Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 72, Ayat: 3-3)
Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا } : قرأ الأخَوان وابن عامر وحفص بفتح " أنَّ " وما عُطِف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمةً ، والباقون بالكسرة . وقرأ ابنُ عامر وأبو بكرٍ " وإنه لَمَّا قام " بالكسرة ، والباقون بالفتح ، واتفقوا على الفتحِ في قوله : { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } وتلخيص هذا : أن " أنَّ " المشددةَ في هذه السورةِ على ثلاثةِ أقسامٍ : قسمٍ ليس معه واوُ العطفِ ، فهذا لا خلاف بين القُرَّاءِ في فتحِه أو كسرِه . على حسبِ ما جاءَتْ به التلاوةُ واقْتَضَتْه العربيةُ ، كقولِه : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ } لا خلافَ في فتحِه لوقوعِه موقعَ المصدرِ وكقوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً } [ الجن : 1 ] لا خلافَ في كسرِه لأنه محكيٌّ بالقول . القسم الثاني أَن يقترنَ بالواوِ ، وهو أربعَ عشرةَ كلمةً ، إحداها : لا خلاف في فتحِها وهي : قولُه تعالى : { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } [ الجن : 18 ] وهذا هو القسم الثالث والثانية : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ } [ الجن : 19 ] كَسَرَها ابنُ عامرٍ وأبو بكر ، وفتحها الباقون . والاثنتا عشرةَ الباقيةُ : فَتَحها الأخوان وابن عامرٍ وحفص ، وكسرها الباقون ، كما تقدَّم تحريرُ ذلك كلِّه . والاثنتا عشرةَ هي قولُه : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا } ، { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ } [ الجن : 4 ] { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 5 ] { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [ الجن : 7 ] { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [ الجن : 8 ] { وَأَنَّا كُنَّا } [ الجن : 9 ] { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ } [ الجن : 10 ] { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ } [ الجن : 11 ] { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 12 ] { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 13 ] { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ } [ الجن : 14 ] . وإذا عَرَفْتَ ضَبْطَها من حيث القراءاتُ فالتفِتْ إلى توجيهِ ذلك . وقد اختلف الناسُ / في ذلك فقال أبو حاتم في الفتح : " هو معطوفٌ على مرفوعِ " أُوْحِيَ " فتكونُ كلُّها في موضعِ رفعٍ لِما لم يُسَمَّ فاعِلُه " . وهذا الذي قاله قد رَدَّه الناسُ عليه : مِنْ حيث إنَّ أَكثرَها لا يَصِحُّ دخولُه تحت معمولِ " أُوْحِي " ألا ترى أنه لو قيل : أوُحي إليِّ أنَّا لَمَسْنا السماءَ ، وأنَّا كُنَّا ، وأنَّا لا نَدْري ، وأنَّا منَّا الصالحون ، وأنَّا لمَّا سَمِعْنا ، وأنَّا مِنَّا المسلمون لم يَسْتَقِمْ معناه . وقال مكي : " وعَطْفُ " أنَّ " على { آمَنَّا بِهِ } [ الجن : 2 ] أتَمُّ في المعنى مِنْ العطفِ على " أنَّه استمعَ " لأنك لو عَطَفْتَ { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 5 ] { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 13 ] { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [ الجن : 8 ] ، وشِبْهَ ذلك على { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ } [ الجن : 1 ] لم يَجُزْ ؛ لأنه ليس مِمَّا أُوْحِي ، إليه ، إنما هو أمرٌ أو خبر ، وأنه عن أنفسهم ، والكسرُ في هذا أَبْينُ ، وعليه جماعة مِنْ القُراءِ . الثاني : أنَّ الفتحَ في ذلك عَطْفٌ على مَحَلِّ " به " مِنْ " آمَنَّا به " . قال الزمخشري : " كأنه قال : صَدَّقْناه وصَدَّقْناه أنه تعالى جَدُّ رَبَّنا ، وأنَّه كان يقولُ سفيهُنا ، وكذلك البواقي " ، إلاَّ أنَّ مكيَّاً ضَعَّفَ هذا الوجهَ فقال : والفتحُ في ذلك على الحَمْلِ على معنى " آمَنَّا به " وفيه بُعْدٌ في المعنى ؛ لأنهم لم يُخْبِروا أنهم آمنوا بأنَّهم لَمَّا سَمِعوا الهدى آمنوا به ، ولم يُخْبِروا أنهم آمنوا أنه كان رجالٌ ، إنما حكى اللَّهُ عنهم أنهم قالوا ذلك مُخْبِرين به عن أنفسِهم لأصحابِهم ، فالكسرُ أَوْلى بذلك " وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ ؛ فإنَّ المعنى على ذلك صحيحٌ . وقد سَبَق الزمخشريَّ إلى هذا التخريجِ الفَرَّاءُ والزجَّاجُ . إلاَّ أنَّ الفَرَّاء استشعر إشكالاً وانفصل عنه ، فإنه قال : " فُتِحَتْ " أنَّ " لوقوع الإِيمانِ عليها ، وأنت تجدُ الإِيمانَ يَحْسُنُ في بعضِ ما فُتحَ دونَ بعضٍ ، فلا يُمْنَعُ من إمضائِهنَّ على الفتح ، فإنه يَحْسُنُ فيه ما يُوْجِبُ فَتْحَ " أنَّ " نحو : صَدَقْنا وشَهِدْنا ، كما قالت العربُ : @ 4347ـ … وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا @@ فنصَبَ " العيونَ " لإِتباعِها الحواجبَ ، وهي لا تُزَجَّجُ . إنما تُكَحَّلُ ، فأضمر لها الكُحْلَ " انتهى . فأشار إلى شيءٍ مِمَّا ذكرَه مكيٌّ وأجاب عنه . وقال الزجَّاج : " لكنَّ وجهَه أَنْ يكونَ محمولاً على معنى " آمنَّا به " ؛ لأنَّ معنى " آمَنَّا به " صَدَّقْناه وعَلِمْناه ، فيكون المعنى : صَدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ ربِّنا " . الثالث : أنه معطوفٌ على الهاء به " به " ، أي : آمنَّا به وبأنه تعالى جَدُّ ربِّنا ، وبأنه كان يقولُ ، إلى آخره ، وهو مذهب الكوفيين . وهو وإن كان قوياً من حيث المعنى إلاَّ أنَّه ممنوعٌ مِنْ حيث الصناعةُ ، لِما عَرَفْتَ مِنْ أنَّه لا يُعْطَفُ على الضميرِ المجرورِ إلاَّ بإعادةِ الجارِّ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذَيْن القولَيْن مستوفىً في سورةِ البقرة عند قولِه : { وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 217 ] على أنَّ مكِّيَّاً قد قَوَّى هذا لمَدْرَكٍ آخرَ وهو حَسَنٌ جداً ، قال رحمه الله : " وهو يعني العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ في " أنَّ " أجوَدُ منه في غيرها ، لكثرةِ حَذْفِ حرفِ الجرِّ مع " أنَّ " . ووجهُ الكسرِ العطفُ على قوله : { إِنَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 1 ] فيكون الجميعُ معمولاً للقولِ ، أي : فقالوا : إنَّا سَمِعْنا ، وقالوا : إنَّه تعالى جَدُّ ربِّنا إلى آخرِه . وقال بعضُهم : الجملتان مِنْ قولِه تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [ الجن : 7 ] معترضتان بين قولِ الجنِّ ، وهما مِنْ كلامِ الباري تعالى ، والظاهرُ أنَّهما مِنْ كلامِهم ، قاله بعضُهم لبعضٍ . ووجهُ الكسرِ والفتحِ في قولِه : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ } [ الجن : 19 ] ما تقدَّم . ووَجْهُ إجماعِهم على فتح { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ } [ الجن : 18 ] وجهان ، أحدُهما : أنَّه معطوفٌ على { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ } [ الجن : 1 ] فيكونُ مُوْحى أيضاً . والثاني : أنه على حَذْفِ حرفِ الجرِّ ، وذلك الحرفُ متعلِّقٌ بفعل النهي ، أي : فلا تَدْعوا مع اللَّهِ أحداً ؛ لأنَّ المساجدَ للَّهِ ، ذكرهما أبو البقاء . قال الزمخشري : " أنه استمع " بالفتح ؛ لأنَّه فاعلُ " أُوْحي " و { إِنَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 1 ] بالكسرِ ؛ لأنَّه مبتدأٌ مَحْكِيٌّ بعد القولِ ، ثم تحملُ عليهما البواقي ، فما كان مِنَ الوحي فُتِحَ ، وما كان مِنْ قَوْل الجِنِّ كُسِرَ ، وكلُّهُنَّ مِنْ قولِهم إلاَّ / الثِّنْتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ وهما : { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ } [ الجن : 18 ] { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ } [ الجن : 19 ] . ومَنْ فتح كلَّهن فعَطْفاً على مَحَلِّ الجارِّ والمجرور في { آمَنَّا بِهِ } [ الجن : 2 ] ، أي : صَدَّقْناه ، وصَدَّقْنا أنه " . وقرأ العامَّةُ : { جَدُّ رَبِّنَا } بالفتح مضافاً لـ " رَبِّنا " ، والمرادُ به هنا العظمةُ . وقيل : قُدْرتُه وأمرُه . وقيل : ذِكْرُه . والجَدُّ أيضاً : الحَظُّ ، ومنه قولُه عليه السلام : " ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ " والجَدُّ أيضاً : أبو الأبِ ، والجِدُّ بالكسرِ ضِدُّ التَّواني في الأمر . وقرأ عكرمةُ بضمِّ باءِ " رَبُّنا " وتنوينِ " جَدٌّ " على أَنْ يكون " ربُّنا " بدلاً مِنْ " جَدٌّ " ، والجَدُّ : العظيم . كأنه قيل : وأنَّه تعالى عظيمٌ ربُّنا ، فأبدل المعرفة من النكرةِ ، وعنه أيضاً " جَدَّاً " منصوباً منوَّناً ، " رَبُّنا " مرفوعٌ . ووجْهُ ذلك أَنْ ينتصِبَ " جَدَّاً " على التمييز ، و " ورَبُّنا " فاعلٌ بـ " تعالى " وهو المنقولُ مِنْ الفاعليةِ ، إذ التقديرُ : تعالى جَدُّ رَبِّنا ، ثم صار تعالى ربُّنا جَدَّاً ، أي : عَظَمةً نحو : تَصَبَّبَ زيدٌ عَرَقاً ، أي : عَرَقُ زيدٍ . وعنه أيضاً وعن قتادةَ كذلك ، إلاَّ أنَّه بكسرِ الجيم ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، و " رَبُّنا " فاعلٌ بـ " تعالى " والتقدير : تعالى ربُّنا تعالِياً جدَّاً ، أي : حقاً لا باطلاً . والثاني : أنَّه مصنوبٌ على الحالِ ، أي : تعالى ربُّنا حقيقةً ومتمكِّناً قاله ابنُ عطية . وقرأ حميد بن قيس " جُدُّ ربِّنا " بضم الجيم مضافاً لـ " ربِّنا " وهو بمعنى العظيم ، حكاه سيبويه ، وهو في الأصل من إضافةِ الصفةِ لموصوفِها ؛ إذ الأصلُ : ربُّنا العظيمُ نحو : " جَرْدُ قَطِيفة " الأصل قطيفة جَرْدٌ ، وهو مُؤَول عند البَصْريين وقرأ ابن السَّمَيْفَع " جَدَى رَبِّنا " بألفٍ بعد الدال مضافاً لـ " ربِّنا " . والجَدى والجَدْوى : النَّفْعُ والعَطاء ، أي : تعالى عَطاءُ ربِّنا ونَفْعُه . والهاءُ في " أنَّه استمعَ " " وأنَّه تعالى " وما بعد ذلك ضميرُ الأمرِ والشأنِ ، وما بعده خبرُ " أنَّ " وقوله { مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً } مستأنَفٌ فيه تقريرٌ لتعالِي جَدِّه .