Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 23-42)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى ما أكرم به يوسف من الإِقامة في القصر مع عزيز مصر ، ذكر هنا ما تعرّض له عليه السلام من أنواع الفتنة والإِغراء من زوجة العزيز ، وصموده أمام تلك الفتنة العارمة ، وما ظهر منه من العفة والنزاهة حتى آثر دخول السجن على عمل الفاحشة ، وكفى بذلك برهاناً على عفته وطهارته . اللغَة : { وَرَاوَدَتْهُ } المراودة : الطلب برفقٍ ولين مأخوذة من راد يرود إذا جاء وذهب ومنه الرائد لطلب الكلأ ، يقال في الرجل : راودها عن نفسها ، وفي المرأة راودته عن نفسه أي طلبت منه مضاجعتها { هَيْتَ } اسم فعل أمر بمعنى تعال وهلُمّ { مَثْوَايَ } مقامي ، والثواء الإِقامة مع الاستقرار { هَمَّتْ } الهمُّ يأتي بمعنى العزم والقصد ، ومنه { وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } [ غافر : 5 ] ويأتي بمعنى الخاطر وحديث النفس دون عزم قال الشاعر : @ هممتُ بهمٍّ من بثينةَ لو بدا شفيتُ غليلاتِ الهوى من فؤاديا @@ فالهمُّ من امرأة العزيز كان هم عزمٍ وتصميم ، والهمُّ من يوسف كان مجرد حديث نفس { ٱلسُّوۤءَ } المنكر ، والفجور ، والمكروه { وَٱلْفَحْشَآءَ } ما تناهى قبحه والمراد به الزنى { قَدَّتْ } القدُّ : الشق والقطع وأكثر ما يستعمل في الطول ، والقطُّ يستعمل في العرض { أَلْفَيَا } وجدا { كَيْدِكُنَّ } الكيد : المكر والحيلة { ٱلْخَاطِئِينَ } المتعمدين للذنب قال الأصمعي : خطئ الرجل فهو خاطئ إذا تعمد الذنب ، وأخطأ يخطئ إذا غلط ولم يتعمد { شَغَفَهَا حُبّاً } وصل حبه إلى سويداء قلبها قال الزجاج : الشغاف سويداء القلب { أَصْبُ } أملْ يقال : صبا إلى اللهو إذا مال إليه . التفسِير : { وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } هذه هي المحنة الثالثة بعد محنة الجب والاسترقاق ، والمراودةُ الطلبُ برفقٍ ولين كما يفعل المخادع بكلامه المعسول المعنى : طلبت امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها منه أن يضاجعها ، ودعته برفق ولين أن يواقعها ، وتوسَّلت إليه بكل وسيلةٍ { وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ } أي غلّقت أبواب البيوت عليها وعلى يوسف وأحكمت إغلاقها قال القرطبي : كانت سبعة أبواب غلّقتها ثم دعته إلى نفسها { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } أي هلُمَّ وأسرع إلى الفراش فليس ثمة ما يُخشى قال في البحر : أمرته بأن يسرع إليها { قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ } أي عياذاً بالله من فعل السوء قال أبو السعود : وهذا إشارة إلى أنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه ، لما أراه الله من البرهان النيِّر على ما فيه من غاية القبح ونهاية السوء { إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ } أي إن زوجك هو سيدي العزيز الذي أكرمني وأحسن تعهدي فكيف أسيء إليه بالخيانة في حَرَمه ؟ { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } أي لا يظفر الظالمون بمطالبهم ، ومنهم الخائنون المُجازون الإِحسانَ بالسوء ، ثم أخبر تعالى ان امرأة العزيز حاولت إيقاعه في شراكها ، وتوسَّلت إليه بكل وسائل الإِغراء ، ولولا أنَّ الله جلَّ وعلا حفظه من كيدها لهلك فقال { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أي همَّت بمخالطته عن عزمٍ وقصدٍ وتصميم ، عزماً جازماً على الفاحشة لا يصرفها عنها صارف ، وقصدت إجباره على مطاوعتها بالقوة ، بعد أن استحكمت من تغليق الأبواب ، ودعوته إلى الإِسراع ، مما اضطره إلى الهرب إلى الباب { وَهَمَّ بِهَا } أي مالت نفسه إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ، وحدثته نفسُه بالنزول عند رغبتها حديث نفسٍ ، دون عزمٍ وقصد ، فبين الهمين فرق كبير قال الإِمام الفخر : الهمُّ خطورُ الشيء بالبال أو ميلُ الطبع ، كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسُه على الميل إليه وطلب شربه ، ولكنْ يمنعه دينُه عنه { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } جوابه محذوفٌ أي لولا حفظ الله ورعايتُه ليوسف ، وعصمتُه له لخالطها وأمضى ما حدثته نفسه به ، ولكنَّ الله عصمه بالحفظ والتأييد فلم يحصل منه شيءٌ البتَّة قال في البحر : نسب بعضُهم ليوسف ما لا يجوز نسبتُه لآحاد الفُسَّاق ، والذي أختاره أن " يوسف " عليه السلام لم يقع منه همٌّ البتَّة ، بل هو منفيٌّ لوجود رؤية البرهان كما تقول : " قارفتَ الذنبَ لولا أن عصمك الله " وكقول العرب : " أنتَ ظالمٌ إن فعلتَ " وتقديره : إن فعلتَ فأنتَ ظالم وكذلك هنا التقدير : لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها ولكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهمُّ ، وأمّا أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحدٍ منهم شيءٌ من ذلك ، لأنها أقوالٌ متكاذبة يناقضُ بعضُها بعضاً مع كونها قادحة في بعض فساق الملل فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة وقال أبو السعود : إن همَّه بها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ، ميلاً جبلياً ، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً ، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ونفرته عنه ، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين ، وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمّ منه تسجيلاً محكماً ؟ وما قيل : إنه حلَّ الهميان ، وجلس مجلس الختان ، فإنما هي خرافاتٌ وأباطيل ، تمجها الآذان ، وتردّها العقول والأذهان { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ } أي ثبتناه على العفة أمام دوافع الفتنة والإِغراء لنصرف عنه المنكر والفجور ، وهذه آيةٌ بيِّنة ، وحجةٌ قاطعة على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية ، ولو كان كما زعموا لقال " لنصرفه عن السوء والفحشاء " فلما قال { لِنَصْرِفَ عَنْهُ } دلَّ على أن ذلك شيء خارج عن الإرادة فصرفه الله عنه ، بما منحه من موجبات العفة والعصمة { وَٱلْفَحْشَآءَ } أي لنصرف عنه الزنى الذي تناهى قبحُه { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله لطاعته ، واصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته ، فلا يستطيع أن يغويهم الشيطان . . ثم أخبر تعالى بما حصل من المفاجأة العجيبة بقدوم زوجها وهما يتسابقان نحو الباب ، ولا تزال هي في هياجها الحيواني { وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ } أي تسابقا نحو باب القصر ، هو للهرب ، وهي للطلب { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } أي شقت ثوبه من خلف لأنها كانت تلحقه فجذبته فشقت قميصه { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى ٱلْبَابِ } أي وجدا العزيز عند باب القصر فجأة وقد حضر في غير أوان حضوره ، وبمهارة فائقة تشبه مهارة إبليس انقلب الوضع فأصبح الظالم مظلوماً ، والبريء متهماً { قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي ما جزاؤه إلا السجن أو الضرب ضرباً مؤلماً وجيعاً { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } أي قال يوسف مكذباً لها : هي التي دعتني إلى مقارفة الفاحشة لا أني أردت بها السوء { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } قال ابن عباس : كان طفلاً في المهد أنطقه الله ، وكان ابن خالها قال في البحر : وكونُه من أهلها أوجب للحجة عليها ، وأوثقُ لبراءة يوسف ، وأنفى للتهمة { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } أي إن كان ثوبُه قد شُقَّ من أمام فهي صادقة وهو كاذب { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } أي وإن كان ثوبه قد شُقَّ من الوراء فهي كاذبة وهو صادق ، لأن الأمر المنطقي أن يُشق الثوب من خلف إن كانت هي الطالبة له وهو الهارب { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } أي فلما رأى زوجها أن الثوب قد شُقَّ من الوراء { قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ } أي إن هذا الأمر من جملة مكركن واحتيالكنَّ أيتها النسوة { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } تأكيد لما سبق ذكره أي مكركنَّ معشر النسوة واحتيالكنَّ للتخلص مما دبرتُنَّ شيءٌ عظيم { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا } أي يا يوسف أكتم هذا الأمر ولا تذكره لأحد ، يقول سيد قطب عليه الرحمة والرضوان : وهنا تبدو صورةٌ من " الطبقة الراقية " في المجتمع الجاهلي ، رخاوةٌ في مواجهة الفضائح الجنسية ، وميلٌ إلى كتمانها عن المجتمع ، فيلتفت العزيز إلى يوسف البريء ويأمره بكتم الأمر وعدم إظهاره لأحد ، ثم يخاطب زوجُه الخائن بأسلوب اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق { وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } أي توبي واطلبي المغفرة من هذا الذنب القبيح ، وكأن هذا هو المهم محافظة على الظواهر { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ } أي من القوم المتعمدين للذنب ، وفي هذا إشارة إلى أن العزيز كان قليل الغَيْرة حيث لم ينتقم ممن أرادت خيانته ، وتدنيس فراشه بالإِثم والفجور قال ابن كثير : كان زوجها ليِّن العريكة سهلاً ، أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ } أي قال جماعة من النساء في مدينة مصر ، روي أنهن خمس نسوة : امرأة ساقي العزيز ، وامرأة الحاجب ، وامرأة الخباز ، وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة صاحب السجن قاله ابن عباس وغيره ، والأظهر أن تلك الواقعة شاعت في البلد ، واشتهرت وتحدث بها النساء { ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } أي امرأة عزيز مصر تطلب من خادمها وعبدها أن يواقعها وتخادعه وتتوسل إليه لقضاء وطرها منه قال أبو حيان : وتصريحهن بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع ، لأن النفوس أميل لسماع أخبار ذوي الجاه ، وعبَّرن بـ { تُرَاوِدُ } للدلالة على أن ذلك صار سجيَّةً لها فهي دائماً تخادعه عن نفسه لأن المضارع يفيد التجدد والاستمرار { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } أي بلغ حبُّه شَغَاف قلبها - وهو حجابه - وشقَّه حتى وصل إلى فؤادها { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي إنا لنعتقد أنها في ضلال عن طريق الرشد واضح بسبب حبها إيّاه { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } أي فلما سمعت بحديثهن ، وسماه مكراً لأنه كان في خفية ، كما يخفي الماكر مكره { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } أي أرسلت إليهنَّ تدعوهنَّ إلى منزلها لحضور وليمة قال المفسرون : دعت أربعين امرأةً من الذوات منهن النساء الخمس المذكورات { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } أي هيأت لهنَّ ما يتكئن عليه من الفرش والوسائد { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } في الكلام محذوف أي قدمت لهن الطعام وأنواع الفاكهة ثم أعطت كل واحدةٍ منهنَّ سكيناً لتقطع به { وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } أي وقالت ليوسف وهنَّ مشغولات بتقشير الفاكهة والسكاكين في أيديهن : اخرجْ عليهنَّ فلم يشعرن إلا ويوسف يمرُّ من بينهن { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي فلما رأين يوسف أعظمنْه وأجللنْه ، وبُهتن من جماله ودُهشن { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي جرحن أيديهن بالسكاكين لفرط الدهشة المفاجئة { وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ } أي تنزَّه الله عن صفات العجز ، وتعالت عظمته في قدرته على خلق مثله { مَا هَـٰذَا بَشَراً } أي ليس هذا من البشر { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } أي ما هو إلا مَلَك مِن الملائكة ، فإن هذا الجمال الفائق ، والحسن الرائع مما لا يكاد يوجد في البشر { قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } صرَّحت عند ذلك بما في نفسها من الحب ليوسف لأنها شعرت بأنها انتصرت عليهن فقالت قولة المنتصرة : هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتُنَّني في محبته ، فانظرن ماذا لقيتنَّ منه من الافتتان والدهش والإِعجاب ! ! { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ } أي أردت أن أنال وطري منه ، وأن أقضي شهوتي معه ، فامتنع امتناعاً شديداً ، وأبى إباءً عنيفاً قال الزمخشري : والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } أي ولئن لم يطاوعني ليعاقبنَّ بالسجن والحبس وليكوننَّ من الأذلاء المهانين قال القرطبي : عاودته المراودة بمحضر منهنَّ ، وهتكتْ جلباب الحياء ، وتوعدتْ بالسجن إن لم يفعل ، ولم تعد تخشى لوماً ولا مقالاً ، خلاف أول أمرها إذ كان ذلك سراً بينها وبينه { قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } لجأ يوسف إلى ربه وجعل يناجيه في خشوع وتضرع فقال : ربّ السجن آثرُ عندي وأحبُّ إلى نفسي من اقتراف الفاحشة ، وأسند الفعل إليهن لأنهن جميعاً مشتركات في الدعوة بالتصريح أو التلويح ، وقيل إنها لما توعدته نصحته وزيَّن له مطاوعتها ، ونهينه عن إلقاء نفسه في السجن { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ } أي وإن لم تدفع عني شرهن وتعصمني منهن { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي أملْ إلى إجابتهن بمقتضى البشرية { وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ } أي بسبب ما يدعونني إليه من القبيح ، وهذا كله على سبيل التضرع والاستغاثة بجناب الله تعالى كعادة الأنبياء والصالحين { فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } أي أجاب الله دعاءه فنجّاه من مكرهن ، وثبَّته على العصمة والعفة { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ } أي لدعاء الملتجئين إليه { ٱلْعَلِيمُ } بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم . . وهكذا اجتاز يوسف محنته الثالثة بلطف الله ورعايته { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ } هذه بداية المحنة الرابعة وهي الأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف الصّديق وهي " محنة السجن " وكل ما بعدها فرخاء والمعنى ثم ظهر للعزيز وأهله ومن استشارهم بعد الدلائل القاطعة على براءة يوسف ، سجنه إلى مدة من الزمن غير معلومة ، روي ان امرأة العزيز لما استعصى عليها يوسف وأيست منه ، احتالت بطريق آخر ، فقالت لزوجها : إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم : إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري ، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر ، وإما أن تحبسه ، فعند ذلك بدا له سجنه قال ابن عباس : فأمر به فحمل على حمار ، وضُرب بالطبل ، ونُودي عليه في أسواق مصر ، إن يوسف العبراني أراد سيدته فجزاؤه أن يسجن ، قال أبو صالح ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلى بكى { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ } أي أُدخل يوسف السجن واتفق أنه أُدخل حينئذٍ آخران من خدم الملك الخاص أحدهما خبازه ، والآخر ساقيه ، أُتهما بأنهما أرادا أن يسماه فحبسهما { قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً } أي قال الساقي إني رأيت في المنام أني أعصر عنباً يئول إلى خمر وأسقي منه الملك { وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ } أي وقال الخباز : إني رأيت في منامي أني أحمل على رأسي طبقاً فيه خبز ، والطيرُ تأكل من ذلك الخبز { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي أخبرنا بتفسير ما رأينا إنا نراك من الذين يحسنون تفسير الرؤيا ، أخبراه عن رؤياهما لما علما أنه يجيد تفسير الرؤيا { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } أي لا يأتيكما شيء من الطعام إلا أخبرتكما ببيان حقيقته وماهيته وكيفيته قبل أن يصل إليكما ، أخبرهما بمعجزاته ومنها معرفة " المغيبات " توطئةً لدعائهما إلى الإِيمان قال البيضاوي : أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الدين القويم قبل أن يسعفهما إلى ما سألاه عنه ، كما هو طريقة الأنبياء في الهداية والإِرشاد ، فقدَّم ما يكون معجزة له من الإِخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ } إن ذلك الإِخبار بالمغيبات ليس بكهانة ولا تنجيم ، وإنما هو بإلهامٍ ووحيٍ من الله { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } أي خصني ربي بذلك العلم لأني من بيت النبوة وقد تركت دين قومٍ مشركين لا يؤمنون بالله { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } أي يكذبون بيوم القيامة ، نبّه على أصلين عظيمين : الإِيمان بالله ، والإِيمان بدار الجزاء ، إذ هما أعظم أركان الإيمان ، وكرر لفظه { هُمْ } على سبيل التأكيد { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي اتبعت دين الأنبياء ، لا دين أهل الشرك والضلال ، والغرضُ إظهار أنه من بيت النبوة ، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق بكلامه { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } أي ما ينبغي لنا معاشر الأنبياء أن نشرك بالله شيئاً مع اصطفائه لنا وإنعامه علينا { ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ } أي ذلك الإيمان والتوحيد من فضل الله علينا حيث أكرمنا بالرسالة ، وعلى الناس حيث بعث الرسل لهدايتهم وإرشادهم { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يشكرون فضل الله عليهم فيشركون به غيره . … ولما ذكر عليه السلام ما هو عليه من الدين الحنيف الذي هو دين الرسل ، تلطَّفَ في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام فقال { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } أي يا صاحبيَّ في السجن أآلهة متعددة لا تنفع ولا تضر ولا تستجيب لمن دعاها كالأصنام ، خيرٌ أم عبادة الواحد الأحد ، المتفرد بالعظمة والجلال ؟ ! { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ } أي ما تعبدون يا معشر القوم من دون الله إلا أسماءً فارغة سميتموها آلهة وهي لا تملك القدرة والسلطان لأنها جمادات { مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي ما أنزل الله لكم في عبادتها من حجة أو برهان { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } أي ما الحكم في أمر العبادة والدين إلا لله رب العالمين { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } أي أمر سبحانه بإفراد العبادة له ، لأنه لا يستحقها إلا من له العظمة والجلال { ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } أي ذلك الذي أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي يجهلون عظمة الله فيعبدون ما لا يضر ولا ينفع … تدرّج عليه السلام في دعوتهم وألزمهم الحجة بأن بيَّن لهم أولاً رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة المتعددة ، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها من دون الله لا تستحق الألوهية والعبادة ، ثم نصَّ على ما هو الحق القويم والدين المستقيم وهو عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد ، وذلك من الأسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله ، حيث قدَّم الهداية والإِرشاد ، والنصيحة والموعظة ، ثم شرع في تفسير رؤياهما فقال { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ } أي يا صاحبيَّ في السجن أمّا الذي رأى أنه يعصر خمراً فيخرج من السجن ويعود إلى ما كان عليه من سقى سيده الخمر ، وأمّا الآخر الذي رأى على رأسه الخبز فيُقتل ويُعلَّق على خشبة فتأكل الطير من لحم رأسه ، قال المفسرون : روى أنه لما أخبرهما بذلك جحدا وقالا ما رأينا شيئاً فقال { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أي انتهى وتمَّ قضاء الله صدقتما أو كذبتما فهو واقع لا محالة { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا } أي قال يوسف للذي اعتقد نجاته وهو الساقي { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } أي اذكرني عند سيّدك وأخبره عن أمري لعلّه يخلصني ممّا ظُلمتُ به { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر أمر يوسف للملك { فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } أي مكث يوسف في السجن سبع سنين ، قال المفسرون : وإنما لبث في السجن بضع سنين ، لأنه اعتمد ووثق بالمخلوق ، وغفل أن يرفع حاجته إلى الخالق جل وعلا قال القرطبي : قال وهب ابن منبه : أقام أيوب في البلاء سبع سنين ، وأقام يوسف في السجن سبع سنين . البَلاَغة : 1 - بين { صَدَقَتْ } و { كَذَبَتْ } و { الصَّادِقِينَ } و { الكَاذِبِينَ } طباقٌ وهو من المحسنات البديعية . 2 - { مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ } من باب تغليب الذكور على الإِناث . 3 - { سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } استعير المكر للغيبة لشبهها له في الإِخفاء . 4 - { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } كذلك فيه استعارة حيث استعار لفظ القطع عن الجرح أي جرحن أيديهن . 5 - { أَعْصِرُ خَمْراً } مجاز مرسل باعتبار ما يكون أي عنباً يئول إلى خمر . فَائِدَة : روي أن جبريل جاء إلى يوسف وهو في السجن معاتباً له فقال له : يا يوسف من خلصك من القتل من أيدي إخوتك ؟ قال : الله تعالى ، قال : فمن أخرجك من الجب ؟ قال : الله تعالى ، قال : فمن عصمك من الفاحشة ؟ قال : الله تعالى ، قال : فمن صرف عنك كيد النساء ؟ قال : الله تعالى ، قال : فكيف تركتَ ربك فلم تسأله ووثقت بمخلوق ! ؟ قال : يا رب كلمةٌ زلَّتْ مني أسألك يا إله إبراهيم وآله والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني فقال له جبريل : فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين . تنبيه : قال العلماء في قوله تعالى { وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ } هذا من اختصار القرآن المعجز ، الذي يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة ، وذلك أنها لما راودته عن نفسه وأبى ، عزمت على أن تجبره بالقسر والإِكراه ، فهرب منها فتسابقا نحو الباب هي لترده إلى نفسها وهو يهرب منها فاختصر القرآن ذلك كله بتلك العبارة البليغة { وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ } . ( شطحات بعض المفسرين في تفسير الهمّ ) لقد شطَّ القلم ، وزلقت القدم ببعض المفسرين حين زعموا أن يوسف عليه السلام قد همَّ بمقارفة الفاحشة ، وشُحنت بعضُ كتب التفسير بكثير من الروايات الإِسرائيلية الواهية ، بل المنكرة الباطلة في تفسير " الهمّ " و " البرهان " حتى زعم بعضهم أن يوسف حلَّ رباط السروال ، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته ، ثم رأى صورة أبيه " يعقوب " عاضاً على أصبعه ، فقام عنها وتركها خجلاً من أبيه إلى غير ما هنالك من أقوال واهية ، لا زمام لها ولا خطام . ولستُ أدري كيف دخلت تلك الروايات المنكرة إلى بعض كتب التفسير ، وتقبّلها بعضهم بقبول حسن ، وكلُّها - كما يقول العلامة أبو السعود - خرافات وأباطيل ، تمجّها الآذان ، وتردها العقول والأذهان ! ؟ ثم كيف غاب عن أولئك المفسرين أن " يوسف الصدّيق " نبيٌ كريم ، ابن نبيٍ كريم ، وأن العصمة من صفات الأنبياء ! ! يا قوم اعقلوا وفكروا ، ونزّهوا هذه الكتب عن أمثال هذه التَّرهات والأباطيل ، فإن الزنى جريمة من أبشع الجرائم فكيف يرتكبها نبيٌ من الأنبياء المكرمين ؟ وهاكم الأدلة أسوقها من كتاب الله فقط على عصمته عليه السلام من عشرة وجوه : الأول : امتناعه الشديد ووقوفُه أمامها بكل صلابه وعزم { قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ … } . الثاني : فراره منها بعد أن غلَّقت الأبواب وشدّدت عليه الحصار { وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ … } . الثالث : إيثاره السجن على الفاحشة { قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ … } . الرابع : ثناء الله تعالى عليه في مواطن عديدة { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } [ يوسف : 22 ] فهل يكون مخلصاً لله من همَّ بفاحشة الزنى ؟ . الخامس : شهادة الطفل الذي أنطقه الله وهو في المهد بالحجة الدامغة { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ … } الآية . السادس : اعتراف امرأة العزيز ببراءته وعفته { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ … } . السابع : استغاثته بربه لينجيه من كيد النساء { فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ … } . الثامن : ظهور الأمارات الواضحة والبراهين الساطعة على براءته وإِدخالِهِ السجن لدفع مقالة الناس { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ } . التاسع : عدم قبوله الخروج من السجن حتى تبرأ ساحته من التهمة { ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ … } ؟ . العاشر : الاعتراف الصريح من امرأة العزيز والنسوة ببراءته { قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } . وكفى بذلك برهاناً على عفته ونزاهته ! ! والله يقول الحقَّ وهو يهدي السبيل .