Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 45, Ayat: 4-5)
Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه معطوفٌ على " خَلْقِكم " المجرورِ بـ " في " والتقديرُ : وفي ما يَبُثُّ . والثاني : أنه معطوفٌ على الضميرِ المخفوضِ بالخَلْق ، وذلك على مذهبِ مَنْ يرى العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ واستقبحه الزمخشريُّ وإنْ أُكِّد نحو : " مررتُ بك أنت وزيدٍ " يُشير بذلك إلى مذهب الجرميِّ فإنَّه يقول : إن أُكِّد جازَ ، وإلاَّ فلا ، فقولُه مذهبٌ ثالثٌ . قوله : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } و { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } قرأ " آياتٍ " بالكسر في الموضعَيْن الأخوَان ، والباقون برفعهما . ولا خلافَ في كسرِ الأولى لأنها اسمُ " إنَّ " . فأمَّا { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالكسر فيجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أنها معطوفةٌ على اسم " إنَّ " ، والخبرُ قولُه : " وفي خَلْقِكم " . كأنه قيل : وإنَّ في خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِنْ دابة آياتٍ . والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ تأكيداً لآيات الأُولى ، ويكونُ " في خَلْقكم " معطوفاً على " في السماوات " كُرِّر معه حرفُ الجَرِّ توكيداً . ونظيرُه أَنْ تقولَ : " إنَّ في بيتك زيداً وفي السوق زيداً " فزيداً الثاني تأكيدٌ للأول ، كأنك قلت : إنَّ زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطفٌ على معمولَيْ عاملَيْن البتةَ . وقد وَهِم أبو البقاء فجعلها مِنْ ذلك فقال : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } يُقرأ بكسر التاءِ ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ " إنَّ " مضمرةٌ حُذِفَتْ لدلالة " إنَّ " الأُولى عليها ، وليسَتْ " آيات " معطوفةً على " آيات " الأولى لِما فيه من العطفِ على معمولَيْ عامليْن . والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ للتأكيد لأنها مِنْ لفظ " آيات " الأُوْلى ، وإعرابُها كقولِك : " إن بثوبك دماً وبثوبِ زيد دماً " فـ " دم " الثاني مكررٌ ؛ لأنَّك مُسْتغنٍ عن ذِكْرِه " انتهى . فقوله : " وليسَتْ معطوفةً على آياتِ الأولى لِما فيه من العطفِ على عامِلَيْن " وَهَمٌ ؛ أين معمولُ العاملِ الآخر ؟ وكأنه توهَّمَ أنَّ " في " ساقطةٌ مِنْ قولِه : " وفي خَلْقِكم " أو اختلطَتْ عليه { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } بهذه ؛ لأنَّ تَيْكَ فيها ما يُوْهِمُ العطفَ على عامِلَيْن وقد ذكره هو أيضاً . وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهَيْن أيضاً ، أحدهما : أَنْ يكونَ " في خَلْقِكم " خبراً مقدَّماً ، و " آياتٌ " مبتدأً مؤخراً ، وهي جملةٌ معطوفةٌ على جملة مؤكدةٍ . بـ " إنَّ " . والثاني : أَنْ تكون معطوفةً على " آيات " الأولى باعتبار المحلِّ عند مَنْ يُجيزُ ذلك ، لا سيما عند مَنْ يقولُ : إنه يجوز ذلك بعد الخبرِ بإجماعٍ . وأمَّا قولُه : { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } الآية فقد عَرَفْتَ أنَّ الأخَوَيْن يقرآن " آيات " بالكسرِ ، وهي تحتاج إلى إيضاحٍ ، فإن الناسَ قد تكلَّموا فيها كلاماً كثيراً ، وخرَّجوها على أوجهٍ مختلفةٍ ، وبها استدلَّ على جوازِ العطفِ على عاملين . قلت : والعطفُ على عامِلَيْن لا يختصُّ بقراءةِ الأخوَيْن بل يجوز أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه أيضاً بقراءة الباقين ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى . فأما قراءةُ الأخوين ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ " اختلافِ الليلِ " مجروراً بـ " في " مضمرةً ، وإنما حُذِفَتْ لتقدُّم ذكرِها مَرَّتَيْنِ ، وحرفُ الجرِّ إذا دَلَّ عليه دليلٌ / جاز حَذْفُه وإبقاءُ عملِه . وأنشَدَ سيبويه : @ 4023 الآن قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَشْتِمُنا فاذهَبْ فما بك والأيامِ من عَجَبِ @@ تقديرُه : وبالأيام لتقدُّم الباءِ في " بك " ولا يجوزُ عَطْفُه على الكاف لأنه ليس مِنْ مذهبه - كما عَرَفْتَ - العطفُ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ ، فالتقديرُ في هذه الآيةِ : " وفي اختلافِ آيات " فـ " آيات " على ما تقدَّم من الوجهين في " آيات " قبلَها : العطفِ أو التأكيدِ . قالوا : ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبد الله " وفي اختلافِ " تصريحاً بـ " في " . فهذان وجهان . الثالث : أَنْ يُعْطَفَ " اختلافِ " على المجرورِ بـ " في " وآياتٍ على المنصوبِ بـ " إنَّ " . وهذا هو العطفُ على عاملَيْنِ ، وتحقيقُه على معمولَيْ عاملين : وذلك أنَّك عَطَفْتَ " اختلاف " على خَلْق وهو مجرورٌ بـ " في " فهو معمولُ عاملٍ ، وعَطَفْتَ " آياتٍ " على اسمِ " إنَّ " وهو معمولُ عاملٍ آخرَ ، فقد عَطَفْتَ بحرفٍ واحدٍ وهو الواوُ معمولين وهما " اختلاف " و " آيات " على معمولَيْن قبلَهما وهما : خَلْق وآيات . وبظاهرِها استدلَّ مَنْ جَوَّز ذلك كالأخفشِ . وفي المسألة أربعةُ مذاهب : المَنْعُ مطلقاً ، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ البصريين . قالوا : لأنه يُؤَدِّي إلى إقامة حرفِ العطفِ مقامَ عاملين وهو لا يجوزُ ؛ لأنه لو جاز في عامِلَيْن لجازَ في ثلاثةٍ ، ولا قائل به ، ولأنَّ حرفَ العطفِ ضعيفٌ فلا يَقْوَى أَنْ ينوبَ عن عاملَيْنِ ولأنَّ القائلَ بجوازِ ذلك يَسْتَضْعِفُه ، والأحسنُ عنده أن لا يجوزَ ، فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللَّهِ ، ولأنه بمنزلةِ التعديتَيْنِ بمُعَدٍّ واحد ، وهو غيرُ جائزٍ . قال ابن السراج : " العطفُ على عاملَيْن خطأٌ في القياسِ ، غيرُ مَسْموع من العرب " ثم حَمَل ما في هذه الآيةِ على التكرارِ للتأكيد . قال الرمَّاني : " هو كقولِك : " إنَّ في الدارِ زيداً والبيتِ زيداً " فهذا جائزٌ بإجماعٍ فتدبَّرْ هذا الوجهَ الذي ذكره ابنُ السراجِ فإنه حسنٌ جداً ، لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ كتابُ اللَّهِ إلاَّ عليه . وقد بَيَّنْتُ القراءةَ بالكسرِ ولا عيبَ فيها في القرآن على وجهٍ ، والعطفُ على عاملَيْن عيبٌ عند مَنْ أجازه ومَنْ لم يُجِزْه ، فقد تناهى في العيب ، فلا يجوزُ حَمْلُ هذه الآيةِ إلاَّ على ما ذكره ابنُ السَّراج دون ما ذهبَ إليه غيرُه " . قلت : وهذا الحَصْرُ منه غيرُ مُسَلَّمٍ فإنَّ في الآيةِ تخريجاتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكره ابن السراج يجوزُ الحَمْلُ عليها . وقال الزجاج : " ومثلُه في الشعر : @ 4024 أكلَّ امرِئٍ تَحْسَبين امْرَأً ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا @@ وأنشد الفارسيُّ للفرزدق : @ 4025 وباشَرَ راعيها الصَّلا بلَبانِه وجَنْبَيْه حَرَّ النارِ ما يتحرَّق @@ وقول الآخر : @ 4026 أَوْصَيْتُ مِنْ رُبْدَةَ قَلْباً حُرَّاً بالكلبِ خيراً والحَماةِ شَرا @@ قلت : أمَّا البيتُ الأولُ فظاهرُه أنه عَطَفَ و " نارٍ " على " امرئ " المخفوض بـ " كل " و " ناراً " الثانية على " امرَأ " الثاني . والتقدير : وتحسبين كلَّ نارٍ ناراً ، فقد عطف على معمولَيْ عاملَيْن . والبيتُ الثاني عَطَفَ فيه " جَنْبَيْه " على " بلبانه " وعَطَفَ " حَرَّ النارِ " على " الصلا " ، والتقدير : وباشر بجَنْبَيْه حرَّ النار ، والبيتُ الثالث عَطَفَ فيه " الحَماة " على " الكلب " و " شَرًّا " على " خيراً " ، تقديرُه وأَوْصَيْتُ بالحَماة شراً . وسيبويه في جميع ذلك يرى الجرَّ بخافضٍ مقدرٍ لكنه عُورض : بأنَّ إعمال حرفِ الجرِّ مضمراً ضعيفٌ جداً ، ألا ترى أنَّه لا يجوزُ " مررتُ زيدٍ " بخفضِ " زيد " إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه : @ 4027 إذا قيلَ أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ @@ يريد : إلى كليب ، وقولِ الآخر : @ 4028 - … حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأعلامِ @@ أي إلى الأعلام ، فقد فَرَّ مِنْ شيءٍ فوقَع في أضعفَ منه . وأُجيب عن ذلك : بأنه لَمَّا تَقَدَّم ذِكْرُ الحرف في اللفظِ قَوِيَتِ الدلالةُ عليه ، فكأنَّه ملفوظٌ به بخلافِ ما أَوْرَدْتموه في المثالِ والشعر . والمذهب الثاني : التفصيلُ - وهو مذهب الأخفش - وذلك أنَّه يجوز بشرطَيْنِ ، أحدُهما : أَنْ يكونَ أحدُ العاملَيْن جارًّا . والثاني : أن يتصلَ المعطوفُ بالعاطفِ أو يُفْصَلَ بلا ، مثالُ الأولِ الآيةُ الكريمةُ والأبياتُ التي قَدَّمْتُها . ولذلك استصوب المبردُ استشهادَه بالآيةِ . ومثالُ الفَصْل بـ لا قولك : " ما في الدارِ زيدٌ ولا الحجرةِ عمروٌ " ، فلو فُقِدَ الشرطانِ نحو : إنَّ / زيداً شَتَمَ بِشْراً ، وواللَّهِ خالداً هنداً ، أو فُقِدَ أحدُهما نحو : إنَّ زيداً ضربَ بَكْراً ، وخالداً بشراً . فقد نَقَلَ ابنُ مالكٍ الامتناعَ عند الجميعِ . وفيه نظرٌ لِما سَتَعْرِفُه من الخلافِ . الثالث : أنَّه يجوزُ بشرطِ أَنْ يكونَ أحدُ العامِلَيْنِ جارَّاً ، وأَنْ يكونَ متقدماً ، نحوَ الآيةِ الكريمةِ ، فلو لم يتقدَّمْ نحوَ : " إنَّ زيداً في الدار ، وعمراً السوقِ " لم يَجُزْ ، وكذا لو لم يكنْ حرفَ جرٍّ كما تقدَّمَ تمثيلُه . الرابع : الجوازُ ، ويُعْزَى للفَرَّاء . الوجهُ الرابعِ من أوجهِ تخريجِ القراءةِ المذكورة : أَنْ تنتصِبَ " آيات " على الاختصاصِ . قاله الزمخشريُّ ، وسيأتي فيما أَحْكيه عنه . وأمَّا قراءةُ الرفعِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يكونَ الأولُ والثاني ما تقدَّم في { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } . الثالث : أَنْ تكونَ تأكيداً لآيات التي قبلها ، كما كانَتْ كذلك في قراءةِ النصبِ . الرابع : أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ العطفِ على عامِلَيْن ؛ وذلك أنَّ " اختلافِ " عطفٌ على " خَلْقِكم " وهو معمولٌ لـ " في " و " آيات " معطوفةٌ على " آيات " قبلَها ، وهي معمولةٌ للابتداءِ فقد عَطَفَ على معمولَيْ عامِلَيْنِ في هذه القراءةِ أيضاً . قال الزمخشري : " قُرِئَ { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالرفع والنصبِ على قولِك : " إنَّ زيداً في الدار وعمراً في السوقِ ، أو وعمروٌ في السوق " . وأمَّا قولُه : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فمن العطفِ على عامِلَيْنِ سواءً نَصَبْتَ أم رَفَعْتَ فالعاملان في النصبِ هما : " إنَّ " ، و " في " أُقيمت الواوُ مُقامَهما فعَمِلَتْ الجرَّ في و { وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } والنصبَ في " آياتٍ " . وإذا رَفَعْتَ فالعاملانِ : الابتداءُ ، و " في " عملت الرفع في " آيات " والجرَّ في " اختلاف " " . ثم قال في توجيهِ النصبِ : " والثاني أَنْ ينتصِبَ على الاختصاصِ بعد انقضاءِ المجرور " . الوجهُ الخامسُ أَنْ يرتفعَ " آياتٌ " على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي آياتٌ . وناقَشَه الشيخُ فقال : " ونسبةُ الجرِّ والرفعِ ، والجرِّ والنصبِ للواوِ ليس بصحيحٍ ؛ لأنَّ الصحيحَ من المذاهبِ أنَّ حرفَ العطفِ لا يعملُ " قلت : وقد ناقشه الشيخُ شهابُ الدين أبو شامةَ أيضاً فقال : " فمنهم مَنْ يقولُ : هو على هذه القراءةِ أيضاً - يعني قراءةَ الرفعِ - عطفٌ على عاملَيْنِ وهما حرفُ " في " ، والابتداءُ المقتضي للرفعِ . ومنهم مَنْ لا يُطْلِقُ هذه العبارةَ في هذه القراءةِ ؛ لأنَّ الابتداءَ ليس بعاملٍ لفظي " . وقُرئ " واختلافُ " بالرفعِ " آيةٌ " بالرفعِ والتوحيدِ على الابتداء والخبر ، وكذلك قُرئ { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٌ آيةٌ } بالتوحيد . وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى " وتصريف الريح " كذا قال الشيخ . قلت وقد قرأ بهذه القراءةِ حمزةُ والكسائيُّ أيضاً ، وقد تقدَّم ذلك في سورةِ البقرةِ .