Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 144-144)
Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { قَدْ نَرَىٰ } : " قد " هذه قالَ فيها بعضُهم : إنها تَصْرِفُ المضارعَ إلى معنى المضيِّ ، وجَعَلَ ، مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها وقولَ الشاعر : @ 760 لِقَوْمٍ لعَمْري قد نَرَى أمسِ فيهمُ مرابطَ للأمْهارِ والعَكَرِ الدَّهِرْ @@ وقال الزمخشري : " قد نرى " : ربما نرى ، ومعناه كثرةُ الرؤيةِ كقول الشاعر : @ 761 قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصَفْراً أناملُه كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرْصادِ @@ قال الشيخ : " وشرحه هذا على التحقيق متضادٌّ ، لأنه شَرَحَ " قد نرى " بربما نرى ، ورُبَّ على مذهب المحققين إنما تكون لتقليلِ الشيء في نفسِه أو لتقليلِ نظيرِه : ثم قال : " ومعناه كثرةُ الرؤيةِ فهو مضادٌّ لمدلولِ رُبَّ على مذهب الجمهور . ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرةِ الرؤيةِ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ لأنه لم تُوضَعْ للكثرةِ " قد " مع المضارع سواءً أريد به المضيُّ أم لا ، وإنما فُهِمَت الكثرةُ من متعلَّقِ الرؤيةِ وهو التقلُّبُ " . قوله : { فِي ٱلسَّمَآءِ } : في متعلَّق الجارِّ ثلاثةُ أقوال ، أحدُها : أنه المصدرُ وهو " تقلُّب " ، وفي " في " حينئذ وجهان ، أحدُهما : أنَّها على بابِها الظرفية وهو الواضحُ . والثاني : أنَّها بمعنى " إلى " أي : إلى السماء ، ولا حاجةَ لذلك ، فإنَّ هذا المصدرَ قد ثَبَتَ تعدّيه بـ " في " ، قال تعالى : { [ لاَ يَغُرَّنَّكَ ] تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } [ آل عمران : 196 ] . والثاني من القولين : أنه " نرى " وحينئذ تكونُ " في " بمعنى " مِنْ " أي : قد نَرى مِن السماء ، وذكر السماء وإن كان تعالى لا يتحيَّزُ في جهة على سبيل التشريفِ . والثالث : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " وجهِك " ذكرَه أبو البقاء فيتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى فاعِلِه ، ولا يجوزُ أن يكونَ مضافاً إلى منصوبهِ لأنَّ مصدرَ ذلك التقليب ، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ من قولِه " وجهك " وهو بصرُ وجهِك لأنَّ ذلك لا يكادُ يُسْتَعملُ ، بل ذكر الوجهَ لأنه أشرَفُ الأعضاءِ وهو الذي يُقَلْبه السائلُ في حاجته وقيل : كَنَى بالوجهِ عن البصر لأنه مَحَلُّه . قوله : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً } الفاءُ هنا للتسبب وهو واضحُ ، وهذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، أي : فوالله لَنُوَلينَّكَ ، و " نُوَلِّي " يتعدَّى لاثنين : الأول الكاف والثاني " قبلةً " ، و " ترضاها " الجملة في محل نصبٍ صفةً لقبلةً ، قال الشيخ : " وهذا - يعني " فلنولينك " - يَدُلُّ على أَنَّ في الجملةِ السابقةِ حالاً محذوفةً تقديرُه : قد نرى تقلُّبَ وجهِك في السماءِ طالباً قبلةً غيرَ التي أنت مستقبلَها . قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ } : " وَلَّى " يتعدَّى لاثنين أحدُهما " وجهك " والثاني " شطرَ " ويجوز أن ينتصبَ " شطر " على الظرفِ المكاني فيتعدَّى الفعلُ لواحدٍ وهو قولُ النحاس ، ولَمْ يذكرِ الزمخشري غيرَه ، والأولُ أوضحُ ، وقد يتعدَّى إلى ثانيهما بإلى . والشطر يكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه ، ويكون بمعنى الجهة والنحو ، قال : @ 762 ألا مَنْ مُبْلِغٌ عني رسولاً وما تُغْني الرسالةُ شطرَ عمروِ @@ وقال : @ 763 أقولُ لأُمِّ زِنْباعٍ أَقيمي صدورَ العيسِ شَطْرَ بني تميمِ @@ وقال : @ 764 وقد أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمْ هَوْلٌ له ظُلَمٌ يَغْشاكُمُ قِطَعا @@ وقال ابن أحمر : @ 765 تَعْدُو بنا شَطْرَ نجدٍ وهيَ عاقِدَةٌ قد كارب العقدُ من إيقادها الحُقُبا @@ وقال : @ 766 وأَطْعَنُ بالرُّمْحِ شَطْرَ المُلو كِ … @@ وقال : @ 767 إنَّ العَسِيرَ بها داءٌ مُخامِرُها وشَطْرَها نَظَرُ العينين مَحْسورُ @@ كل ذلك بمعنى : نحو وتِلْقاء . ويقال : شَطَرَ : بَعُد ومنه : الشاطرُ وهو الشابُّ البعيدُ من الجيرانِ الغائبِ عن منزلِه ، يقال : شَطَر شُطوراً ، والشَّطيرُ : البعيدُ ومنه منزل شَطِير ، وشَطَر إليه أي أقبل . وقال الراغب : " وصار يُعَبَّر بالشاطر عن البعيدِ وجمعه شَطْر ، والشاطر أيضاً لِمَنْ يتباعَدُ من الحقَّ وجمعُه شُطَّار . وقوله : { حَيْثُ مَا كُنْتُمْ } في " حيثما " هنا وجهان ، أظهرُهما : أنها شرطيةٌ ، وشرطٌ كونِها كذلك زيادةُ " ما " بعدها خلافاً للفراء ، بـ " كنتم " ، في محلِّ جزم بها ، و " فولُّوا " جوابُها وتكون هي منصوبةً على الظرفِ بكنتم ، فتكونُ هي عاملةً فيه الجزمَ ، وهو عاملٌ فيها النصبَ نحو : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ } [ الإسراء : 110 ] واعلم أنَّ " حيث " من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ فالجملةُ التي بعدها كان القياسُ يقتضي أن تكونَ في محلِّ خفضٍ بها ، ولكنْ مَنَعَ من ذلك مانعٌ وهو كونُها صارَتْ من عوامل الأفعالِ . قال الشيخ : " وحيث هي ظرفُ مكانٍ مضافةً إلى الجملةٍ فهي مقتضيةٌ للخفضِ بعدَها ، وما اقتضى الخفضَ لا يقتضي الجزمَ ، لأنَّ عواملَ الأسماءِ لا تعملُ في الأفعالِ ، والإِضافةُ موضَّحةُ لِما أُضيف ، كما أنَّ الصلةَ موضِّحَةٌ فيُنافي اسمُ الشرط ؛ لأنَّ اسمَ الشرطِ مبهمٌ ، فإذا وُصِلَتْ بـ " ما " زال منها معنى الإِضافةِ وضُمِّنَتْ معنى الشرطِ وجُوزي بها ، وصارَتْ من عواملِ الأفعالِ " . والثاني : أنها ظرفٌ غيرُ مضمَّنٍ معنى الشرط ، والناصبُ له قولُه : " فَوَلُّوا " قاله أبو البقاء ، وليس بشيء ، لأنه متى زيدت عليها " ما " وَجَبَ تضمُّنُها معنى الشرطِ . وأصل وَلُّوا : وَلِّيُوا ، فاستُثْقِلَتِ الضمة على الياءِ فَحُذِفَتْ فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وهو الياءُ وضُمَّ ما قبلَه ليجانسَ الضميرَ فوزنه فَعُّوا . وقوله : " شَطْرَه " فيه القولان ، وهما : إمَّا المفعولُ به وإمّاَ الظرفية كما تقدم . قوله : { أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } يُحْتمل أن تكونَ " أَنَّ " واسمُها وخبرُها سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ لـ " يَعْلَموْن " عند الجمهور ، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ والثاني محذوفٌ على أنها تتعدَّى لاثنين ، وأن تكونَ سادَّةً مسدَّ مفعولٍ واحدٍ على أنها بمعنى العرفان . وفي الضميرِ ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها : يعودُ على التوليِّ المدلولِ عليه بقولِه : " فولُّوا " . والثاني : على الشطر . والثالث : على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكونُ على هذا التفاتاً من خطابه بقوله " فَلَنُوَلِّينَّكَ " إلى الغَيْبة . قوله : { مِن رَّبِّهِمْ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الحق أي : الحقُّ كائناً مِنْ ربهم . وقرىء : " عمَّا يعملون " بالغَيْبة ردَّاً على الذين أوتوا الكتاب أو رَدَّاً على المؤمنين ويكون / التفاتاً من خطابِهم بقولِه : " وجوهكم - كنتم " . وبالخطاب على ردِّه للمؤمنين وهو الظاهرُ ، أو للذين على الالتفات تحريكاً لهم وتَنْشِيطاً .