Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 258-258)

Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي } : تقدَّم نظيرُه في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ } [ البقرة : 243 ] . وقرأ عليٌّ رضي الله عنه : " تَرْ " بسكون الراء ، وتقدَّم أيضاً توجيهُها . والهاءُ في " ربه " فيهما قولان ، أظهرهُما : أنها تعودُ على " إبراهيم " ، والثاني : تعودُ على " الذي " ، ومعنى حاجَّه : أظهرَ المغالَبَة في حُجَّتِهِ . قوله : { أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ } فيه وجهان ، أظهرهُما : أنه مفعولٌ من أجله على حذفِ حرفِ العلةِ ، أي : لأنْ آتاه ، فحينئذٍ في محلِّ " أَنْ " الوجهان المشهوران ، أعني النصبَ أو الجرَّ ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِ قبل " أَنْ " لأنَّ المفعول من أجله هنا نَقَّص شرطاً وهو عدمُ اتحادِ الفاعلِ ، وإنما حُذِفَت اللام ، لأنَّ حرفَ الجرِّ يطَّرد حَذْفُهُ معها ومع أنَّ ، كما تقدَّم غيرَ مرة . وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ معنيان ، أحدُهما : أنه من بابِ العكسِ في الكلام بمعنى أنه وَضَعَ المُحَاجَّة موضعَ الشكر ، إذ كان من حَقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْك ، ولكنه عَمِلَ على عكس القضية ، ومنه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] ، وتقول : " عاداني فلانٌ لأني أَحْسنت أليه " وهو باب بليغٌ . والثاني : أنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك ، لأنه أورثه الكِبْرَ والبَطَرَ ، فتسبَّب عنهما المُحاجَّةُ . الوجه الثاني : أنَّ " أَنْ " وما في حَيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزمان ، قال الزمخشري : " ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ : حاجَّ وقتَ أَنْ آتاه " . وهذا الذي أجازه الزمخشري محلُّ نظرٍ ، لأنه إنْ عنى أنَّ ذلكَ على حَذْفِ مضاف ففيه بُعْدٌ من جهةِ أنَّ المُحاجَّةَ لم تقعْ وقتَ إيتاءِ اللهِ له المُلْكَ ، إلا أنْ يُتَجَوَّزَ في الوقتِ ، فلا يُحْمَل على الظاهِرِ ، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَتْ ابتداءَ إيتاءِ المُلْك ، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعتْ وقتَ وجودِ المُلْك ، وإنْ عنى أَنْ " أَنْ " وما في حَيَّزها واقعةٌ موقعَ الظرفِ فقد نَصَّ النحويون على منعِ ذلك وقالوا : لا يَنْوب عن الظرفِ الزماني إلا المصدرُ الصريحُ ، نحو : " أتيتُك صياحَ الديك " ولو قلت : " أن يصيح الديك " لم يَجُزْ . كذا قاله الشيخ ، وفيه نظرٌ ، لأنه قال : " لا ينوبُ عن الظرفِ إلا المصدرُ الصريحُ " وهذا معارَضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ " ما " المصدريةَ تنوبُ عن الزمان ، وليست بمصدرٍ صريحٍ . والضمير في " آتاه " فيه وجهان ، أحدُهما - وهو الأظهرُ - أن يعودَ على " الذي " ، وأجاز المهدوي أن يعودَ على " إبراهيم " أي : مَلَكَ النبوة . قال ابن عطية : " هذا تحاملٌ من التأويل " وقال الشيخ : " هذا قولُ المعتزلة ، قالوا : لأنَّ الله تعالى قال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] والمُلْك عهدٌ ، ولقولِهِ تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] . قوله : { إِذْ قَالَ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه معمولٌ لحاجَّ . الثاني : أن يكونَ معمولاً لآتاه ، ذَكَرَهُ أبو البقاء . وفيه نَظَرٌ من حيث إنَّ وقتَ إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم : { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } ، إلا أن يتُجَوَّز في الظرفِ كما تقدَّم . والثالث : أن يكونَ بدلاً من " أنْ آتاه الله المُلْك " إذا جُعِلَ بمعنى الوقت ، أجازه الزمخشري بناءً منه على أنَّ " أَنْ " واقعةٌ موقعَ الظرفِ ، وقد تقدَّم ضعفُهُ ، وأيضاً فإن الظرفَيْنِ مختلفان كما تقدَّم إلا بالتجوزِ المذكورِ . وقال أبو البقاء : " وذكر بعضُهم أنه بدلٌ من " أَنْ آتاه " وليس بشيءٍ ، لأنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ ، فلو كانَ بدلاً لكانَ غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل " إذ " بمعنى " أَنْ " المصدرية ، وقد جاء ذلك " انتهى . وهذا بناءٌ منه على أنَّ " أَنْ " مفعولٌ من أجله / وليست واقعةً موقعَ الظرفِ ، أمَّا إذا كانَتْ " أَنْ " واقعةً موقعَ الظرفِ فلا تكونُ بدلَ غلط ، بل بدلُ كلٍ من كلٍ ، كما هو قولُ الزمخشري وفيه ما تقدَّم ، مع أنه يجوزُ أَنْ تكونَ بدلاً مِنْ " أَنْ آتاه " و " أن آتاه " مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ ، لأنَّ وقتَ القولِ لاتساعِهِ مشتملٌ عليه وعلى غيره . الرابع : أنَّ العاملَ فيه " تَرَ " من قوله : " ألم ترَ " ذكره مكي ، وهذا ليس بشيءٍ ، لأنَّ الرؤيةَ على كِلا التفسيرين المذكورين في نظيرتِها لم تكنْ في وقتِ قوله : { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } . و { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصب بالقول . قولُه : { قَالَ أَنَا أُحْيِـي } مبتدأٌ وخبرٌ منصوبُ المحل بالقول أيضاً . وأخبر عن " أنا " بالجملةِ الفعلية ، وعن " ربي " بالموصولِ بها ، لأنه في الإِخبارِ بالموصولِ يُفيد الاختصاصَ بالمُخْبَرِ عنه بخلافِ الثاني ، فإنه لم يَدَّعِ لنفسِهِ الخسيسةِ الخصوصيةَ بذلك . و " أنا " ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ ، والاسمُ منه " أَنْ " والألفُ زائدةٌ لبيانِ الحركةِ في الوقفِ ، ولذلك حُذِفَتْ وصلاً ، ومن العربِ مَنْ يُثبتها مطلقاً ، فقيل : أُجري الوصلُ مُجْرى الوقف . قال : @ 1041 وكيفَ أنا وانتحالِ القوا في بعدَ المشيبِ كفى ذاك عارَا @@ وقال آخر : @ 1042 أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني حَمِيداً قد تَذَرَّيْتُ السَّناما @@ والصحيح أنه فيه لغتان ، إحداهما : لغةُ تميمٍ ، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإنه قرأ بثبوتِ الألفِ وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو : " أنا أُحيي " أو مفتوحةٍ نحو : { وَأَنَاْ أَوَّلُ } [ الأعراف : 143 ] ، واخْتُلِفَ عنه في المكسورة نحو : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ [ نَذِيرٌ ] } [ الشعراء : 115 ] ، وقراءةُ ابن عامر : { لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي } على ما سيأتي ، هذا أحسنُ من توجيهِ مَنْ يقول : " أَجْرِي الوصلُ مُجرى الوقف " . واللغةُ الثانية : إثباتُها وقفاً وَحَذْفُها وصلاً ، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إلا ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين . وقيل : بل " أنا " كلُّه ضمير . وفيه لغاتٌ : أنا وأَنْ - كلفظِ أَنْ الناصبةِ - وآن ، وكأنه قَدَّم الألفَ على النونِ فصار أان . قيل : إنَّ المرادُ به الزمانُ ، [ و ] قالوا : أنَهْ وهي هاءُ السكت ، لا بدلٌ من الألف : قال : " هكذا فَرْدِي أَنَهْ " وقال آخر : @ 1043 إنْ كنتُ أدري فعليَّ بَدَنَهْ من كَثْرةِ التخليطِ فيَّ مَنْ أَنَهْ @@ وإنما أثبت نافع ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللغتين ، أو لأنَّ النطقَ بالهمزِ عَسِرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ . قوله : { فَإِنَّ ٱللَّهَ } هذه الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ تقديرُه : قال إبراهيم إنْ زعمت أو مَوَّهت بذلك فإن الله ، ولو كانت الجملةُ محكيةً بالقولِ لَمَا دَخَلَتْ هذه الفاءُ ، بل كان تركيبُ الكلامِ : قال إبراهيم إنَّ الله يأتي . وقال أبو البقاء : " دخلَتِ الفاءُ إيذاناً بتعلُّق هذا الكلامِ بما قَبْلَه ، والمعنى إذا أدَّعَيْت الإِحياء والإِماتَة ولم تَفْهَمْ فالحجةُ أنَّ الله يأتي ، هذا هو المعنى " . والباءُ في " بالشمسِ " للتعديةِ ، تقولُ : أَتَتِ الشمسُ ، وأتى اللهُ بها ، أي : أجاءها . و " من المشرق " و " مِن المغرب " متعلقان بالفعلَيْن قبلهما ، وأجاز أبو البقاء فيهما بَعْدَ أَنْ منع ذلك أن يكونا حالَيْن ، وجَعَلَ التقدير : مسخرةً أو منقادةً . وليته استمرَّ على مَنْعِه ذلك . قوله : { فَبُهِتَ } الجمهورُ : " بُهِتَ " مبنياً للمفعول ، والموصولُ مرفوعٌ به ، والفاعلُ في الأصل هو إبراهيمُ ، لأنه المناظِرُ له . ويُحْتمل أن يكونَ الفاعلُ في الأصل ضميرَ المصدرِ المفهوم من " قال " أي : فَبَهَته قولُ إبراهيم . وقرأ ابن السَّمَيْفَع : " فَبَهَتَ " بفتحِ الباءِ والهاءِ مبنياً للفاعلِ ، وهذا يَحْتَمِلُ وجهين ، أحدُهما : أن يكونَ الفعلُ متعدِّياً ، وفاعلُه ضميرٌ يعودُ على إبراهيم ، و " الذي " هو المفعولُ ، أي : فَبَهَت إبراهيمُ الكافرَ ، أي غَلَبة في الحُجَّة ، أو يكونُ الفاعلُ الموصولَ ، والمفعولُ محذوفٌ وهو إبراهيمُ ، أي : بَهَتَ الكافرُ إبراهيم أي : لَمّا انقطَع عن الحُجَّة بَهَته . والثاني : أن يكونَ لازماً والموصولُ فاعلٌ ، والمعنى معنى بُهِت ، فتتَّحدُ القراءتان ، أو بمعنى أَتَى بالبُهْتان . وقرأ أبو حَيْوة : " فَبَهُتَ " بفتح الباء وضمِّ الهاء كظَرُفَ ، والفاعلُ الموصولُ . وحكى الأخفش : " فَبُهِتَ " بكسر الهاء ، وهو قاصرُ أيضاً . فيَحصُلُ فيه ثلاثُ لغاتٍ : بَهَتَ بفتحهما ، بَهُت بضم العين ، بَهِت بكسرها ، فالمفتوحُ يكون لازماً ومتعدياً ، قال : { فَتَبْهَتُهُمْ } [ الأنبياء : 40 ] . والبَهْتُ : التحيُّر والدَّهَشُ ، وباهَتَه وبَهَته واجهه بالكذبِ ، ومنه الحديث : " إنَّ اليهودَ قومٌ بُهُتٌ " ، وذلك أن الكذب يُحَيِّر المكذوبَ عليه .