Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 5-5)
Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { ٱلأَشْهُرُ } : يجوز أن تكون الألف واللام للعهد ، والمرادُ بهذه الأشهرِ الأشهرُ المتقدمة في قوله : { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } ، والعربُ إذا ذكرت نكرةً ، ثم أرادت ذِكْرها ثانياً ، أتت بمضمرِه أو بلفظه معرَّفاً بأل ، ولا يجوز أن نَصِفَه حينئذٍ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة ، فلو قيل : " رأيت رجلاً فأكرَمْتُ الرجلَ الطويل " لم تُرِد بالثاني الأولَ ، وإن وَصَفْتَه بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك : " فأكرمت الرجل المذكور " ، ومنه هذه الآيةُ فإن الأشهر قد وُصِفَتْ بالحُرُم ، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة . ويجوز أن يُرادَ بها غيرُ الأشهرِ المتقدمة فلا تكون أل للعهد ، والوجهان مقولان في التفسير . والانسلاخُ هنا من أحسنِ الاستعارات ، وقد بَيَّن ذلك أبو الهيثم فقال : " يُقال : " أَهْلَلْنا شهرَ كذا " أي : دَخَلَْنا فيه ، فنحن نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفِه لباساً ، ثم نَسْلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ ، وأنشد : @ 2448 إذا ما سَلَخْتُ الشهرَ أَهْلَلْتُ مثلَه كفىٰ قاتِلاً سَلْخي الشهورَ وإهلالي @@ قوله : { كُلَّ مَرْصَدٍ } في انتصابه وجهان أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرفِ المكاني . قال الزجاج : " نحو : ذهبت مذهباً " . وقد ردَّ الفارسيُّ عليه هذا القولَ من حيث إنه ظرف مكان مختص ، والمكانُ المختصُّ لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة " في " ، نحو : صَلَّيْتُ في الطريق ، وفي البيت ، ولا يَصِلُ بنفسه إلا في ألفاظٍ محصورةٍ بعضُها ينقاسُ وبعضها يُسمع ، وجعل هذا نظير ما فَعَلَ سيبويه في بيت ساعِدة : @ 2449 لَدْنٌ بهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ @@ وهو أنه جعله مما حُذِف فيه الحرفُ اتِّساعاً لا على الظرف ؛ لأنه ظرف مكان مختص . قال الشيخ : " إنه ينتصبُ على الظرف ؛ لأنَّ معنى " واقعدوا " لا يُراد به حقيقةُ القعود ، وإنما يُراد : ارصُدوهم ، وإذا كان كذلك فقد اتفق العاملُ والظرف في المادة ، ومتى اتفقا في المادة لفظاً أو معنىً وصل إليه بنفسه تقول : جلست مجلسَ القاضي ، وقعدت مجلسَ القاضي ، والآيةُ من هذا القبيل " . والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرف الجر وهو " على " أي : على كلِّ مَرْصَد ، وهذا قول الأخفش ، وجعله مِثْلَ قولِ الآخر : @ 2450 تَحِنُّ فَتُبْدِي ما بها مِنْ صَبابةٍ وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضَاني @@ وهذا لا ينقاسُ بل يُقتصر فيه على السَّماع كقوله تعالى : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ } أي : على صراطك ، اتفق الكل على أنه على تقدير " على " . وقال بعضُهم : هو على تقدير الباء أي بكل مرصد ، نقله أبو البقاء : وحينئذٍ تكون الباء بمعنى " في " فينبغي أن تُقَدَّرَ " في " لأن المعنى عليها ، وجعله نظيرَ قولِ الشاعر : @ 2451 نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ @@ والمَرْصَدُ مَفْعَل مِنْ رصده يَرْصُدُه أي : رَقَبه يَرْقُبُه وهو يَصْلُح للزمان والمكان والمصدر ، قال عامر بن الطفيل : @ 2452 ولقد عَلِمْتَ وما إِخالك ناسِيا أنَّ المنيَّةَ للفتى بالمَرْصَدِ @@ والمِرْصاد : المكانُ المختص بالترصُّد ، والمَرْصَدُ يقع على الراصد سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً ، وكذلك يقع على المرصود ، وقولُه تعالى : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن : 27 ] يَحْتمل كلَّ ذلك ، وكأنه في الأصل مصدرٌ ، فلذلك التُزِم فيه الإِفرادُ والتذكير .