأرض التي نعيش عليها فيها مقومات الحياة بالأسباب ، تزرع وتحصد وتصنع ، أما في الآخرة فحياتك كلها بدون أسباب منك ولذلك ساعة يخطر الشيء على بالك تجده أمامك دون أن تتحرك أو تحرث أو تزرع أو تتحمل أي مشقة . أما هنا في هذه الدنيا ، الأرض أرض المعاش تنعم فيها وتأخذ منها بقدر إمكاناتك ، ولكن أرض المعاد تأخذ منها بإمكانات الحق سبحانه وتعالى . ومهما ارتقت الدنيا وارتقت أسبابها ، لا يمكن أن تصل إلى أنك يخطر على بالك الشيء فتجده أمامك . وسبحانه يقول : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } فكأنه استثنى بعض الناس من الخلود . { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ … } [ هود : 106 - 107 ] . أي : أن الجنة والنار لهما خطان ، وبمجرد أن يحاسب الإنسان ، إما إلى الجنة وإما إلى النار ، فإن كان الذي يحاسب من الكفار أو المنافقين ، يكون بدء خلوده من أول لحظة دخل فيها النار ويبقى فيها خالداً . وأما إن كان الذي يُحاسب مؤمناً عاصياً ، فهو يدخل النار على قدر ما عمل من السيئات ، ثم بعد ذلك يدخل الجنة . إذن : فالذي دخل النار أولاً حالتان : حالة أبدية وهم المنافقون والكفار ، وحالة مؤقتة وهم عصاة المؤمنين ، والخلود في النار بالنسبة لعصاة المؤمنين ناقص من الآخر ، أما الذين عملوا الصالحات فهم يدخلون الجنة ابتداء وخلوداً ، أما عصاة المؤمنين فلا يدخلون الجنة إلا بعد أن ينالوا جزاءهم من العقاب . وبذلك يكون خلود عصاة المؤمنين في الجنة ناقصاً من البداية لأنهم لم يدخلوها بعد الحساب مباشرة ، وخلودهم في النار ناقص من الآخر لأنهم لم يخلدوا فيها : ويقول سبحانه : { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : أن مساكن المؤمنين في الجنة ستكون أيضاً جنات خاصة بها ، وكلمة { عَدْنٍ } مادتها العين والدال والنون معناها الإقامة . و " عَدَنَ في المكان " ، أي أقام فيه . إذن : فهي جنات إقامة لأن هناك فارقاً بين أن تسكن في فندق مثلاً ، أو في مكان مؤقت ، وبين أن تقيم خالداً . وحين يعطي الحق سبحانه للمؤمن بُشْرى بأشياء ، فهو يريد دائماً ألا ننسى أنها منسوبة إلى قدرته سبحانه ، والشيء يتناسب مع قدرة صاحبه أو فاعله . فالرجل الفقير حين يبني مسكناً يكون المسكن متواضعاً مجرد حوائط تستر الإنسان ، أما صاحب الإمكانات الضخمة فيبني قصراً كبيراً ، فإن كان واجد الوجود الأعلى هو الذي صنع ، فكل شيء إنما يتم على مقتضى قدرته وإمكاناته فهو الذي يمسك الأمور كلها ، ويأتي تنفيذه لأي شيء وفق ما يريد . إذن : فالخلود في جنات عدن خلود دائم ، وهي جنات يعلو فيها التنعيم لدرجة من علوها لا يحب الإنسان أن يتركها أبداً لأنها أعلى مراتب الجنة ولا يوجد أحسن منها . والإنسان حينما يكون بمكان فإنه لا ينتقل منه إلا إذا زهد ما فيه ، فلو كان ما في جنات عدن مما يُزْهَدُ فيه بعد فترة ما وصفها الله بهذا الوصف . ولكي يصل الإنسان إلى النعيم لا بد من موجد لهذا النعيم وهو الله سبحانه وتعالى ، وما يتمتع الإنسان به وهو الجنة ، والمنْعَمُ عليهم بالنعمة ، وهم المؤمنون والمؤمنات . ومن أطاع الله طمعاً في الحصول على نعيم الله في الآخرة ، يأخذ هذا النعيم . والذي أطاع الله لذات الله ، ولأنه سبحانه وتعالى يستحق أن يعبد لذاته ويطاع ، يكون في الآخرة مع التعظيم والتكريم والمحبة واللقاء بالمُنْعِم . إذن : فكل إنسان لما عمل له ، فإذا زادت عبادتك عما فرض الله عليك ، وأحببت أن تكون دائماً في لقاء مع الله ، بأن تقوم الليل وتتهجد ، وتقرأ القرآن وتصلي والناس نيام ، وتتقن العمل الذي ترتقي به حياتك وحياة غيرك ، وتفعل ذلك محبة في الله الذي يستحق التعظيم ، فأنت تستحق المنزلة الأعلى ، وهي أن تكون في معيَّة الله . ويقول سبحانه : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] . والحق سبحانه وتعالى يتجلى على أهل الجنة فترات ، ويتجلى على أهل محبوبية ذاته دائماً ، وعندما يتجلى الحق سبحانه على أهل الجنة ويقول : " يا أهل الجنة . فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا مالم تعط أحداً من خلقك . فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " . ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن تحدث عن المتعة والنعيم والجنات التي تجري من تحتها الأنهار ، والمساكن الطيبة التي في جنات عدن . أوضح سبحانه أن هناك شيئاً أكبر من هذا كله ، وهو رضوان الله في قوله تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } فالذي عمل للجنة يعطيه الله الجنة ، والذي عمل لذات الله يعيش في معية الله سبحانه . ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله : { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } فما هو المقصود بالفوز العظيم ؟ لقد تقدمت أشياء كثيرة تقدمت جنات تجري من تحتها الأنهار ، وجنات عدن ، ومساكن طيبة ، ورضوان الله ، فأيها هو الفوز العظيم ؟ نقول : كلها فوز عظيم ، فالذي فاز بالنعيم الأول في الجنة أخذ فوزاً عظيماً ، والذي فاز بالمساكن الطيبة في جنات عدن أخذ فوزاً عظيماً ، والذي أخذ رضوان الله يكون قد أخذ الفوز الكبير والعظيم . ونلحظ أن القرآن حين يعرض منهج الله ، فهو لا يتحدث عن الجزاء في باب منفصل ، والمنهج في باب منفصل ، بل يجمع بين المنهج والجزاء وبين الوعد والوعيد لأنه ساعة يصف لي الجنة وما فيها من نعيم ، لابد أن ينبهني إلى المنهج الذي يوصلني إليها . وحين يعطيني صورة من المنزلة العالية التي تنتظر المؤمن في الآخرة ، لا بد أن ينبهني - أيضاً - إلى العذاب الذي ينتظر المنافق والكافر حتى أتجنب الطريق الذي يؤدي بي إلى النار والعياذ بالله . ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى بعد أن حدثنا عن جنته ورضوانه يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ … } .