Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 1-22)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { سُبْحَانَ } اسمٌ للتسبيح ومعناه تنزيه الله تعالى من كل سوء ونقصٍ وهو خاصٌ به سبحانه { أَسْرَىٰ } الإِسراء : السيرُ ليلاً يقال : أسرى وسرى لغتان قال الشاعر : @ سريتَ من حَرَمٍ ليلاً إلى حَرَمٍ كما سَرَى البدرُ في دَاجٍ من الظُّلَم @@ { فَجَاسُواْ } قال الزجاج : طافوا ، والجَوْسُ : الطواف بالليل والتردُّد والطلب مع الاستقصاء وقال الواحدي : الجوسُ هو التردُّد والطلب { ٱلْكَرَّةَ } الدَّولة والغَلَبة { تَتْبِيراً } هلاكاً ودماراً { مَحَوْنَآ } طمسنا قال علماء اللغة : المحوُ إذهاب الأثر يقال محوتُه فانمحى أي ذهب أثره { طَآئِرَهُ } عمله المقدَّر عليه سمي الخير والشر بالطائر لأن العرب كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بالطير إذا طار جهة اليمين أو الشمال { مُتْرَفِيهَا } المُتْرفُ : المتنعِّمُ الذي أبطرته النعمةُ وسَعَة العيش { يَصْلاهَا } يدخلها ويذوق حرَّها { مَّدْحُوراً } مطروداً مبعداً من رحمة الله . التفسِير : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } أي تنزَّه وتقدَّس عما لا يليق بجلاله ، اللهُ العليُّ الشأن ، الذي انتقل بعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم في جزءٍ من الليل { مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى } أي من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ، وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام قال المفسرون : وإنما قال { لَيْلاً } بلفظ التنكير لتقليل مدة الإِِسراء ، وأنه قطع به المسافات الشاسعة البعيدة في جزءٍ من الليل وكانت مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أبلغ في القدرة والإِعجاز ولهذا كان بدء السورة بلفظ { سُبْحَانَ } الدال على كمال القدرة ، وبالغ الحكمة ، ونهاية تنزهه تعالى عن صفات المخلوقين ، وكان الإِسراء بالروح والجسد ، يقظة لا مناماً { ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } أي الذي باركنا ما حوله بأنواع البركات الحسية والمعنوية ، بالثمار والأنهار التي خصَّ الله بها بلاد الشام ، وبكونه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة الأطهار { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } أي لنريَ محمداً صلى الله عليه وسلم آياتنا العجيبة العظيمة ، ونطلعه على ملكوت السماوات والأرض ، فقد رأى صلوات الله عليه السماواتِ العُلى والجنةَ والنار ، وسدرة المنتهى ، والملائكة والأنبياء وغير ذلك من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } أي إنه تعالى هو السميع لأقوال محمد ، البصير بأفعاله ، فلهذا خصَّه بهذه الكرامات والمعجزات احتفاءً وتكريماً { وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي أعطينا موسى التوراة هدايةً لبني إسرائيل يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإِيمان { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } أي لا تتخذوا لكم ربا تكلون إليه أموركم سوى الله الذي خلقكم قال المفسرون : لما ذُكر المسجدُ الأقصى وهو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل جاء الحديث عنهم في مكانه المناسب من سياق السورة { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } أي يا ذرية ويا أبناء المؤمنين الذين كانوا مع نوح في السفينة ، لقد نجينا آباءكم من الغرق فاشكروا الله على إنعامه { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } أي إن نوحاً كان كثير الشكر يحمد الله على كل حال فاقتدوا به ، وفي النداء لهم تلطفٌ وتذكير بنعمة الله { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ } أي أخبرناهم وأعلمناهم وأوحينا إليهم في التوراة { لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } أي ليحصلنَّ منكم الإِفساد في أرض فلسطين وما حولها مرتين قال ابن عباس : أول الفساد قتل زكريا والثاني قتل يحيى عليهما السلام { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } أي تطغون في الأرض المقدسة طغياناً كبيراً بالظلم والعدوان وانتهاك محارم الله { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } أي أُولى المرتين من الإِفساد { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } أي سلَّطنا عليكم من عبيدنا أناساً جبارين للانتقام منكم { أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي أصحاب قوةٍ وبطش في الحرب شديد قال المفسرون : إن بني إسرائيل لما استحلوا المحارم وسفكوا الدماء سلَّط الله عليهم بختنصر ملك بابل فقتل منهم سبعين ألفاً حتى كاد يفنيهم هو وجنوده ، وذلك أول الفسادين { فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ } أي طافوا وسط البيوت يروحون ويغدون للتفتيش عنكم واستئصالكم بالقتل والسلب والنهب لا يخافون من أحد { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } أي كان ذلك التسليط والانتقام قضاءً جزماً حتماً لا يقبل النقض والتبديل { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } أي ثمَّ لما تبتم وأنبتم أهلكنا أعداءكم ورددنا لكم الدَّوْلةَ والغلبة عليهم بعد ذلك البلاء الشديد { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } أي أعطيناكم الأموال الكثيرة والذرية الوفيرة ، بعد أن نُهبت أموالكم وسُبيت أولادكم { وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } أي جعلناكم أكثر عدداً ورجالاً من عدوكم لتستعيدوا قوتكم وتبنوا دولتكم { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } أي إن أحسنتم يا بني إسرائيل فإحسانكم لأنفسكم ونفعه عائد عليكم لا ينتفع الله منها بشيء { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } أي وإن أسأتم فعليها لا يتضرر الله بشيء منها ، فهو الغني عن العباد ، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ } أي فإذا جاء وعد المرة الأخيرة من إفسادكم بقتل يحيى وانتهاك محارم الله بعثنا عليكم أعداءكم مرة ثانية { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } أي بعثناهم ليهينوكم ويجعلوا آثار المساءة والكآبة باديةً على وجوهكم بالإِذلال والقهر { وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي وليدخلوا بيت المقدس فيخربوه كما خربوه أول مرة { وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } أي وليدمروا ويهلكوا ما غلبوا عليه تدميراً ، فقد سلّط الله عليهم مجوس الفرس فشردوهم في الأرض وقتلوهم ودمَّروا مملكتهم تدميراً { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } أي لعل الله يرحمكم ويعفو عنكم إن تبتم وأنبتم ، وهذا وعدٌ منه تعالى بكشف العذاب عنهم إن رجعوا إلى الله و { عَسَىٰ } من الله واجبة { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } أي وإن عدتم إلى الإِفساد والإِجرام عدنا إلى العقوبة والانتقام { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } أي وجعلنا جهنم محبساً وسجناً للكافرين ، لا يقدرون على الخروج منها أبَدَ الآبدين ، ثم بيًّن تعالى مزية التنزيل الكريم الذي فاق بها سائر الكتب السماوية فقال { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أي إنَّ هذا القرآن العظيم يهدي لأقوم الطرق وأوضح السُّبُل ، ولما هو أعدل وأصوب { وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } أي ويبشر المؤمنين الذين يعملون بمقتضاه بالأجر العظيم في جنات النعيم { وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي ويبشرهم بأن لأعدائهم الذين لا يصدقون بالآخرة العقاب الأليم في دار الجحيم ، وقد جمعت الآية بين الترغيب والترهيب { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ } أي يدعو بالشر على نفسه كدعائه لها بالخير ، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك قال ابن عباس : هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحبُّ أن يستجاب له : اللهمَّ أهلكه اللهمَّ دمْره ونحوه { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } أي ومن طبيعة الإِنسان العجلة ، يتعجل بالدعاء على نفسه ويسارع لكل ما يخطر بباله ، دون النظر في عاقبته ، ثم أشار تعالى إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود ، التي كلٌ منها برهانٌ نيِّر على وحدانية الله فقال { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ } أي علامتين عظيمتين على وحدانيتنا وكمال قدرتنا { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ } أي طمسنا الليل فجعلناه مظلماً لتسكنوا فيه { وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } أي جعلنا النهار مضيئاً مشرقاً بالنور ليحصل به الإِبصار { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } أي لتطلبوا في النهار أسباب معايشكم { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } أي ولتعلموا عدد الأيام والشهور والأعوام ، بتعاقب الليل والنهار ، فالليل للراحة والسكون ، والنهار للكسب والسعي { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } أي وكلَّ أمرٍ من أمور الدنيا والدين ، بينَّاه أحسن تبيين ، وليس شيء من أمر هذا الوجود متروكاً للمصادفة والجُزاف ، وإنما هو بتقديرٍ وتدبيرٍ حكيم { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } أي أن الإِنسان مرهون بعمله مجزي به ، وعملُه ملازم له لزوم القلادة للعُنُق لا ينفك عنه أبداً { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } أي نظهر له في الآخرة كتاب أعماله مفتوحاً فيه حسناته وسيئاته فيرى عمله مكشوفاً لا يملك إخفاءه أو تجاهله { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } أي إقرأ كتاب عملك كفى أن تكون اليوم شهيداً بما عملت ، لا تحتاج إلى شاهد أو حسيب { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي من اهتدى فثواب اهتدائه له ، ومن ضلَّ فعقاب كفره وضلاله عليها { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أي لا يحمل أحد ذنب أحد ، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } أي وما كنا معذبين أحداً من الخلق حتى نبعث لهم الرسل مذكرين ومنذرين فتقوم عليهم الحجة { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } أي وإذا أردنا هلاك قوم من الأقوام أمرنا المتنعمِّين فيها والقادة والرؤساء بالطاعة على لسان رسلنا فعصوا أمرنا وخرجوا عن طاعتنا وفسقوا وفجروا { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } أي فوجب عليهم العذاب بالفسق والطغيان فأهلكناهم إهلاكاً مُريعاً قال ابن عباس : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } أي سلَّطنا أشرارها فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ } أي وكثير من الأمم الطاغية المكذبين للرسل أهلكناهم من بعد نوح كقوم عاد وثمود وفرعون قال ابن كثير : والآية إنذار لكفار قريش والمعنى إنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق فعقوبتكم أولى وأحرى { وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } أي كفى يا محمد أن يكون ربك رقيباً على أعمال العباد يدرك بواطنها وظواهرها ويجازي عليها { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } أي من كان يريد بعمله الدنيا فقط ولها يعمل ويسعى ليس له همٌّ إلا الدنيا عجلنا له فيها ما نشاء تعجيله من نعيمها لا كلَّ ما يريد { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } أي ثم جعلنا له في الآخرة جهنم يدخلها مهاناً حقيراً مطروداً من رحمة الله { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي ومن أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم ، وعمل لها عملها الذي يليق بها من الطاعات وهو مؤمن صادق الإِيمان { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } أي فأولئك الجامعون للخصال الحميدة من الإِخلاص ، والعمل الصالح ، والإِيمان . كان عملهم مقبولاً عند الله أحسن القبول ، مثاباً عليه { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } أي كل واحدٍ من الفريقين الذين أرادوا الدنيا ، والذين أرادوا الآخرة نعطيه من عطائنا الواسع تفضلاً منا وإحساناً ، فنعطي المؤمن والكافر والمطيع والعاصي { وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } أي ما كان عطاؤه تعالى محبوساً ممنوعاً عن أحد { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي أنظر يا محمد كيف فاوتنا بينهم في الأرزاق والأخلاق في هذه الحياة الدنيا فهذا غني وذاك فقير ، وهذا شريف وذاك حقير { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } أي ولتفاوتُهم في الدار الآخرة أعظم من التفاوت في هذا الدار لأن الآخرة دار القرار وفيها ما لا عينٌ رأت ، ولا أُذُنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر { لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } أي لا تجعل مع الله شريكاً ولا تتخذ غيره إلهاً تعبده { فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } أي فتصير ملوماً عند الله مخذولاً منه لا ناصر لك ولا معين . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - براعة الاستهلال { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ } لأنه لما كان أمراً خارقاً للعادة بدأه بلفظ يشير إلى كمال القدرة وتنزه الله عن صفات النقص . 2 - إضافة التكريم والتشريف { بِعَبْدِهِ } . 3 - جناس الاشتقاق { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً } { تَزِرُ وَازِرَةٌ } . 4 - الطباق بين { أَحْسَنْتُمْ … وأَسَأْتُمْ } وبين { ضَلَّ … وٱهْتَدَىٰ } . 5 - إيجاز بالحذف { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ } أي يقال له يوم القيامة إقرأ كتابك { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } أي أمرناهم بطاعة الله فعصوا وفسقوا فيها . 6 - المجاز العقلي { آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } لأن النهار لا يُبصر بل يُبْصر فيه فهو من إسناد الشيء إلى زمانه . 7 - الاستعارة اللطيفة { طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } استعير الطائر لعمل الإِنسان ، ولما كان العرب يتفاءلون ويتشاءمون بالطير سموا نفس الخير والشر بالطائر بطريق الاستعارة . لطيفَة : الحكمة في إسرائه إلى بيت المقدس ثم عروجه من بيت المقدس إلى السماوات العلى أنه مجمع أرواح الأنبياء ، وموطن تنزل الوحي الإِلهي على الرسل الكرام ، ولما كانت هذه الرحلة رحلة تكريم أراد تعالى أن يشرفهم بزيارته . ولهذا صلى بهم إماماً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . تنبيه : وصفه تعالى في هذه السورة بالعبودية { أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } لأنه أشرف المقامات وأسمى المراتب العلية ، كما وصفه في مقام الوحي كذلك { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [ النجم : 10 ] وفي مقام الدعوة { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] ولهذا قال القاضي عياض :