Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 1-26)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { بَاخِعٌ } قاتلٌ ومهلكٌ قال الليث : بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظاً وأصلُ البخع الجهد كما قال الفراء { جُرُزاً } الجُرُز : الأرض التي لا نبات عليها { ٱلْكَهْفِ } النقب المتسع في الجبل وإِذا لم يكن متسعاً فهو غار { وَٱلرَّقِيمِ } اللوح الذي كتبت فيه أسماء أصحاب الكهف { شَطَطاً } الشطط : الجور والغلو وتعدي الحد قال الفراء : اشتط في الأمر جاوز الحد ، وشطَّ المنزل بَعُدَ { تَّزَاوَرُ } تتنحَّى وتميل من الازورار بمعنى الميل قال عنترة " وازْورَّ من وقع القنا بلبانه " { بِٱلوَصِيدِ } الفِناء أي فناء الكهف { فَجْوَةٍ } متَّسع من المكان { بِوَرِقِكُمْ } الوَرِق : اسمٌ للفضة سواءً كانت مضروبةً أم لا { أَعْثَرْنَا } أطلعنا { تُمَارِ } تجادل والمراءُ : المجادلة . التفسِير : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ } أي الثناء الكامل مع التعظيم والإِجلال لله الذي أنزل على رسوله محمد القرآن نعمةً عليه وعلى سائر الخلق { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } أي لم يجعل فيه شيئاً من العوج لا في ألفاظه ولا في معانيه ، وليس فيه أي عيبٍ أو تناقض { قَيِّماً } أي مستقيماً لا اختلاف فيه ولا تناقض قال الطبري : هذا من المُقدَّم والمؤخر أي أنزل الكتاب قيّماً ولم يجعل له عِوَجاً يعني مستقيماً لا اختلاف فيه ولا تفاوت ، ولا اعوجاج ولا ميل عن الحق ، { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } أي لينذر بهذا القرآن الكافرين عذاباً شديداً من عنده تعالى { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ } أي ويبشّر المصدقين بالقرآن الذين يعملون الأعمال الصالحة { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } أي أن لهم الجنة وما فيها من النعيم المقيم { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } أي مقيمين في ذلك النعيم الذي لا انتهاء له ولا انقضاء { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } أي ويخوّف أولئك الكافرين الذين نسبوا لله الولد عذابه الأليم قال البيضاوي : خصَّهم بالذكر وكَّرر الإِنذار استعظاماً لكفرهم ، وإِنما لم يذكر المُنْذَر به استغناءً بتقدم ذكره { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي ما لهم بذلك الافتراء الشنيع شيءٌ من العلم أصلاً { وَلاَ لآبَائِهِمْ } أي ولا لأسلافهم الذي قلَّدوهم فتاهوا جميعاً في بيداء الجهالة والضلالة { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي عظمت تلك المقالة الشنيعة كلمة قبيحة ما أشنعها وأفظعها ؟ خرجت من أفواه أولئك المجرمين ، وهي في غاية الفساد والبطلان { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } أي يقولون إلا كذباً وسفهاً وزوراً { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ } أي فلعلك قاتلٌ نفسك يا محمد ومهلكها غمّاً وحزناً على فراقهم وتوليهم وإِعراضهم عن الإِيمان { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } أي إن لم يؤمنوا بهذا القرآن حسرةً وأسفاً عليهم ، فما يستحق هؤلاء أن تحزن وتأسف عليهم ، والآية تسليةٌ للنبي عليه السلام { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } أي جعلنا ما عليها من زخارف ورياش ومتاع وذهب وفضة وغيرها زينة للأرض كما زينا السماء بالكواكب { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } أي لنختبر الخلق أيهم أطوع لله وأحسن عملاً لآخرته { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } أي سنجعل ما عليها من الزينة والنعيم حطاماً وركاماً حتى تصبح كالأرض الجرداء التي لا نبات فيها ولا حياة بعد أن كانت خضراء بهجة قال القرطبي : الآية وردت لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى : لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإِنا إِنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها ، فمنهم من يتدبر ويؤمن ومنهم من يكفر ، ثم إن يوم القيامة بين أيديهم ، فلا يعظمنَّ عليك كفرُهم فإِنا سنجازيهم { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } ؟ بدء قصة أصحاب الكهف ، والكهفُ الغار المتسع في الجبل ، والرقيمُ اللوح الذي كتب فيه أسماء أصحاب الكهف على المشهور والمعنى : لا تظننَّ يا محمد أن قصة أهل الكهف - على غرابتها - هي أعجبُ آيات الله ، ففي صفحات هذا الكون من العجائب والغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف قال مجاهد : أحسبت أنهم كانوا أعجب آياتنا ؟ قد كان في آياتنا أعجب منهم { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ } أي اذكر حين التجأ الشبان إلى الغار في الجبل وجعلوه مأواهم { فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي أعطنا من خزائن رحمتك الخاصة مغفرة ورزقاً { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } أي أصلح لنا أمرنا كلَّه واجعلنا من الراشدين المهتدين { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } أي ألقينا عليهم النوم في الغار سنين عديدة { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } أي ثم أيقظناهم من بعد نومهم الطويل لنرى أيَّ الفريقين أدقُّ إحصاءً للمدة التي ناموها في الكهف ؟ قال في التسهيل : والمراد بالحزبين : أصحابُ الكهف ، والذين بعثهم الله إليهم حتى رأوهم وقال مجاهد : الحزبان من أصحاب الكهف لما استيقظوا اختلفوا في المدة التي لبثوها في الكهف فقال بعضهم : يوماً أو بعض يوم وقال آخرون : ربكم أعلم بما لبثتم ، والقول الأول مروي عن ابن عباس { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ } أي نحن نقص عليك يا محمد خبرهم العجيب على وجه الصدق دون زيادةٍ ولا نقصان { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } أي إنهم جماعة من الشبان آمنوا بالله فثبتناهم على الدين وزدناهم يقيناً { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي قوينا عزمهم وألهمناهم الصبر حتى أصبحت قلوبهم ثابتة راسخة ، مطمئنة إلى الحق معتزةً بالإِيمان { إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي حين قاموا بين يدي الملك الكافر الجبار من غير مبالاة فقالوا ربنا هو خالق السماوات والأرض لا ما تدعونا إليه من عبادة الأوثان والأصنام { لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً } أي لن نشرك معه غيره فهو واحد بلا شريك { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي لئن عبدنا غيره نكون قد تجاوزنا الحقَّ ، وحُدنا عن الصواب ، وأفرطنا في الظلم والضلال { هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً } أي هؤلاء أهل بلدنا عبدوا الأصنام تقليداً من غير حجة { لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي هلاّ يأتون على عبادتهم لها ببرهان ظاهر ، والغرض من التحضيض { لَّوْلاَ } التعجيز كأنهم قالوا إنهم لا يستطيعون أن يأتوا بحجة ظاهرة على عبادتهم للأصنام فهم إذاً كذبة على الله { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله بنسبة الشريك إليه تعالى { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي وإِذْ اعتزلتم أيها الفتية قومكم وما يعبدون من الأوثان غير الله تعالى { فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ } أي التجئوا إلى الكهف { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } أي يبسط ربكم ويوسّعْ عليكم رحمته { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } أي يُسهّل عليكم أسباب الرزق وما ترتفقون به من غداء وعشاء في هذا الغار { وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ } أي ترى أيها المخاطب الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم جهة اليمين { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ } أي وإِذا غربت تقطعهم وتُبعد عنهم جهة الشمال والغرض أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها ولا عند غروبها كرامةً لهم من الله لئلا تؤذيهم بحرها { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } أي في متَّسع من الكهف وفي وسطه بحيث لا تصيبهم الشمس لا في ابتداء النهار ، ولا في آخره { ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } أي ذلك الصنيع من دلائل قدرة الله الباهرة قال ابن عباس : لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم ، ولو أنهم لا يُقلَّبون لأكلتهم الأرض { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ } أي من يُوفقه الله للإيمان ويرشده إلى طريق السعادة فهو المهتدي حقاً { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } أي ومن يضلله الله بسوء عمله فلن تجد له من يهديه { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ } أي لو رأيتهم أيها الناظر لظننتهم أيقاظاً لتفتح عيونهم وتقلبهم والحال أنهم نيام { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ } أي ونقلبهم من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض أجسامهم { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ } أي وكلبهم الذي تبعهم باسطٌ يديه بفناء الكهف كأنه يحرسهم { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } أي لو شاهدتهم وهم على تلك الحالة لفررت منهم هارباً رعباً منهم ، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة ، فرؤيتهم تثير الرعب إذ يراهم الناظر نياماً كالأيقاظ ، يتقلبون ولا يستيقظون { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } أي كما أنمناهم كذلك بعثناهم من النوم وأيقظناهم بعد تلك الرقدة الطويلة التي تشبه الموت ليسأل بعضهم بعضاً عن مدة مكثهم وإِقامتهم في الغار { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أي قال أحدهم : كم مكثنا في هذا الكهف ؟ فقالوا مكثنا فيه يوماً أو بعض يوم قال المفسرون : إنهم دخلوا في الكهف صباحاً وبعثهم الله في آخر النهار فلما استيقظوا ظنوا أن الشمس قد غربت فقالوا لبثنا يوماً ، ثم رأوها لم تغرب فقالوا أو بعض يوم ، وما دروا أنهم ناموا ثلاثمائة وتسع سنين { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } أي قال بعضهم ، الله أعلم بمدة إقامتنا ولا طائل وراء البحث عنها فخذوا بما هو أهم وأنفع لكم فنحن الآن جياع { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ } أي فأرسلوا واحداً منكم إلى المدينة بهذه النقود الفضية { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ } أي فليختر لنا أحلَّ وأطيب الطعام فليشتر لنا منه { وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } أي وليتلطف في دخول المدينة وشراء الطعام حتى لا يشعر بأمرنا أحد { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } أي إن يظفر يقتلوكم بالحجارة أو يردوكم إلى دينهم الباطل { وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } أي وإِن عدتم إلى دينهم ووافقتموهم على كفرهم فلن تفوزوا بخيرٍ أبداً ، وهكذا يتناجى الفتية فيما بينهم خائفين حذرين أن يظهر عليهم الملك الجبار فيقتلهم أو يردهم إلى عبادة الأوثان فيوصون صاحبهم بالتلطف بالدخول والخروج وأخذ الحيطة والحذر { وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا } أي وكما بعثناهم من نومهم كذلك أطلعنا الناس عليهم ليستدلوا بذلك على صحة البعث ويوقنوا أن القيامة لا شك فيها ، فتكون قصة أصحاب الكهف حجة واضحة ودلالة قاطعة على إمكان البعث والنشور فإن القادر على بعث أهل الكهف بعد نومهم ثلاثمائة عام قادر على بعث الخلق بعد مماتهم { إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } أي حين تنازع القوم في أمر أهل الكهف بعد أن أطلعهم الله عليهم ثم قبض أرواحهم { فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً } أي قال بعض الناس : ابنوا على باب كهفهم بنياناً ليكون علَماً عليهم { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } أي الله أعلم بحالهم وشأنهم { قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } أي قال الفريق الآخر وهم الأكثرية الغالبة : لنتخذنَّ على باب الكهف مسجداً نصلي فيه ونعبد الله فيه { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } أي سيقول هؤلاء القوم الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب هم ثلاثة رجال يتبعهم كلبهم { وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ } أي ويقول البعض : إِنهم خمسةٌ سادسهم الكلب قذفاً بالظنِّ من غير يقين ولا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } أي ويقول البعض إنهم سبعةٌ والثامن هو الكلب { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } أي الله أعلم بحقيقة عددهم { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } أي لا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس قال ابن عباس : أنا من ذلك القليل ، كانوا سبعةً إن الله عدَّهم حتى انتهى إلى السبعة قال المفسرون : إن الله تعالى لما ذكر القول الأول والثاني أردفه بقوله { رَجْماً بِٱلْغَيْبِ } ولما ذكر القول الأخير لم يقدح فيه بشيء فكأنه أقر قائله ثم نبَّه رسوله إلى الأفضل والأكمل وهو ردُّ العلم إلى علام الغيوب { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } أي فلا تجادل أهل الكتاب في عدتهم إلا جدال متيقنٍ عالم بحقيقة الخبر { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } أي لا تسأل أحداً عن قصتهم فإِنَّ فيما أوحي إليك الكفاية { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } أي لا تقولنَّ لأمرٍ عزمت عليه إني سأفعله غداً إلا إذا قرنته بالمشيئة فقلت إن شاء الله قال ابن كثير : سبب نزول الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف قال : ( غداً أجيبكم ) فتأخر الوحي عنه خمسة عشر يوماً { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أي أذا نسيت أن تقول إن شاء الله ثم تذكرت فقلها لتبقى نفسك مستشعرةً عظمة الله { وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً } أي لعلَّ الله يوفقني ويرشدني إلى ما هو أصلح من أمر ديني ودنياي { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } أي مكثوا في الكهف نائمين ثلاثمائة وتسع سنين ، وهذا بيانٌ لما أُجمل في قوله تعالى { سِنِينَ عَدَداً } { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أي الله أعلم بمدة لبثهم في الكهف على وجه اليقين { لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي هو تعالى المختص بعلم الغيب وقد أخبرك بالخبر القاطع عن أمرهم الحكيمُ الخبير { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي ما أبصره بكل موجود ، وما أسمعه لكل مسموع ، يدرك الخفيات كما يدرك الجليات { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ } أي ليس للخلق ناصرٌ ولا معين غيره تعالى { وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } أي ليس له شريك ولا مثيل ولا نظير ، ولا يقبل في قضائه وحكمه أحداً لأنه الغنيّ عما سواه . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { يُبَشِّرَ … وَيُنْذِرَ } وبين { يَهْدِ … ويُضْلِلْ } وبين { أَيْقَاظاً … ورُقُودٌ } وبين { ذَاتَ ٱليَمِينِ … وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ } . 2 - الطباق المعنوي بين { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ … ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } لأن معنى الأول أنمناهم والثاني أيقظناهم . 3 - الجناس الناقص بين { قَامُواْ … وقَالُواْ } . 4 - الإِطناب بذكر الخاص بعد العام { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيدا } { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } لشناعة دعوى الولد لله ، وفيه من بديع الحذف وجليل الفصاحة حذف المفعول الأول أي لينذر الكافرين بأساً شديداً ، ثم ذكر المفعول الأول وحذف الثاني في قوله { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } عذاباً شديداً فحذف العذاب لدلالة الأول عليه وحذف من الأول المنذرين لدلالة الثاني عليه ، وهذا من ألطف الفصاحة . 5 - صيغة التعجب { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } . 6 - الاستعارة التمثيلية { بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ } شبَّه حاله عليه السلام مع المشركين بحال من فارقته الأحباب فهمَّ بقتل نفسه أو كاد يهلك نفسه حزناً ووجداً عليهم . 7 - الاستعارة التبعية { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ } شبّهت الإِنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان كما تضرب الخيمة على السكان وكذلك يوجد استعارة في { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } لأن الربط هو الشد والمراد شددنا على قلوبهم كما تشد الأوعية بالأوكية .