Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 178-179)

Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } : أي : بسببِ القتلى ، و " في " تكون للسببية كقوله عليه السلام : " إنَّ امرأة دخلت النارَ في هرة " أي : بسببها . و " فَعْلَى " يَطَّرد أن يكون جمعاً لفَعِيل بمعنى مفعول وقد تقدَّم شيءٌ من هذا عند قولِه : { وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ } [ البقرة : 85 ] . قوله : { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ } مبتدأٌ وخبرٌ ، والتقديرُ : الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ ، أو مقتولٌ بالحُرِّ ، فَتُقَدِّر كوناً خاصاً حُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه ، فإن الباءَ فيه للسبب ، ولا يجوزُ أن تقدِّره كوناً مطلقاً ، إذ لا فائدةَ فيه لو قلت : الحُرَّ كائنٌ بالحر ، إلا أنْ تُقَدِّر مضافاً ، أي : قتلُ الحرِّ كائنٌ بالحر . وأجاز الشيخ أن يكونَ " الحُرُّ " مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : يُقْتَلُ الحُرُّ بالحر ، يَدُلُّ عليه قولُه : { ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } فإنَّ القِصاصَ يُشْعِرُ بهذا الفعلِ المقدِّر ، وفيه بَعْدٌ . والقِصاص مصدرُ قاصَّهُ يُقاصُّه قِصاصاً ومُقَاصَّةً ، نحو : قاتَلْتُهُ قِتالاً ومُقَاتَلَةً ، وأصلُهُ من قَصَصْتُ الشيءَ اتَّبَعْتَ أثرَه ، لأنه اتباعُ دمِ المقتول . والحُرُّ وصفٌ ، و " فُعْل " الوصف جَمْعُه على أفعال لا ينقاس ، قالوا : حُرّ وأحرار ، ومُرّ وأمرار ، والمؤنثة حُرَّة ، وجمعها على " حرائِر " محفوظُ أيضاً ، يقال : حَرَّ الغلام يَحَرُّ حُرِّيَّةً . قوله : { فَمَنْ عُفِيَ } يجوزُ في " مَنْ " وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً . والثاني : أن تكونَ موصولةً . وعلى كلا التقديرين فموضعُهما رفعٌ بالابتداء . وعلى الأول يكونُ " عُفِي " في محلِّ جزمٍ بالشرطِ ، وعلى الثاني لا محلَّ له وتكونُ الفاءُ واجبةً في قولِه : " فاتِّباع " على الأول ، ومحلُّها وما بعدها الجزمُ ، وجائزةٌ في الثاني ، ومحلُّها وما بعدَها الرفعُ على الخبر . والظاهرُ أنَّ " مَنْ " هو القاتلُ ، والضميرُ في " له " و " أخيه " عائدٌ على " مَنْ و " شيءٌ " هو القائمُ مقامَ الفاعلِ ، والمرادُ به المصدرُ ، وبُني " عُفِي " للمفعولِ وإن كان قاصراً ، لأنَّ القاصِرَ يتعدَّى للمصدرِ كقوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ المؤمنون : 101 ] . والأخ هو المقتولُ أو وليُّ الدمِ ، وسَمَّاه أخاً للقاتل استعطافاً له عليه ، وهذا المصدرُ القائمُ مقامَ الفاعلِ المرادُ به الدمُ المعفوُّ عنه . وعَفَا يتعدَّى إلى الجاني وإلى الجنايةِ بـ " عن " ، تقول : عَفَوْتُ عن زيد ، وعَفَوْتُ عن ذنبِ زيدٍ ، فإذا عُدِّي إليهما معاً تعدَّى إلى الجاني باللام وإلى الجناية بعَنْ ، تقول : عَفَوْتُ لزيدٍ عن ذنبِهِ ، والآيةُ من هذا الباب / أي : فَمَنْ عُفِيَ له عن جِنايَتِهِ . وقيل " مِنْ " هو وليُّ الدمِ . أي : مَنْ جُعِلَ له من دمِ أخيه بَدَلُ الدمِ وهو القصاصُ أو الدِّيةُ والمرادُ بـ " شيء " حينئذٍ ذلك المستحِقُّ ، والمرادُ بالأخِ المقتولُ ، ويُحتمل أَنْ يُرَاد به على هذا القولِ أيضاً القاتلُ ، ويُراد بالشيء الديةُ و " عُفِي " بمعنى يُسِّر على هذين القَولين ، وقيل : بمعنى تُرِكَ . وشَنَّع الزمخشري على مَنْ فَسَّر " عُفِيَ " بمعنى " تُرِكَ " قال : فإنْ قلت : هَلاَّ فَسَّرْت " عُفي " بمعنى " تُركَ " حتى يكونَ " شيء " في معنى المفعول به . قلت : لأنَّ عَفَا الشيء بمعنى تَرَكَه ليس يَثْبُتُ ، ولكن " أعفاه " ومنه : " وَأَعْفوا اللَّحى " فإنْ قلت : قد ثَبَتَ قولُهم : عفا أَثَرُه إذا مَحاه وأَزاله ، فَهَلاَّ جَعَلْتَ معناه : فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أخيه شيءٌ . قلت : عبارةٌ قلقةٌ في مكانِها ، والعفُو في باب الجنايات عبارةٌ متداولةٌ مشهورةٌ في الكتابِ والسنةِ واستعمالِ الناسِ فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرى قلقةٍ نابيةٍ عن مكانِها ، وترى كثيراً مِمَّن يتعاطى هذا العلمَ يَجْتَرِىءُ إذا أُعْضِلَ عليه تخريجُ وجهٍ للمُشْكلِ مِنْ كَلامِ الله على اختراعِ لغةٍ وادِّعاءٍ على العربِ ما لم تَعْرفه ، وهذه جرأةٌ يُستعاذُ باللَّهِ منها . قال الشيخ : " إذا ثَبَتَ أنَّ " عَفَا " بمعنى مَحا فَلاَ يَبْعُدُ حَمْلُ الآية عليه ويكونُ إسنادُ " عَفَا " لمرفوعِهِ إسناداً حقيقياً ؛ لأنه إذا ذاك مفعولٌ به صريحٌ ، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسنادُهُ لمرفوعِهِ مجازاً لأنَّه مصدرٌ مشبَّهٌ بالمفعولِ به ، فقد يتعادَلُ الوجهان : أعنى كونَ عفا اللازمِ لشهرتِهِ في الجناياتِ و " عفا " المتعدِّي بمعنى " مَحَا " لتعلقِهِ بمرفوعِهِ تعلقاً حقيقياً " فإن قيل : تُضَمِّنُ " عَفَا " معنى " تَرك " فالجوابُ أنَّ التضمينَ لا يَنْقاس ، وقد أجاز أبنُ عطية أَنْ يكونَ عَفا بمعنى تَرَكَ . وقيل : إن " عُفِيَ " بمعنى فَضِلَ ، والمعنى : فَمَنْ فَضِلَ له من الطائفتين على الأخرى شيءٌ من تلك الدِّيات ، مِنْ قَوْلِهِم : عَفَا الشيءُ إذا كَثُرَ . وأَظْهَرُ هذه الأقوالِ أوَّلُها . قوله : { فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ } في رَفْع " اتباع " ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، فقدَّرَهُ ابنُ عطية : فالحكمُ أو الواجبُ الاتِّباعُ ، وَقَدَّره الزمخشري : فالأمرُ اتِّباع . قال ابنُ عطية : " وهذا سبيلُ الواجباتِ ، وأمَّا المندوباتُ فتجيءُ منصوبةً كقوله : { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } [ محمد : 4 ] . قال الشيخ " ولا أدري ما الفرقُ بين النصبِ والرفعِ إلا ما ذكروه من أنَّ الجملةَ الاسميَّةَ أثبَتُ وأكدُ ، فيمكنُ أن يكونَ مستندُ ابنِ عطية هذا ، كما قالوا في قوله : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] . الثاني : أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ ، وقَدَّرَهُ الزمخشري : فليكن اتِّباعُ . قال الشيخ : " هو ضعيفٌ إذ " كان " لا تُضْمَرُ غالباً إلا بعد " إنْ " - الشرطية و " لو " لدليلٍ يَدُلُّ عليه " . الثالث : أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر ، فمنهم مَنْ قَدَّره متقدماً عليه ، أي : فعليه اتِّباع ، ومنهم مَنْ قَدَّره متأخراً عنه ، أي : فاتِّباع بالمعروفِ عليه . قوله : { بِٱلْمَعْرُوفِ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يتعلَّقَ باتِّباعِ فيكونَ منصوبَ المحلّ . الثاني : أن يكونَ وصْفاً لقوله " اتِّباع " فيتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ مَحلُّه الرفعَ . الثالث : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ المحذوفةِ تقديرُهُ : فعليه اتِّباعُه عادلاً ، والعاملُ في الحالِ معنى الاستقرار . قوله : { وَأَدَآءٌ } في رفعِهِ أربعة أوجهٍ ، الثلاثةُ المقولةُ في قولِه " فاتِّباعٌ " لأنه معطوفٌ عليه . والرابعُ : أن يكونَ مبتدأ خبرُه الجارُّ والمجرورُ بعدَه ، وهو " بإحسان " وهو بعيدٌ . و " إليه " في محلِّ نصبٍ لتعلُّقِهِ " بأداء " ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً لأداء ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، أي : وأداءٌ كائنٌ إليه . و " بإحسانٍ " فيه أربعةُ أوجه : الثلاثةُ المقولةُ في " بالمعروف " ، والرابعُ : أن يكونَ خبرَ " الأداء " كما تقدَّم في الوجهِ الرابع مِنْ رفعِ " أداء " . والهاءُ في " إليه " تعودُ إلى العافي وإنْ لَمْ يَجْرِ له ذِكْرٌ ، لأنَّ " عَفَا " يَسْتَلْزِمُ عافياً ، فهو من بابِ تفسيرِ الضميرِ بمصاحبٍ بوجهٍ ما ، ومنه : { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } أي الشمس ، لأنَّ في ذِكْرِ " العشيّ " دلالةً عليها ، ومثله : @ 828 فإنَّك والتأبينَ عروةَ بعدَما دَعَاكَ وأيدينا إليه شَوارعُ لكالرجلِ الحادي وقد تَلع الضحى وطيرُ المنايا فوقَهُنَّ أواقِعُ @@ فالضميرُ في " فوقهُنَّ " للإِبل ، لدلالةِ لفظِ " الحادي " عليها لأنها تُصاحِبُه بوجهٍ ما . قوله : { ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ } الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العفوِ والديةِ و " من ربكم " في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لِما قبلَه فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . و " رَحمة " صفتُها محذوفةٌ أيضاً أي : ورحمةٌ من ربكم . وقوله : { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ } يجوز في " مَنْ " الوجهان الجائزان في قولِهِ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } من كونِها شرطية وموصولةً ، وجميعُ ما ذُكِرَ ثَمَّةَ يعودُ هنا . قوله : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يجوزُ أنْ يَكُونَ " لكم " الخبر وفي القصاص يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه " لكم " ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من " حياةٌ " ، لأنه كان في الأصل صفةً لها ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً ، ويجوزُ أن يكونَ " في القصاص " هو الخبرَ ، و " لكم " متعلقٌ بالاستقرارِ المتضمِّن له ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قولِهِ : { وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } [ البقرة : 36 ] ، وهناك أشياءُ لا تَجِيءُ هنا . وقرأ أبو الجوزاء " في القَصَص " والمرادُ به القرآنُ . قال ابن عطية : " ويَحتمل أن يكون مصدراً كالقِصاص ، أي إنه إذا قُصّ أثرُ القاتِلِ قَصَصَاً قُتِلَ كما قَتَل " . والقِصاصُ مصدرُ قَصَّ أي : تَتَبَّع ، وهذا أصلُ المادة ، فمعنى القِصاص تتَبُّعُ الدم بالقَوَد ، ومنه " القصيص " لما يُتَتَبَّعُ من الكلأ بعد رَعْيِهِ ، والقَصَصُ تَتَبُّع الأخبار ومثله القَصُّ ، والقَصُّ أيضاً الجِصُّ ، ومنه الحديث : " نهى عليه الصلاة والسلام عن تقصيص القبورِ " أي تَجْصيصِها . ونظيرُ هذا الكلامِ قولُ العرب : " القتلُ أَوْفَى للقتل " ويُرْوى أَنْفَى للقتل ، ويُرْوَى : أَكفُّ للقتَل . وهذا وإنْ كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العلماءُ بينه وبين الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغةِ وُجِدَتْ في الآية الكريمة دونَه ، منها : أنَّ في قولِهم تكرار الاسم في جملةٍ واحدةٍ . ومنها : أنه لا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ لأنَّ " أَنْفَى " و أَوْفَى " و " أكفُّ " أفعلُ تفضيلٍ فلا بدَّ من تقديرِ المفضَّل عليه ، أي : أنفى للقتل مِنْ ترك القتل . ومنها : أنَّ القِصاصَ أَمُّ إذ يوجدُ في النفس وفي الطَّرَف . والقتلُ لا يكونُ إلا في النفس . ومنها : أنَّ ظاهرَ قولِهم كونُ وجودِ الشيء سبباً في انتفاء نفسِه . ومنها : أنَّ في الآية نوعاً من البديع يُسَمَّى الطباق وهو مقابلةُ الشيء بضده فهو يُشْبِهُ قوله تعالى : { أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } [ النجم : 43 ] قوله : { يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ } منادى مضافٍ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ . واعلم أن " أولي " اسمُ جمعٍ لأنَّ واحدَه وهو " ذو " من غير لفظِه . ويَجْرِي مَجْرَى جمعِ المذكرِ السالم فِي رفعِهِ بالواوِ ونصبِه وجرِّه بالياء المكسورِ ما قبلها ، وحكمهُ في لزوم الإِضافة إلى اسمِ جنسٍ حكمُ مفردِه . وقد تقدَّم في قولِه : { ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ } [ البقرة : 177 ] ويقابِلُه في المؤنث : أُولات : وكُتِبا في المصحفِ بواوٍ بعد الهمزةِ قالوا : لِيُفَرِّقوا بين " أُولي كذا " في النصبِ والجر وبين " إلى " التي هي حرفُ جر ، ثم حُمِل باقي الباب عليه ، وهذا كما تقدَّم في الفرقِ بين " أولئك " اسمَ إشارةٍ و " إليك " جاراً ومجروراً وقد تقدَّم . وإذا سَمَّيْتَ بأولي من أُولي كذا قلت : جاء أُلون ورأيت إلين ، بردِّ النونِ لأنها كالمقدَّرة حالة الإِضافةِ فهو نظيرُ : ضارِبُو زيدٍ وضاربي زيدٍ . والألبابُ جمعُ " لُبٍّ " وهو العقلُ الخالي من الهَوي ، سُمِّيَ بذلك لأحدِ وجهين : إمَّا لبنائِه من لَبَّ بالمكانِ أقامَ به ، وإمَّا من اللُّباب وهو الخالِصُ ، يقال : لبُبْتُ بالمكان ولبِبْتُ بِضمِّ العينِ وكسرِها ، ومجيءُ المضاعَفِ على فَعْل بضمِّ العينِ شاذ ، استَغْنَوا عنه بِفَعَل مفتوح العين ، وذلك في ألفاظ محصورة نحو : عَزُزْتُ / وسَرُرْتُ ولَبُبت ودَمُمْتُ ومَلُلْتُ ، فهذه بالضمِّ وبالفتح ، إلا لَبُبْت فبالضمِّ والكسرِ كما تقدَّم .