Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 2-2)
Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { قَيِّماً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه حالٌ من " الكتاب " . والجملةُ مِنْ قولِه " ولم يَجْعَلْ " اعتراضٌ بينهما . وقد مَنَع الزمخشريُّ ذلك فقال : " فإنْ قُلْتَ : بم انتصَبَ " قَيِّماً " ؟ قلت : الأحسنُ أن ينتصِبَ بمضمرٍ ، ولم يُجْعَلْ حالاً من " الكتابَ " لأنَّ قولَه " ولم يَجْعَلْ " معطوفٌ على " أَنْزَلَ " فهو داخلٌ في حَيِّزِ الصلةِ ، فجاعِلُه حالاً فاصِلٌ بين الحالِ وذي الحالِ ببعضِ الصلةِ " . وكذلك قال أبو البقاء . وجوابُ هذا ما تقدَّمَ مِنْ أَنَّ الجملةَ اعتراضٌ لا معطوفةٌ على الصلةِِ . الثاني : أنَّه حالٌ مِنَ الهاءِ في " له " . قال أبو البقاء : " والحالُ موكِّدةٌ . وقيل : منتقلةٌ " . قلت : القولُ بالانتقالِ لا يَصِحُّ . الثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، تقديرُه : جَعَلَهُ قيِّماً . قال الزمخشريُّ : " تقديرُه : ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً ، جعله قيماً ، لأنه إذا نفى عنه العِوَج فقد أثبتَ له الاستقامةَ " . قال : " فإنْ قلتَ : ما فائدة الجمعِ بين نَفْيِ العِوَجِ وإثباتِ الاستقامةِ وفي أحدِهما غِنَىً عن الآخر ؟ . قلت : فائدتُه التأكيدُ فَرُبَّ مستقيمٍ مشهودٌ له بالاستقامةِ ، ولا يَخْلو مِنْ أدنى عِوَجٍ عند السَّبْرِ والتصفُّح " . الرابع : أنَّه حالٌ ثانيةٌ ، والجملةُ المنفيَّةُ قبلَه حالٌ أيضاًً ، وتعدُّدُ الحالِ لذي حالٍ واحدٍ جائزٌ . والتقديرُ : أنزلَه غيرَ جاعلٍ له عِوجاً قيِّماً . الخامس : أنه حالٌ أيضاً ، ولكنه بدلٌ من الجملةِ قبلَه لأنَّها حال ، وإبدالُ المفردِ من الجملةِ إذا كانت بتقدير مفردٍ جائزٌ . والتقديرُ : وهذا كنا أُبْدِلَتِ الجملةُ من المفردِ في قولهم : " عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو " . والضميرُ في " له " فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه للكتاب ، وعليه التخاريجُ المتقدمةُ . والثاني : أنَّه يعود على " عبدِه " ، وليس بواضحٍ . وقرأ العامَّةُ بتشديد الياء . وأبانُ بنُ تَغْلبَ بفتحِها خفيفةً . وقد تَقَدَّم القولُ فيها . ووقف حفصٌ على تنوينِ " عِوَجاً " يُبْدله ألفاً ، [ ويسكت ] سكتةً لطيفةً من غير قَطْع نَفَسٍ ، إشْعاراً بأنَّ " قَيِّماً " ليس متصلاً بـ " عِوَجاً " ، وإنما هو مِنْ صفةِ الكتاب . وغيرُه لم يَعْبَأْ بهذا الوهمِ فلم يسكتْ اتِّكالاً على فَهْمِ المعنى . قلت : قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعضِ مصاحفِ الصحابةِ : " ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً ، لكنْ جَعَلَه قيَّماً " . وبعض القراء يُطْلِقُ فيقول : يَقِف على " عِوَجا " ، ولم يقولوا : يُبدل التنوين ألفاً ، فيُحْتمل ذلك ، وهو أقربُ لغرضِه فيما ذكرْتُ . ورَأيْتُ الشيْخَ شهابَ الدين أبا شامة قد نقل هذا عن ابنِ غلبون وأبي علي الأهوازيِّ ، أعني الإِطلاقَ . ثم قال : " وفي ذلك نَظَرٌ - أي على إبدالِ التنوين ألفاً - فإنه لو وَقَفَ على التنوين لكان أَدَلَّ على غرضِه ، وهو أنه واقفٌ بنيَّةِ الوصلِ " . انتهى . وقال الأهوازيُّ : " ليس هو وَقْفاً مختاراً ، لأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً ، معناه : أَنْزَلَ على عبدِه الكتاب قيِّماً ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً " . قلت : دَعْوى التقديمِ والتأخيرِ وإنْ كان قاله به غيرُه ، إلا أنها مَرْدودةٌ بأنَّها على خلافِ الأصل ، وقد تقدَّم تحقيقُه . وفَعَلَ حفص في مواضعَ من القرآن مثلَ فِعْلِهِ هنا مِنْ سكتةٍ لطيفةٍ نافيةٍ لوَهْمٍ مُخِلٍّ . فمنها : أَنَّه كان يقفُ على " مَرْقَدِنا " ، ويَبْتدئ : { هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ } [ يس : 52 ] . قال : " لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ " هذا " صفةٌ لـ " مَرْقَدِنا " فالوقفُ يبيَِّن أنَّ كلامَ الكفارِ انقَضى ، ثم ابتُدِئ بكلامِ / غيرِهم . قيل : هم الملائكةُ . وقيل : هم المؤمنون . وسيأتي في يس ما يَقْتضي أنْ يكونَ " هذا " صفةً لـ " مَرْقَدِنا " فيفوتُ ذلك . ومنها : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [ القيامة : 27 ] . كان يقف على نونِ " مَنْ " ويَبْتَدِئ " راقٍ " قال : لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّها كلمةٌ واحدةٌ على فَعَّال اسمَ فاعلٍ للمبالغة مِنْ مَرَق يَمْرُق فهو مَرَّاق . ومنها : { بَلْ رَانَ } [ المطففين : 14 ] كان يقفُ على لام بل ، ويَبْتدئ " رانَ " لِما تقدَّم . قال المهدويُّ : " وكان يَلْزَمُ حفصاً مثلُ ذلك ، فيما شاكَلَ هذه المواضِعَ ، وهو لا يَفعلُه ، فلم يكن لقراءتِه وَجْهٌ من الاحتجاجِ إلا اتباعُ الأثَرِ في الرواية " . قال أبو شامة : " أَوْلَى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها : " ولا يَحْزُنْكَ قولُهم . { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [ يونس : 65 ] ، الوقفُ على " قَوْلُهم " لئلا يُتَوَهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ " ، وكذا { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ * ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ } [ غافر : 6ـ7 ] ينبغي أن يُعْتَنَى بالوقفِ على " النار " لئلا تُتَوَهَّم الصفةُ " . قلت : وَتَوَهُّمُ هذه الأشياءِ مِنْ أبعدِ البعيدِ . وقال أبو شامةَ أيضاً : " ولو لَزِم الوقفُ على اللامِ والنونِ ليَظْهرا لَلَزِمَ ذلك في كلِّ مُدْغَمٍ " . قلت : يعني في " بَلْ رَان " وفي " مَنْ راقٍ " . قوله : " لِيُنْذِرَ " في هذه اللامِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها متعلقةٌ بـ " قَيِّماً " قاله الحوفيُّ . والثاني : - وهو الظاهرُ - أنها تتعلَّق بـ " أَنْزَلَ " . وفاعلُ " لِيُنْذِرَ " يجوز أن يكونَ " الكتابَ " وأن يكونَ الله ، وأن يكون الرسول . و " أَنْذَرَ " يتعدَّى لاثنين : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] . ومفعولُه الأولُ محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشريُّ : " ليُنْذِرَ الذين كفروا ، وغيره : " ليُنْذِرَ العبادَ " ، أو " لِيُنْذِرَكم " ، أو لِيُنْذِرَ العالَم . وتقديرُه أحسنُ لأنه مقابلٌ لقولِه { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، وهو ضِدَّهم . وكما حَذَفَ المُنْذِرُ وأَتَى بالمُنْذَرِ به هنا ، حَذَفَ المُنْذَرَ به وأتى بالمُنْذَر في قوله { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ } [ الكهف : 4 ] فَحَذَفَ الأولَ مِنَ الأولِ لدَلالةِ ما في الثاني عليه ، وحذَفَ الثاني مِنَ الثاني لدلالةِ ما في الأوَّلِ عليه ، وهو في غايةِ البلاغةِ ، ولمَّا تتكررِ البِشارةُ ذَكَرَ مفعوليها فقال : { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً } . قوله : { مِّن لَّدُنْهُ } قرأ أبو بكر عن عاصم بسكون الدالِ مُشَمَّةً الضمَّ وكسرِ النونِ والهاءِ موصلةً بياءٍ ، فيقرأ " مِنْ لَدْنِهِيْ " والباقون يَضُمون الدالَ ، ويسكِّنون [ النونَ ] ويَضُمُّون الهاءَ ، وهم على قواعِدهم فيها : فابنُ كثيرٍ يَصِلها بواوٍ نحو : مِنْهو وعَنْهو ، وغيرُه لا يَصِلُها بشيء . ووَجهُ أبي بكرٍ : أنه سَكَّن الدالَ تخفيفاً كتسكين عين " عَضُد " والنونُ ساكنةٌ ، فالتقى ساكنانِ فكسَرَ النونَ لالتقاءِ الساكنين ، وكان حقُّه أن يكسِرَ الأولَ على القاعدةِ المعروفةِ إلا أنَّه يَلْزَمُ منه العَوْدُ إلى ما فَرَّ منه ، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قولِه { وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ } [ الآية : 52 ] في سورة النور ، فهناك نتكلَّم فيه ، ولمَّا كَسَر النونَ لِما ذكرْتُه لك كَسَرَ الهاءَ إتْباعاً على قاعدته ووَصَلَها بياء . وأَشَمَّ الدالَ إشارةً إلى أصلِها في الحركة . والإِشمامُ هنا عبارةٌ عن ضَمِّ الشفتين مِنْ غير نطق ، ولهذا يختصُّ به البصيرُ دونَ الأَعمى ، هكذا قرَّره القراءُ وفيه نَظَرٌ ، لأنَّ الإِشمامَ المشارَ إليه إنما يتحقَِّقُ عند الوقفِ على آخرِ الكلمةِ فلا يليق إلا بأنْ يكونَ إشارةً إلى حركةِ الحرفِ الأخيرِ المرفوعِ إذا وُقف عليه نحو : " جاء الرجل " ، وهكذا ذكره النحويون . وأمَّا كونُه يُؤْتى به في وَسَط الكلمةِ فلا يُتَصَوَّرُ إلا أَنْ يقفَ المتكلمُ على ذلك الساكنِ ثم يَنْطِقَ بباقي الكلمة . وإذا جَرَّبْتَ نُطْقَك في هذا الحرفِ الكريم وَجَدْتَ الأمرَ كذلك ، لا تَنْطِقُ بالدالِ ساكنةً مشيراً إلى ضمِّها إلا حتى تقفَ عليها ، ثم تأتي بباقي الكلمةِ . فإن قلتَ : إنما اتي بالإِشارةِ إلى الضمةِ بعد فراغي من الكلمة بأَسْرِها . قيل لك : فاتَتِ الدلالةُ على تعيينِ ذلك الحرفِ المشارِ إلى حركتِه . ويمكن أَنْ يُجابَ عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يَصْلُح اَنْ يُشارَ إلى حركتِه إلا الدالُ . وقد تقدَّم في " يوسف " أن الإِشمامَ في { لاَ تَأْمَنَّا } [ الآية : 11 ] إذا فسَّرْناه بالإِشارةِ إلى الضمة : منهم مَنْ يفعلُه قبل كمالِ الإِدغام ، ومنهم مَنْ يفعلُه بعده ، وهذا نظيرُه . وتقدَّم أنَّ الإِشمامَ يقع بإزاء معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقُها . و { مِّن لَّدُنْهُ } متعلق بـ " لِيُنْذِرَ " / . ويجوز تعلُّقُه بمحذوفٍ نعتاً لـ " بَأْساً " ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في " شديداً " . وقُرِئ " ويُبَشِّرُ " بالرفعِ على الاستئنافِ .