Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 213-218)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : ذكر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الناس فريقان : فريق يسعى في الأرض فساداً ويُضل الناس بخلابة لسانه وقوة بيانه ، وفريق باع نفسه للحق يبتغي به رضى الله ولا يرجو أحداً سواه ، ولما كان لا بدّ من التنازع بين الخير والشر - ولا بدَّ للحق من سيفٍ مصلتٍ إلى جانبه - لذا شرع الله للمؤمنين أن يحملوا السيف مناضلين وشرع الجهاد دفعاً للعدوان وردعاً للظلم والطغيان . اللغَة : { بَغْياً } البغيُ : العدوان والطغيان . { وَزُلْزِلُواْ } مأخوذ من زلزلة الأرض وهو اضطرابها والزلزلة : التحريك الشديد . { كُرْهٌ } مكروهٌ تكرهه نفوسكم قال ابن قتيبة : الكرهُ بالضم المشقة وبالفتح الإِكراه والقهر . { صَدٌّ } الصدُّ : المنع يقال : صدّه عن الشيء أي منعه عنه . { يَرْتَدِد } يرجع والردةُ الرجوع من الإِيمان إلى الكفر قال الراغب : الارتداد والردة : الرجوع في الطريق الذي جاء منه لكن الردَّة تختص بالكفر ، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره قال تعالى : { فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] { حَبِطَتْ } بطلت وذهبت قال في اللسان : حبط عمل عملاً ثم أفسده وفي التنزيل { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 9 ] أي أبطل ثوابهم . { يَرْجُونَ } الرجاء : الأمل والطمع في حصول ما فيه نفعٌ ومصلحة . سَبَبُ النّزول : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش على سرية ليترصدوا عيراً لقريش فيها " عمرو بن الحضرمي " وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير بما فيها من تجارة ، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام ، شهراً يأمن فيه الخائف ويتفرق فيه الناس إِلى معايشهم وعظم ذلك على المسلمين فنزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ … } الآية . التفسير : { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي كانوا على الإِيمان والفطرة المستقيمة فاختلفوا وتنازعوا { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } أي بعث الله الأنبياء لهداية الناس مبشرين للمؤمنين بجنات النعيم ومنذرين للكافرين بعذاب الجحيم { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي وأنزل معهم الكتب السماوية لهداية البشرية حال كونها منزلة بين الناس في أمر الدين الذي اختلفوا فيه { وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ } أي وما اختلف في الكتاب الهادي المنير المنزل لإِزالة الاختلاف إلا الذين أعطوا الكتاب أي إنهم عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أُنزل لإِزالة الاختلاف سبباً لاستحكامه ورسوخه { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } أي من بعد ظهور الحجج الواضحة والدلائل القاطعة على صدق الكتاب فقد كان خلافهم عن بيّنة وعلم لا عن غفلةٍ وجهل { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي حسداً من الكافرين للمؤمنين { فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ } أي هدى الله المؤمنين للحق الذي اختلف فيه أهل الضلالة بتيسيره ولطفه { وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي يهدي من يشاء هدايته إِلى طريق الحق الموصل إِلى جنات النعيم { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } أي بل ظننتم يا معشر المؤمنين أن تدخلوا الجنة بدون ابتلاءٍ وامتحان واختبار { وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } أي والحال لم ينلكم مثل ما نال من سبقكم من المؤمنين من المحن الشديدة ، ولم تُبتلوا بمثل ما ابتلوا به من النكبات { مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ } أي أصابتهم الشدائد والمصائب والنوائب { وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } ؟ أي أزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة حتى وصل بهم الحال أن يقول الرسول والمؤمنون معه متى نصر الله ؟ أي متى يأتي نصر الله وذلك استبطاءً منهم للنصر لتناهي الشدة عليهم ، وهذا غاية الغايات في تصوير شدة المحنة ، فإِذا كان الرسل - مع علو كعبهم في الصبر والثبات - قد عيل صبرهم وبلغوا هذا المبلغ من الضجر والضيق كان ذلك دليلاً على أن الشدة بلغت منتهاها قال تعالى جواباً لهم : { أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } أي ألا فأبشروا بالنصر فإنه قد حان أوانه { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ] ثم قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } أي يسألونك يا محمد ماذا ينفقون وعلى من ينفقون ؟ وقد نزلت لمّا قال بعض الصحابة يا رسول الله : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها ؟ { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } أي قل لهم يا محمد اصرفوها في هذه الوجوه { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي وكل معروف تفعلونه يعلمه الله وسيجزيكم عليه أوفر الجزاء ، ثم قال تعالى مبيناً حكمة مشروعية القتال في الإِسلام { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } أي فرض عليكم قتال الكفار أيها المؤمنون وهو شاق ومكروه على نفوسكم لما فيه من بذل المال وخطر هلاك النفس { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي ولكن قد تكره نفوسكم شيئاً وفيه كل النفع والخير { وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } أي وقد تحب نفوسكم شيئاً وفيه كل الخطر والضرر عليكم ، فلعل لكم في القتال - وإِن كرهتموه - خيراً لأن فيه إِما الظفر والغنيمة أو الشهادة والأجر ، ولعل لكم في تركه - وإِن أحببتموه - شراً لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي الله أعلم بعواقب الأمور منكم وأدرى بما فيه صلاحكم في دنياكم وآخرتكم فبادروا إِلى ما يأمركم به { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } أي يسألك أصحابك يا محمد عن القتال في الشهر الحرام أيحل لهم القتال فيه ؟ { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } أي قل لهم القتال فيه أمره كبير ووزره عظيم ولكن هناك ما هو أعظم وأخطر وهو { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ } أي ومنع المؤمنين عن دين الله وكفرهُم بالله وصدُّهم عن المسجد الحرام - يعني مكة - وإِخراجكم من البلد الحرام وأنتم أهله وحماته ، كلُّ ذلك أعظم وزراً وذنباً عند الله من قتل من قتلتم من المشركين ، فإِذا استعظموا قتالكم لهم في الشهر الحرام فليعلموا أنَّ ما ارتكبوه في حق النبي والمؤمنين أعظم وأشنع { وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ } أي فتنة المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه أكبر عند الله من القتل { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } أي ولا يزالون جاهدين في قتالكم حتى يعيدوكم إِلى الكفر والضلال إِن قدروا فهم غير نازعين عن كفرهم وعدوانهم { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } أي ومن يستجب لهم منكم فيرجع عن دينه ويرتد عن الإِسلام ثم يموت على الكفر فقد بطل عمله الصالح في الدارين وذهب ثوابه { وَأُوْلۤـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي وهم مخلدون في جهنم لا يخرجون منها أبداً { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي إِن المؤمنين الذين فارقوا الأهل والأوطان وجاهدوا الأعداء لإِعلاء دين الله { أُوْلۤـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم الجديرون بأن ينالوا رحمة الله والله عظيم المغفرة ، واسع الرحمة . البَلاَغَة : 1 - { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } فيه إِيجاز بالحذف أي كانوا أمة واحدة على الإِيمان متمسكين بالحق فاختلفوا فبعث الله النبيين ودلّ على المحذوف قوله : { لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } . 2 - { أَمْ حَسِبْتُمْ } أم منقطعة والهمزة فيها للإِنكار والاستبعاد أي بل أحسبتم ففيه استفهام إِنكاري . 3 - { وَلَمَّا يَأْتِكُم } لمّا تدل على النفي مع توقع وقوع المنفي كما قال الزمخشري والمعنى : لمّا ينزل بكم مثل ما نزل بمن قبلكم وسينزل فإِن نزل فاصبروا قال المبرد : إِذا قال القائل : لم يأتني زيد فهو نفي لقولك أتاك زيد ؟ وإِذا قال : لما يأتني فمعناه أنه لم يأتني بعد وأنا أتوقعه وعلى هذا يكون إِتيان الشدائد على المؤمنين متوقعاً منتظراً . 4 - { أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } في هذه الجملة عدة مؤكدات تدل على تحقق النصر أولاً : بدء الجملة بأداة الاستفتاح " ألا " التي تفيد التأكيد . ثانياً : ذكر " إِنَّ " الدالة على التوكيد أيضاً . ثالثاً : إيثار الجملة الاسمية على الفعلية فلم يقل " ستنصرون " والتعبير بالجملة الاسمية يفيد التأكيد . رابعاً : إضافة النصر إلى رب العالمين القادر على كل شيء . 5 - { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } وضع المصدر موضع اسم المفعول " كرهٌ " مكان " مكروه " للمبالغة كقول الخنساء : @ فإِنما هي إِقبال وإِدبار @@ 6 - { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً … وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً } بين الجملتين من المحسنات البديعية ما يسمى بـ " المقابلة " فقد قابل بين الكراهية والحب ، وبين الخير والشر . 7 - { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } طباق بالسلب . فَائدَة : عبّر تعالى بصيغة الواحد عن كتب النبيّين { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } للإِشارة إِلى أن كتب النبيّين وإِن تعددت هي في لبّها وجوهرها كتاب واحد لاشتمالها على شرع واحد في أصله كما قال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ … } [ الشورى : 13 ] الآية . تنبيه : روى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : " شكونا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إِلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون " .