Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 1-16)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { عَمَدٍ } العَمَد : الدعائم وهو اسم جمع وقيل : جمع عمود { صِنْوَانٌ } جمع صِنْو وهو الغصنُ الخارج عن أصل الشجرة وأصله المِثْلُ ومنه قيل للعمّ صِنْوٌ لمماثلته للأب ، فإذا كان للشجرة عدة فروع فهي صنوان { ٱلأَغْلاَلُ } جمع غل وهو طوقٌ تُشدّ به اليد إلى العُنُق { ٱلْمَثُلاَتُ } جمعَ مَثُلَة وهي العقوبة وسميت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقب من المماثلة { تَغِيضُ } غاض الماءُ نقص أو غار { وَسَارِبٌ } الساربُ : الذاهب في سَرْبه أي طريقه بوضَح النهار لا يستخفي عن الأنظار { مُعَقِّبَاتٌ } ملائكة يعقب بعضهم بعضاً أي يأتي بعضهم عقب بعض { ٱلْمِحَالِ } القوة والإِهلاك والنّقمة . سَبَبُ النزول : عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً إلى جبّار من فراعنة العرب فقال : اذهب فادعه لي فقال يا رسول الله : إنه جبارٌ عاتٍ قال : اذهب فادعه لي ، فذهب إليه فقال : يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن إله محمد أمن ذهبٍ هو ؟ أو من فضة ؟ أو من نحاس ؟ فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال الرجل وقال له : ألم أخبرك أنه أعتى من ذلك ؟ فقال : ارجع إليه الثانية فادعه لي ، فرجع إليه فأعاد عليه ذلك الكلام ، فبينا هو يجادله إذ بعث الله عليه سحابة حيال رأسه فرعدت فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه فأنزل الله { وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ } . التفسِير : { الۤمۤر } إشارة إلى إعجاز القرآن وقال ابن عباس معناه : أنا الله أعلم وأرى { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ } أي هذه آيات القرآن المعجز ، الذي فاق كل كتاب { وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ } أي والذي أوحي إليك يا محمد في هذا القرآن هو الحق الذي لا يلتبس بالباطل ، ولا يحتمل الشك والتردّد { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي ومع وضوحه وجلائه كذّب به أكثر الناس { ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي خلقها مرتفعة البناء ، قائمة بقدرته لا تستند على شيء حال كونكم تشاهدونها وتنظرونها بغير دعائم ، وذلك دليل وجود الخالق المبدع الحكيم { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } أي علا فوق العرش علواً يليق بجلاله من غير تجسيم ولا تكييفٍ ولا تعطيل { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى } أي ذلَّل الشمس والقمر لمصالح العباد ، كلٌّ يسير بقدرته تعالى إلى زمنٍ معيَّن هو زمن فناء الدنيا { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } أي يصرِّف بحكمته وقدرته أمور الخلق وشئون الملكوت من إيجاد وإعدام ، وإحياء وإماتة وغير ذلك { يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } أي يبيّنها ويوضّحها { لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } أي لتصدقوا بلقاء الله ، وتوقنوا بالمعاد إليه ، لأن من قدر على ذلك كلّه فهو قادرٌ على إحياء الإِنسان بعد موته { وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ } أي هو تعالى بقدرته بسط الأرض وجعلها ممدودة فسيحة ، وهذا لا ينافي كرويتها فإن ذلك مقطوعٌ به ، والغرضُ أنه تعالى جعلها واسعة فسيحة ممتدة الآفاق ليستقر عليها الإِنسان والحيوان ، ولو كانت كلها جبالاً وودياناً لما أمكن العيش عليها قال في التسهيل : ولا يتنافى لفظُ البسط والمدِّ مع التكوير ، لأن كل قطعةٍ من الأرض ممدودةٌ على حِدتَها ، وإنما التكوير لجملة الأرض { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } أي وخلق في الأرض جبالاً ثوابتَ رواسخ لئلا تضطرب بأهلها كقوله { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] { وَأَنْهَاراً } أي وجعل فيها الأنهار الجاريات { وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } أي جعل فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى ليتمَّ بينهما أسباب الإِخصاب والتكاثر طبق سنته الحكيمة وقال أبو السعود : أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين ، إمّا في اللون كالأبيض والأسود ، أو في الطعم كالحلو والحامض ، أو في القَدْر كالصغير والكبير ، أو في الكيفيّة كالحارّ والبارد وما أشبه ذلك { يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ } أي يُلبسه إياه فيصير الجو مُظْلماً بعد ما كان مضيئاً { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي إنَّ في عجائب صنع الله لدلالات وعلامات باهرة على قدرته ووحدانيته لمن تأمل وتفكَّر ، وخُصَّ " المتفكرون " بالذكر لأنَّ ما احتوتْ عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يُدرك إلا بالتفكر { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } أي في الأرض بقاعٌ مختلفةٌ متلاصقات قريبٌ بعضها من بعض قال ابن عباس : أرضٌ طيبة ، وأرضٌ سَبْخة تُنْبتُ هذه ، وهذه إلى جنبها لا تُنْبت { وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ } أي بساتين كثيرة من أشجار العنب { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } أي وفي هذه القطع المتجاورة أنواع الزروع والحبوب والنخيل والرطب ، منها ما يَنْبُت منه من أصل واحدٍ شجرتان فأكثر ، ومنها ما ينبت منه شجرة واحدة { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ } أي الكل يسقى بماء واحدٍ ، والتربة واحدة ، ولكنَّ الثمار مختلفات الطعوم قال الطبري : الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ ، والكمثرى ، والعنب الأبيضُ والاسود ، بعضُها حلوٌ ، وبعضُها حامض ، وبعضها أفضل من بعض مع اجتماع جميعها على شربٍ واحد { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي علامات باهرة ظاهرة لمن عقل وتدبَّر ، وفي ذلك ردٌّ على القائلين بالطبيعة { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي إن تعجب يا محمد من شيء فليس ما هو أعجب من قول الكفار أئذا متنا وأصبحنا رفاتاً هل سنبعث من جديد ؟ فإن إنكارهم للبعث حقيقٌ أن يُتعجب منه ، فإن الذي قدر على إنشاء ما ذكرنا من السماوات والأرض ، والأشجار والثمار ، والبحار والأنهار قادرٌ على إعادتهم بعد موتهم { أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } أي هؤلاء الذين أنكروا البعث هم الجاحدون لقدرة الله { وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ } أي يُغلُّون بالسلاسل في أعناقهم يوم القيامة { وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } أي وهم في جهنم مخلدون فيها أبداً لا يموتون فيها ولا يُخْرجون { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ } أي يستعجلك المشركون يا محمد بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية ، استعجلوا ما هُدّدوا به من عذاب الدنيا استهزاءً { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ } أي وقد مضت عقوباتُ أمثالهم من المكذبين ، فما لهم لا يعتبرون ولا يتَّعظون ؟ { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } أي وإن ربك لذو صفحٍ عظيم للناس ، لا يعجّل لهم العقوبة وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أي شديد العقاب لمن أصرَّ على المعاصي ولم يتب ومن ذنوبه . قرن تعالى بين سعة حلمه وشدة عقابه ليبقى العبد بين الرغبة والرهبة ، والرجاء والخوف { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } أي ويقول المشركون من كفار قريش هلاّ أُنزل على محمد معجزة تدل على صدقه مثل معجزات موسى وعيسى ! ! قال في البحر : لم يعتدّوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر ، وانقياد الشجر ، ونبع الماء من بين الأصابع وأمثال هذه المعجزات فاقترحوا عناداً آيات أخرى { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } جواب لما اقترحوا أي لستَ أنت يا محمد إلا محذّر ومبصِّر ، شأنك شأن كل رسول قبلك ، فلكل قوم نبيٌّ يدعوهم إلى الله وأما الآيات الخارقة فأمرها إلى مدبّر الكون والعباد { ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ } أي الله وحده الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها هل هو ذكرٌ أم أنثى ؟ تامٌ أم ناقص ؟ حسنٌ أم قبيح { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ } أي وما تنقصه الأرحامُ بإلقاء الجنين قبل تمامه { وَمَا تَزْدَادُ } أي وما تزداد على الأشهر التسعة قال ابن عباس : ما تغيضُ بالوضع لأقلَّ من تسعة أشهر ، وما تزداد بالوضع لأكثر من تسعة أشهر ، وعنه المراد بالغيض : السقطُ الناقصُ ، وبالازدياد : الولدُ التام { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } أي كلُّ شيء من الأشياء عند الله تعالى بقدر محدود لا يتجاوزه حسب المصلحة والمنفعة { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي ما غاب عن الحسّ وما كان مشاهَداً منظوراً ، فعلمهُ تعالى شاملٌ للخفيِّ والمرْئيِّ لا يخفى عليه شيء { ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ } أي العظيم الشأن الذي كل شيء دونه المستعلي على كل شيء بقدرته المنزَّه عن المشابهة والمماثلة { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } أي يستوي في علمه تعالى ما أضمرتْهُ القلوبُ وما نطقتْ به الألسنة { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ } أي ويستوي عنده كذلك من هو مستترٌ بأعماله في ظلمات الليل وهو في غاية الاختفاء ، ومن هو ذاهبٌ في طريقه بوَضَح النهار مستعلنٌ لا يستخفي فيما يعمل وهو في غاية الظهور { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } أي لهذا الإِنسان ملائكة موكّلةٌ به تتعقب في حفظه يأتي بعضُهم بعَقِب بعض كالحَرَس في الدوائر الحكومية { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي من أمام الإِنسان ومن ورائه { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي يحفظونه من الأخطار والمضارّ بأمره تعالى قال مجاهد : ما من عبدٍ إلا وملكٌ موكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإِنس والهوام { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } أي لا يزيل نعمته عن قومٍ ولا يسلبهم إيّاها إلا إذا بدّلوا أحوالهم الجميلة بأحوال قبيحة ، وهذه من سنن الله الاجتماعية أنه تعالى لا يبدل ما بقومٍ من عافيةٍ ونعمة ، وأمنٍ وعزة إلا إذا كفروا تلك النعم وارتكبوا المعاصي وفي الأثر " أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل أن قلْ لقومك : إنه ليس من أهل قرية ، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون " { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا } أي وإذا أراد تعالى هلاك قومٍ أو عذابهم { فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } أي لا يقدر على ردّ ذلك أحد { وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } أي ليس لهم من دون الله وليٌّ يدفع عنهم العذاب والبلاء { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ } هذا بيانٌ لآثار قدرته تعالى المنبثّة في الكون أي يريكم أيها الناس البرق الخاطف من خلال السحاب { خَوْفاً وَطَمَعاً } قال ابن عباس : خوفاً من الصواعق وطعماً في الغيث ، فإن البرق غالباً ما يعقبه صواعق مدمّرة ، وقد يكون وراءه المطر المدرار الذي به حياة البلاد والعباد { وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ } أي وبقدرته كذلك يخلق السحب الكثيفة المحمَّلة بالماء الكثير { وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي يسبّح الرعد له تسبيحاً مقترناً بحمده والثناء عليه ، وتسبّح له الملائكة خوفاً من عذابه ، وتسبيحُ الرعد حقيقةٌ دلَّ عليها القرآن فنؤمن بها وإن لم نفهم تلك الأصوات فهو تعالى لا يخبر إلا بما هو حقٌّ كما قال { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] { وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } أي يرسل الصواعق المدمّرة نقمة يهلك بها من شاء { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي ٱللَّهِ } أي وكفار مكة يجادلون في وجود الله ووحدانيته وفي قدرته على البعث { وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ } أي وهو تعالى شديد القوة والبطش والنكال ، القادر على الانتقام ممن عصاه { لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ } أي لله تعالى تتجه الدعوةُ الحق فهو الحقيق بأن يُعبد وحده بالدعاء والالتجاء { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي والآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } أي لا يستجيبون لهم دعاءً ، ولا يسمعون لهم نداءً { إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } أي إلا كمن يبسط كفيه للماء من بعيد يدعوه ويناديه ليصل الماء إلى فمه ، والماءُ جمادٌ لا يُحسُّ ولا يسمع قال أبو السعود : شبّه حال المشركين في عدم حصولهم عند دعاء آلهتهم على شيء أصلاً بحال عطشان هائم لا يدري ما يفعل ، قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصوله إلى فمه وليس الماء ببالغٍ فمه أبداً لكونه جماداً لا يشعر بعطشه { وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } أي ما دعاؤهم والتجاؤهم لآلتهم إلا في ضياع وخسار لأنه لا يُجدي ولا يفيد { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي ولله وحده يخضع وينقاد أهل السماوات وأهل الأرض { طَوْعاً وَكَرْهاً } أي طائعين وكارهين قال الحسن : المؤمن يسجد طوعاً ، والكافر يسجد كرْهاً أي في حالة الفزع والاضطرار { وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } أي وتسجد ظلالُهم أيضاً لله في أول النار وأواخره ، والغرضُ الإِخبار عن عظمة الله تعالى وسلطانه الذي قهر كلَّ شيء ، ودان له كل شيء ، بأنه ينقاد لجلاله جميع الكائنات حتى ظلال الآدمييّن ، والكل في نهاية الخضوع والاستسلام لأمره تعالى { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين مَنْ خالق السماوات والأرض ومدبّر أمرهما ؟ والسؤال للتهكم والسخرية بما عبدوا من دون الله { قُلِ ٱللَّهُ } أي قل لهم تقريعاً وتبكيتاً : اللهُ خالقُهما { قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أي قل لهم - إلزاماً لإِقامة الحجة عليهم - أجعلتم لله شركاء وعبدتموهم من دونه وهم لا يقدرون على نفع أنفسهم ، ولا على دفع الضُرّ عنها ، فكيف يستطيعونه لغيرهم ؟ { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ } هذا تمثيلٌ لضلالهم في عبادة غير الله ، والمراد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن ، وبالظلمات الضلالُ وبالنور الهدى أي كما لا يستوي الأعمى والبصير ، وكما لا تستوي الظلمات والنور ، كذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر ضياء الحق ، والمشرك الذي عمي عن رؤية ذلك الضياء ، فالفارق بين الحق والباطل واضحٌ وضوح الفارق بين الأعمى والبصير ، والفارق بين الإِيمان والضلال ظاهر ظهور الفارق بين النور والظلام { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } هذا من تمام الاحتجاج عليهم والتهكم بهم أي أم اتخذ هؤلاء المشركون آلهةً خلقوا مخلوقاتٍ كالتي خلقها الله فالتبس الأمر عليهم فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم ؟ وهو تهكم لاذع فإنهم يرون كل شيء من خلق الله ، ويرون هذه الآلهة المزعومة لم تخلق شيئاً ثم بعد هذا كلّه يعبدونها من دون الله ، وذلك أسخف وأحط ما تصل إليه عقول المشركين ، ولما أقام الحجة عليهم جاء بهذا البيان الواضح { قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } أي الله الخالق لجميع الأشياء لا خالق غيره ، وهو المنفرد بالألوهية والربوبية ، الغالب لكل شيء ، وجميعُ الأشياء تحت قدرته وقهره . البَلاغَة : في الآيات الكريمة من وجوه الفصاحة والبيان والبديع ما يلي : 1 - الإِشارة بالبعيد عن القريب في { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ } تنزيلاً لها منزلة البعيد للدلالة على علو شأنها ورفعة منزلتها و ( أل ) في الكتاب للتفخيم أي الكتاب العجيب الكامل في إعجازه وبيانه . 2 - الاستعارة التبعية في { يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ } شبّه إزالة نور النهار بواسطة ظلمة الليل بالغطاء الكثيف واستعار لفظ { يُغْشِي } المشير إلى تغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية الحسية للأمور المعنوية . 3 - الطباق في { تَغِيضُ … تَزْدَادُ } وفي { ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } وفي { أَسَرَّ … جَهَرَ } وفي { مُسْتَخْفٍ … وَسَارِبٌ } لأن السارب الظاهر وفي { خَوْفاً وَطَمَعاً } وفي { طَوْعاً وَكَرْهاً } وكلها من المحسنات البديعية اللفظية . 4 - الإِيجاز بالحذف في { قُلِ ٱللَّهُ } أي اللهُ خالقُ السماوات والأرض . 5 - التشبيه التمثيلي في { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ } شبَّه عدم استجابة الأصنام للداعين لها بعدم استجابة الماء لباسط كفيه إليه من بُعْد فوجه الشبه منتزع من متعدد . 6 - الاستعارة في { هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ } استعار لفظ الظلمات والنور للفكر والإِيمان وكذلك لفظ الأعمى للمشرك الجاهل والبصير للمؤمن العاقل . تنبيه : سميت الملائكة معقبات لأنهم يتعاقبون على أعمال العباد بالليل والنهار كما في البخاري " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الفجر والعصر … " الحديث . فَائِدَة : روي عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد يقول : " سبحان من يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير " وكان أبو هريرة يقول من قالها فأصابته صاعقةٌ فعليَّ ديته .