Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 8-8)

Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا } : المستفهمُ عنه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه . فقدَّره أبو البقاء : " كيف تَطْمئنون أو : كيف يكونُ لهم عهدٌ " . وقدَّره غيره : كيف لا تقاتلونهم . والتقديرُ الثاني مِنْ تقديرَي أبي البقاء أحسنُ ، لأنه مِنْ جنس ما تقدَّم ، فالدلالةُ عليه أقوى ، وقد جاء الحذف في هذا التركيبِ كثيراً ، وتقدَّم منه قولُه تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } [ آل عمران : 25 ] { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا } [ النساء : 41 ] ، وقال الشاعر : @ 2456 وخبَّرْ تُماني أنَّما الموتُ بالقُرى فكيف وهاتا هَضْبةٌ وكَثِيبُ @@ أي : كيف مات ؟ ، وقال الحطيئة : @ 2457 فكيف ولم أعلَمْهُمُ خَذَلُوكُمْ على مُعْظِمٍ ولا أَدِيْمَكُمُ قَدُّوا @@ أي : كيف تَلُومني في مدحهم ؟ قال الشيخ : " وقدَّر أبو البقاء الفعلَ بعد " كيف " بقوله : " كيف تطمئنون " ، وقدَّره غيرُه بكيف لا تقاتِلونهم " . قلت : ولم يقدّره أبو البقاء بهذا وحدَه ، بل به وبالوجه المختار كما قدَّمْتُه عنه . قوله : { وَإِن يَظْهَرُوا } هذه الجملةُ الشرطية في محل نصبٍ على الحال أي : كيف يكونُ لهم عهدٌ وهم على حالةٍ تنافي ذلك ؟ وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قوله : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } [ الأعراف : 169 ] . و " لا يرقُبوا " جوابُ الشرط . وقرأ زيد بن علي : " وإن يُظْهَروا " ببنائِه للمفعول ، مِنْ أظهره عليه أي : جعله غالباً له . قوله : { إِلاًّ } مفعولٌ به بـ " يرقُبوا " أي : لا يَحْفظوا . وفي " الإِلِّ " أقوالٌ لأهل اللغةِ أحدها : أن المراد به العهد ، قاله أبو عبيدة وابن زيد والسدِّي ، ومنه قول الشاعر : @ 2458 لولا بنو مالكٍ والإِلُّ مَرْقَبَةٌ ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ @@ أي : الحِلْف . وقال آخر : @ 2459 وجَدْناهُما كاذِباً إِلُّهُمْ وذو الإِلِّ والعهدِ لا يَكْذِبُ @@ وقال آخر : @ 2460 أفسدَ الناسَ خُلوفٌ خَلَفُوا قطعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ @@ وفي حديث أمِّ زرع : " بيت أبي زرع وَفِيُّ الإِلِّ ، كريم الخِلّ ، بَرودُ الظلّ " أي : وفيُّ العهد . الثاني : أن المرادَ به القَرابة ، وبه قال الفراء ، وأنشد لحسان رضي الله عنه : @ 2461 لَعَمْرك إنَّ إِلَّكَ مِنْ قريشٍ كإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعامِ @@ وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله : @ 2462 - … قطعوا الإِلَّ وأعراق الرَّحِمْ @@ الثالث : أن المرادَ به الله تعالى أي : هو اسم من أسمائه ، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عُرِض عليه كلام مُسَيْلمه - لعنه الله ـ : " إنَّ هذا الكلام لم يَخْرج من إلّ " أي : الله عز وجل . ولم يرتضِ هذا الزجاج قال : " لأن أسماءَه تعالى معروفة في الكتاب والسنة ، ولم يُسْمَعْ أحدٌ يقول : يا إلُّ افعلْ لي كذا . الرابع : أن الإِلَّ الجُؤَار ، وهو رَفْعُ الصوت عند التحالُفِ ، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا وتحالفوا جَأَرُوا بذلك جُؤَاراً ، ومنه قول أبي جهل : @ 2463 لإِلٍّ علينا واجبٍ لا نُضِيعُه متينٍ قُواه غيرِ منتكثِ الحبلِ @@ الخامس : أنه مِنْ " ألَّ البرقُ " أي : لَمَع . قال الأزهري : " الأَلِيل : البريق ، يقال : ألَّ يَؤُلُّ أي : صفا ولمع " . وقيل : الإِلُّ مِن التحديد ومنه " الأَلَّةُ " الحَرْبة وذلك لِحِدَّتها . وقد جعل بعضُهم بين هذه المعاني قَدَراً مشتركاً يَرْجِعُ إليه جميعُ ما ذَكَرْتُه لك ، فقال الزجاج : " حقيقةُ الإِلِّ عندي على ما توحيه اللغة التحديد للشيء ، فَمِنْ ذلك : الأَْلَّةُ : الحَرْبَةُ ، وأُذُن مُؤَلَّلَة ، فالإِلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد والقَرابة والجُؤَار من هذا ، فإذا قلت في العهد : " بينهما إلٌّ " فتأويلُه أنهما قد حَدَّدا في أَخْذ العهود ، وكذلك في الجُؤَار والقَرابة . وقال الراغب : " الإِلُّ : كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ وحِلْفٍ وقرابة تَئِلُّ أي : تَلْمَع ، وألَّ الفَرَسُ : أسرع ، والأَْلَّةُ : / الحَرْبَةُ اللامعة " ، وأنشد غيرُه على ذلك قولَ حماس بن قيس يوم فتح مكة : @ 2464 إن يُقْبلوا اليومَ فما لي عِلَّةْ هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّةْ وذو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّلَّةُ @@ قال : " وقيل : الإِلُّ والإِيلُ اسمان لله تعالى ، وليس ذلك بصحيحٍ ، والألَلاَن صفحتا السكين " انتهى . ويُجمع الإِلُّ في القِلَّة آلٌّ ، والأصل : أَأْلُل بزنة أَفْلُس ، فأُبدلت الهمزةُ الثانيةُ ألفاً لسكونها بعد أخرى مفتوحة ، وأُدْغمت اللامُ في اللام . وفي الكثرة على إلال كذِئْب وذِئاب . والأَْلُّ بالفتح قيل : شدَّة القنوط . قال الهروي في الحديث : " عَجب ربكم مِنْ ألِّكم وقُنوطكم " قال أبو عبيد : " المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة ، والمحفوظ عندنا فَتْحُها ، وهو أشبهُ بالمصادر ، كأنه أراد مِنْ شدة قنوطكم ، ويجوز أن يكونَ مِنْ رَفْعِ الصوت ، يقال : ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ وأَلَلاً وأَلِيلاً إذا رفع صوتَه بالبكاء ، ومنه يقال : له الويل والأَلِيل ، ومنه قولُ الكميت : @ 2465 وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكاعِبُ الفُضُلُ @@ انتهى . وقرأت فرقة : " ألاًّ " بالفتح ، وهو على ما ذكر مِنْ كونِه مصدراً مِنْ ألَّ يَؤُلُّ إذا عاهد . وقرأ عكرمة : " إيلاً " بكسرِ الهمزة ، بعدها ياءٌ ساكنة ، وفيه ثلاثة أوجهٍ ، أحدها : أنه اسمُ الله تعالى ، ويؤيد ذلك ما تقدم ذلك في جبريل وإسرائيل أن المعنى عبد الله . والثاني : أنه يجوزُ أن يكون مشتقاً مِنْ آل يَؤُول إذا صار إلى آخر الأمر ، أو مِنْ آل يَؤُول إذا ساسَ قاله ابن جني أي : لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة . وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فَقُلِبَتْ ياءً كريح . الثالث : أنه هو الإِلُّ المضعف ، وإنما اسْتُثْقِل التضعيفُ فأبدل إحداهما حرفَ علةٍ كقولِهم : أَمْلَيْت الكتاب وأَمْلَلْته . قال : الشاعر : @ 2466 يا ليتَما أمُّنا شالَتْ نَعَمَتُها أَيْما إلى جنةٍ أَيْما إلى نارِ @@ قوله : { وَلاَ ذِمَّةً } الذِّمَّة : قيل العهد ، فيكون مما كُرِّر لاختلافِ لفظِه إذا قلنا : إنَّ الإِلَّ العهدُ أيضاً ، فهو كقوله تعالى : { صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِم وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] . وقوله : @ 2467 ـ … وأَلْفىٰ قولَها كَذِباً ومَيْنا @@ وقوله : @ 2468 ـ … وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبعدُ @@ وقيل : الذِّمَّة : الضَّمان ، يقال : هو في ذمَّتي أي : في ضماني وبه سُمِّي أهلُ الذِّمَّة لدخولهم في ضمانِ المسلمين ، ويقال : " له عليَّ ذِمَّةٌ وذِمام ومَذَمَّة ، وهي الذِّمُّ " . قال ذلك ابن عرفة ، وأنشد لأسامة بن الحرث : @ 2469 يُصَيِّح بالأَْسْحار في كل صَارَة كما ناشد الذِّمَّ الكفيلَ المعاهِدُ @@ وقال الراغب : " الذِّمام : ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته مِنْ عهد ، وكذلك الذِّمَّة والمَذَمَّة والمَذِمَّة " يعني بالفتح والكسر وقيل : لي مَذَمَّةٌ فلا تَهْتكها . وقال غيره : " سُمِّيَتْ ذِمَّة لأنَّ كلَّ حُرْمة يلزمك مِنْ تضييعها الذَّمُّ يقال لها ذِمَّة " ، وتُجْمع على ذِمّ كقوله : @ 2470 - … كما ناشد الذِّمَّ … @@ وعلى ذِمَم وذِمَام . وقال أبو زيد : " مَذِمَّة بالكسر مِنَ الذِّمام وبالفتح من الذَّمِّ " . وقال الأزهري : " الذِّمَّة : الأمان " ، وفي الحديث : " ويَسْعى بذمَّتِهم أَدْناهم " ، قال أبو عبيد : " الذمَّة الأمانُ ههنا ، يقول : إذا أعطى أدنى الناس أماناً لكافر نَفِذ عليهم ، ولذلك أجاز عمر رضي الله عنه أمان عبدٍ على جميع العسكر " . وقال الأصمعي : " الذِّمَّة : ما لَزِم أن يُحْفَظَ ويُحْمى " . قوله : { يُرْضُونَكُم } فيه وجهان ، أحدهما : أنه مستأنفٌ ، وهذا هو الظاهر ، أخبر أن حالهم كذلك . والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل " لا يَرْقُبوا " ، قال أبو البقاء : " وليس بشيءٍ لأنهم بعد ظُهورهم لا يُرضون المؤمنين " . قوله : { وَتَأْبَىٰ } يقال : أَبَىٰ يَأْبَىٰ إبىً أي : اشتد امتناعُه : فكلُّ إباءٍ امتناعُ مِنْ غير عكس قال : @ 2471 أبىٰ الله إلا عَدْلَه ووفاءَه فلا النكرُ معروفٌ ولا العُرْفُ ضائعُ @@ وقال آخر : @ 2472 أبىٰ الضيمَ والنعمانُ يَحْرقُ نابَه عليه فَأَفْضى والسيوفُ مَعَاقِلُهْ @@ فليس مَنْ فسَّره بمطلق / الامتناع بمصيبٍ . ومجيءُ المضارعِ مه على يَفْعَل بفتح العين شاذٌّ ، ومثله قَلَى يَقْلَىٰ في لغة .