Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 179-179)

Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ } : هذه تُسَمَّى لامَ الجحود ، وينصبُ بعدَها المضارعُ بإضمار " أن " ولا يجوزُ إظهارها . والفرقُ بنيها وبين لام كي أنَّ هذه على المشهور شرطُها أن تكون بعد كونٍ منفي ، ومنهم مَنْ يشترط مُضِيَّ الكونِ ، ومنهم مَنْ لم يَشْترط الكون ، ولهذه الأقوال دلائل واعتراضات مذكورة في كتب النحو استغنيت عنها هنا بما ذكرْتُه في " شرح التسهيل " . وفي خبر " كان " في هذا الموضع وما أشبهه قولان ، أحدهما : وهو قول البصريين أنه محذوفٌ وأنَّ اللامَ مقويةٌ لتعديةِ ذلك الخبر المقدر لضعفِه ، والتقدير : ما كان اللهُ مريداً لأنْ يَذَر ، فـ " أن يذر " هو مفعول " مُريداً " ، والتقديرُ : ما كانَ اللهُ مريداً تَرْكَ المؤمنين . والثاني قول الكوفيين ـ : أنَّ اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي وأنَّ الفعلَ بعدها هو خبر " كان " ، واللامُ عندهم هي العاملةُ النصبَ في الفعلِ بنفسِها لا بإضمار " أَنْ " ، والتقديرُ عندهم : ما كان الله يَذَرُ المؤمنين . وضَعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنَّ النصبَ قد وُجِد بعد هذه اللامِ ، فإنْ كان النصبُ بها نفسِها فليست زائدةً ، وإن كان النصب بإضمار " أَنْ " فَسَدَ من جهة المعنى لأنَّ " أَنْ " وما في حَيِّزها بتأويل مصدر ، والخبرُ في باب " كان " هو الاسمُ في المعنى فيلزم أن يكونَ المصدرُ الذي هو معنىً من المعاني صادقاً على اسمِها وهو مُحال " . أمَّا قولُه : " إنْ كان النصبُ بها فليست زائدةً " فممنوعٌ ؛ لأنَّ العمل لا يمنع الزيادةَ ، ألا ترى أنَّ حروفَ الجر / تُزاد وهي عاملةٌ ، وكذلك " أَنْ " عند الأخفش و " كان " في قوله : @ 1500ـ … وجيرانٍ لنا كانـوا كــرامِ @@ وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في غيرِ موضع . و " يَذَرُ " فعلٌ لا يَتَصرَّف كـ " يَدَعُ " استغناءً عنه بتصرُّف مُرادفِه وهو " ترك " ، وحُذِفَتِ الواوُ من " يَذَرُ " من غير موجبٍ تصريفي ، وإنما حُمِلت على " يَدَعُ " لأنها بمعناها ، و " يَدَعُ " حُذِفَتْ منه الواو لموجبٍ وهو وقوعُ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة ، وأمَّا الواوُ في " يَذَرُ " فوقعت بين ياءٍ وفتحة أصلية ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه عند قوله تعالى : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا } [ البقرة : 278 ] . قوله : { حَتَّىٰ يَمِيزَ } " حتى " هنا قيل : للغاية المجردة بمعنى " إلى " ، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار " أَنْ " ، وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة . والغايةُ هنا مشكلةٌ على ظاهرِ اللفظِ ؛ لأنه يصيرُ المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية وهي التمييزُ بين الخبيث والطيب ، ومفهومُه أنه إذا وُجِدت الغايةُ تَرَك المؤمنين على ما أنتم عليه . وهذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية ، وليس المعنى على ذلك قطعاً ، ويصيرُ هذا نظيرَ قولِك : " لا أُكَلِّم زيداً حتى يَقْدُمَ عمروٌ " فالكلامُ منتفٍ إلى قدومِ عمرو . والجوابُ عنه : أن " حتى " غايةٌ لما يُفْهَمُ من معنى هذا الكلامِ ، ومعناه أنه تعالى يُخَلِّص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أَنْ يَميزَ الخبيثَ من الطيب . وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الأنفال : " يُمَيِّز " بالتشديد ، والباقون بالتخفيف . وعن ابن كثير أيضاً " يُميز " من أماز ، فهذه ثلاث لغات ، يقال مازَه ومَيَّزه وأمازه . والتشديد والهمزة ليسا للنقل ، لأنَّ الفعل قبلهما متعدٍ ، وإنما فَعَّل بالتشديد وأَفْعَل بمعنى المجرد ، وهل ماز ومَيّز بمعنى واحد أو بمعنيين مختلفين ؟ قولان . ثم القائلون بالفرق اختلفوا ، فقال بعضهم : لا يقال " ماز " إلا في كثير من كثير ، فأما واحد من واحد فَمَيَّزت ، ولذلك قال أبو معاذ : يقال : " مَيَّزْتُ بين الشيئين ومِزْتُ بين الأشياء " . وقال بعضُهم عكسَ هذا : مِزْتُ بين الشيئين ومَيَّزْتُ بين الأشياءِ ، وهذا هو القياسُ ، فإنَّ التضعيفَ يُؤْذِنُ بالتكثير وهو لائقٌ بالمتعددات . ورجَّح بعضُهم " مَيَّز " بالتشديد بأنه أكثر استعمالاً ، ولذلك لم يُسْتعمل المصدرُ إلا منه فقالوا : التمييز ، ولم يقولوا : " المَيْز " يعني لم يقولوه سماعاً وإلا فهو جائز قياساً . قوله : { وَلَكِنَّ ٱللَّهَ } هذا استدراك من معنى الكلام المتقدم ، لأنه لَمَّا قال تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ } تُوُهِّم أنه لا يُطْلِعَ أحداً على غيبِه لعمومِ الخطابِ فاستدرك الرسلَ ، والمعنى : ولكنَّ اللهَ يجتبي أي يصطفي مِنْ رسلِه من يشاء فيُطْلِعُه على الغيب ، فهو ضدُّ لما قبلَه في المعنى ، وقد تقدَّم أنها تقعُ بني ضِدِّيْنِ ونقيضين ، وفي الخلافين خلافٌ . و " يَجْتَبي " : يَصْطَفي ويَخْتار ، يَفْتَعل من جَبَوْتُ المالَ والماءَ وجَبَتْهُما لغتان ، فالياءُ في " يَجْتَبي " يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ عَلى أصلِها ، وأَنْ تكونَ منقلبةً من واوٍ لانكسارِ ما قبلَها . ومفعول " يشاءُ " محذوفٌ ، وينبغي أَنْ يُقَّدَّر ما يليقُ بالمعنى ، والتقديرُ : مَنْ يشاءُ إطْلاعَه على الغيب .