Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 44-44)

Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قولُه تعالى : { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ } : الهمزةُ للإِنكارِ والتوبيخِ أو للتَّعجُّبِ مِنْ حالِهم . و " أَمَرَ " يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجرِّ ، وقد يُحْذَفُ ، وقد جَمَع الشاعرُ بين الأَمرين في قوله : @ 423ـ أَمَرْتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أَمِرتَ به فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ @@ فالناسَ مفعولٌ أولُ ، وبالبِرِّ مفعولٌ ثان . والبِرُّ : سَعَةُ الخيرِ مِن الصلة والطاعة ، ومنه البَرُّ والبَرِيَّة لسعَتِهما ، والفعلُ [ منه ] : بَرَّيَبَرُّ على فَعِل يَفْعَل كعَلِمَ يَعْلَم ، قال : @ 424ـ لا هُمَّ ربِّ إنَّ بَكْراً دونكا يَبَرُّكَ الناسُ ويَفْجُرونكا @@ [ أي : يُطيعونك ، والبِرُّ أيضاً : ولدُ الثعلب وسَوْقُ الغَنَم ، ومنه قولُهم : " لا يَعْرِفُ الهِرَّ من البِرِّ " أي : لا يَعْرِفُ دُعاءَها مِنْ سَوْقِها ، والبِرُّ أيضاً الفؤادُ ، قال : @ 425ـ أكونُ مكانَ البِرِّ منه ودونُه وأَجْعَلُ مالي دونَه وأُوامِرُهْ @@ والبَرُّ بالفتح الإِجلالُ والتعظيمُ ، ومنه : وَلَدٌ بَرٌّ بوالدَيْهِ ، أي : يُعَظِّمُهما ، واللهُ تعالى بَرُّ لسَعَةِ خيرِه على خَلْقِه ] . قوله : " وَتَنْسَوْن " داخلٌ في حَيِّز الإِنكار ، وأصلُ تَنْسَوْن : تَنْسَيُون ، فأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ سُكونها ، وقد تقدَّم في { ٱشْتَرُواْ } [ البقرة : 16 ] ، فوزنُه تَفْعون ، والنِّسيانُ : ضدُّ الذِّكْر ، وهو السهوُ الحاصِلُ بعد حصولِ العلمِ ، وقد يُطْلَقُ على التِّركِ ، ومنه : { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] ، وقَد يَدْخُلُه التعليقُ حَمْلاً على نقِيضه ، قال : @ 426ـ ومَنْ أنتمُ إنَّا نَسِينا مَنَ أنْتُمُ وريحُكُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصِرِ @@ قوله : { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال ، العاملُ فيها " تَنْسَوْن " . والتلاوةُ : التتابعُ ، ومنه تلاوة القرآنِ ، لأنَّ القارئ يُتْبِع كلماتِه بعضَها ببعضٍ ، ومنه : { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس : 2 ] ، وأَصل تَتْلُون : تَتْلُوون بواوين فاستُثْقِلتِ الضمة على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ فوزنُه : تَفْعُون . قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } الهمزةُ للإِنكارِ أيضاً ، وهي في نيَّةِ التأخير عن الفاءِ لأنها حرفُ عَطْفٍ ، وكذا تتقدَّم أيضاً على الواوِ وثم نحو : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 77 ] { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [ يونس : 51 ] ، والنيَّةُ بها التأخيرُ ، وما عدا ذلك من حروفِ العطف فلا تتقدَّمُ عليه تقول : ما قامَ زيدٌ بل أَقْعَدَ ؟ هذا مذهبُ الجمهورِ . وزعم الزمخشري أن الهمزةَ في موضعها غيرُ مَنْوِيٍّ بها التأخيرُ ، ويُقَدِّرَ قبل الفاءِ والواوِ وثم فعلاً عُطِفَ عليه ما بعده ، فيقدِّر هنا : أتغْفَلون فَلاَ تَعْقلون ، وكذا : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ } [ سبأ : 9 ] أي : أَعَمُوا فلم يَرَوْا ، وقد خالف هذا الأصلَ ووافق الجمهورَ في مواضعَ يأتي التنبيهُ عليها . ومفعولُ " تَعْقِلون " غيرُ مرادٍ ، لأنَّ المعنى : أفلا يكونُ منكم [ عَقْلٌ ] . وقيل : تقديرهُ : أفلا تَعْقِلون قُبْحَ ما ارتكبتم مِنْ ذلك . والعَقْلُ : الإِدراكُ المانعُ من الخطأ ، وأصلُه المَنْعُ : ومنه : العِقال ، لأنه يَمْنَعُ البعيرَ ، وعَقْلُ الدِّيَّة لأنه يَمْنَعُ من قتل الجاني ، والعَقْلُ أيضاً ثوبٌ مُوَشَّى ، قال علقمة : @ 427ـ عَقْلاً ورَقْماً تَظَلُّ الطيرُ تَتْبَعُهُ كأنَّه من دم الأَجْوافِ مَدْمُومُ @@ قال ابن فارس : " ما كان منقوشاً طُولاً فهو عَقْلٌ ، أو مستديراً فهوَ رَقْمٌ " ولا محلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها . قوله : { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ } هذه الجملةُ الأمريةُ عَطْفٌ على ما قبلَها من الأوامر ، ولكن اعتُرِضَ بينها بهذه الجمل . وأصلُ " استعينوا " اسْتَعْوِنُوا فَفُعِل به ما فُعِل في { نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقد تقدَّم تحقيقُه ومعناه . " وبالصبر " متعلقٌ به والباءُ للاستعانةِ أو للسببيةِ ، والمستعانُ عليه محذوفٌ ليَعُمَّ جميعَ الأحوال المستعانِ عليها ، و " استعان " يتعدَّى بنفسِه نحو : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال أي : ملتبسينَ بالصبر ، والظاهر أنه يتعدَّى بنفسه وبالباء تقولُ : استَعَنْتُ [ الله واستعنْتُ بالله ] وقد تقدَّم أن السينَ للطلب . والصبرُ : الحَبْسُ على المكروه ، ومنه : " قُتِل فلانٌ صبراً " ، قال : @ 428ـ فَصَبْراً في مجالِ الموتِ صَبْراً فما نَيْلُ الخلودِ بمُسْتَطَاعِ @@ قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } إنَّ واسمها وخبرُها ، والضميرُ في " إنها " قيل : يعودُ على الصلاة وإنْ تقدَّم شيئان ، لأنها أغلبُ منه وأهمُّ ، وهو نظيرُ قولِه : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] أعاد الضمير على التجارةِ لأنها أهمُّ وأَغْلَبُ ، كذا قيل ، وفيه نظرٌ ، لأنَّ العطف بـ " أو " فيجبُ الإِفرادُ ، لكنَّ المرادَ أنه ذَكَر الأهمَّ من الشيئين فهو نظيرُها من هذه الجهةِ . وقيل : يعودُ على الاستعانةِ المفهومةِ من الفعلِ نحو : { هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] . وقيل : على العِبادةِ المدلولِ عليها بالصبرِ والصلاةِ ، وقيل : هو عائدٌ على الصبرِ والصلاةِ ، وإنْ كان بلفظِ المفردِ ، وهذا ليسَ بشيء . وقيل : حُذِفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه ، وتقديرُه : وإنه لكبيرٌ ، نحو قوله : @ 429ـ إنَّ شَرْخَ الشبابِ والشَّعْرَ الأسـْ ـوَدَ ما لم يُعاصَ كان جُنوناً @@ قوله : { إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } استثناءٌ مفرَّعٌ ، وجازَ ذلك وإن كانَ الكلامُ مُثْبَتاً لأنه في قوةِ المنفيِّ ، أي : لا تَسْهُل ولا تَخِفُّ إلاَّ على هؤلاء ، فـ " على الخاشعين " متعلَّقٌ بـ " كبيرة " نحو : " كَبُر عليَّ هذا " أي : عَظُم وشَقَّ . والخشوعُ : الخُضوع ، وأصلُه اللِّيْنُ والسُّهولة ، ومنه " الخُشْعَةُ " للرَّمْلَةِ المتطامنةِ ، وفي الحديث : " كانَتْ خُشْعَةً على الماءِ ثم دُحِيَتْ بعدُ " أي : كانت الأرضُ لينةً ، وقال النابغة : @ 430ـ رَمادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيَا أُبِينُه ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشِعُ @@ أي : عليه أثرُ الذلَّ ، وفَرَّق بعضُهم بين الخضوع والخُشوع ، فقال : الخُضُوع في البدنِ خاصةً ، والخُشُوع في البدنِ والصوت والبصر فهو أعمُّ منه .