Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 75-118)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى إِعراض المشركين عن دعوة الإِيمان ، ذكر هنا سبب الإِعراض وهو العناد والطغيان ، ثم أردفه بإِقامة الأدلة على التوحيد ، ثم ذكر أحوال الآخرة وانقسام الناس إِلى سعداء وأشقياء ، وختم السورة ببيان الحكمة من حشر الناس إِلى دار الجزاء وأنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي ولا البرُّ من الفاجر . اللغَة : { مُبْلِسُونَ } يائسون متحيرون ، والإِبلاس : اليأس من كل خير { يُجْيِرُ } يمنع ويحمي من استغاث به يقال : أجرت فلاناً على فلان إِذا أغثته ومنعته منه { هَمَزَاتِ } جمع همزة وهي الدفع والتحريك الشديد وهو كالهز والأزّ ، وهمزات الشيطان : كيده بالوسوسة { بَرْزَخٌ } حاجز ومانع قال الجوهري : البرزخ : الحاجز بين الشيئين { كَالِحُونَ } الكلوح : أن تتقلَّص الشفتان وتتباعد عن الأسنان ، وذلك نهاية القبح لوجه الإِنسان . سَبَبُ النّزول : عن ابن عباس قال : نزلت في قصة " ثمامة بن أُثال " لما أسرته السرية وأسلم وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله ، حال بين مكة وبين الميرة وقال : والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ اللهُ قريشاً بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز قيل وما العلهز ؟ قال كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه فقال أبو سفيان : أنشدك الله والرَّحم ، أليس تزعم أنَّ الله بعثك رحمة للعالمين ؟ قال : بلى ، قال فوالله ما أراك إِلا قتلت الآباء بالسيف ، وقتلت الأبناء بالجوع فنزل قوله تعالى { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } الآيات . التفسِير : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ } أي لو رحمنا هؤلاء المشركين الذين كذبوك وعاندوك ورفعنا عنهم ما أصابهم من قحطٍ وجدب وكشفنا عنهم البلاء { لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي لاستمروا وتمادوا في ضلالتهم وتجاوزهم الحدَّ يتردَّدون ويتخبطون حيارى { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِٱلْعَذَابِ } أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد ، وبالقحط والجوع { فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ } أي ما خضعوا لله ولا تواضعوا لجلاله { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أي وما دعوا ربهم لكشف البلاء بل استمروا على العتوّ والاستكبار ، والغرضُ أنه لم يحصل منهم تواضع ورجوع إِلى الله في الماضي ، ولا التجاءٌ إِلى الله في المستقبل لشدة جبروتهم وطغيانهم { حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } أي حتى إِذا جاءتهم أهوال الآخرة وأتاهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي إِذا هم آيسون من كل خير قال أبو السعود : المراد بالعذاب عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التهويل والوصف بالشدة والمعنى أنا محناهم بكل محنة من القتل ، والأسر ، والجوع وغير ذلك فما رؤي منهم لين ولا توجهٌ إِلى الإِسلام إلى أن يروا عذاب الآخرة فحينئذٍ يبلسون وتخضع رقابهم ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه ودلائل وحدانيته فقال { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنْشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } أي خلق لكم هذه الحواس لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا ، وفيه توبيخٌ للمشركين حيث لم يصرفوا النعم في مصارفها ، لأن السمع خلق ليسمع به ما يرشده ، والبصر ليشاهد به الآيات على كمال أوصاف الله ، والعقل ليتأمل به في مصنوعات الله وباهر قدرته فمن لم يصرف تلك النعم في مصارفها فهو بمنزلة عادمها كما قال تعالى { فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ } [ الأحقاف : 26 ] وخصَّ هذه الثلاثة بالذكر لعظم المنافع التي فيها { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي قليلاً تشكرون ربكم ، و { مَّا } لتأكيد القلة أي ما أقل شكركم لله على كثرة إِفضاله وإِنعامه عليكم ؟ { وَهُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي خلقكم وبثكم في الأرض بطريق التناسل { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي وإِليه وحده تجمعون للجزاء والحساب { وَهُوَ ٱلَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي يُحيي الرِّمم ويميت الخلائق والأمم { وَلَهُ ٱخْتِلاَفُ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } أي إِن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقصان بفعله سبحانه وحده ليقيم الدليل على وجوده وقدرته { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي أفليس لكم عقول تدركون بها دلائل قدرته ، وآثار قهره ، فتعلمون أن من قدر على ذلك ابتداءً ، قادرٌ على إِعادة الخلق بعد الفناء ؟ { بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ ٱلأَوَّلُونَ } { بَلْ } للإِضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات والعبر ، بل قال هؤلاء المشركون - من كفار مكة - مثل ما قال الأمم المتقدمون { قَالُوۤاْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } ؟ أي أئذا بلينا وصرنا ذراتٍ ناعمة ، وعظاماً نخرة أئنا لمخلوقون ثانية ؟ هذا لا يتصور ولا يكون أبداً { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَـٰذَا مِن قَبْلُ } أي لقد وعدنا بهذا نحن ومن سبقنا فلم نر له حقيقة { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي ما هذا إِلا أكاذيب وأباطيل المتقدمين ولما أنكروا البعث والنشور أمر تعالى رسوله أن يفحمهم بالحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل فقال { قُل لِّمَنِ ٱلأَرْضُ وَمَن فِيهَآ } ؟ أي قل يا محمد جواباً لهم عما قالوه : لمن الأرض ومن فيها من المخلوقات ؟ ومن مالكها والمتصرف فيها بالإِيجاد والإِفناء ؟ { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي إِن كان عندكم علمٌ فأخبروني بذلك ، وفيه استهانةٌ بهم وتقريرٌ لجهلهم قال القرطبي : يخبر تعالى في الآية بربوبيته ووحدانيته ، وملكه الذي لا يزول ، وقدرته التي لا تحول ، ودلت هذه الآيات - وما بعدها - على جواز جدال الكفار وإِقامة الحجة عليهم ، ونبَّهت على أنَّ من ابتدأ بالخلق والإِيجاد ، والإِبداع ، هو المستحقُّ للألوهية والعبادة { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي فسيقولون الله خالقها وموجدها ولا بدَّ لهم من الاعتراف بذلك { قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ؟ أي أفلا تعتبرون فتعلمون أن من ابتدأ ذلك قادر على إِعادته ؟ { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } ؟ أي من هو خالق السماوات الطباق بما فيها الشموس ، والكواكب والأقمار ، ومن هو خالق العرش الكبير الذي تحمله الملائكة الأطهار ؟ { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي سيقولون : اللهُ خالقه وهو للّه { قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي أفلا تخافون من عذابه فتوحّدونه وتتركون عبادة غيره من الأوثان والأصنام { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } الملكُوت من صفات المبالغة أي من بيده الملك الواسع التام ؟ ومن بيده خزائن كل شيء ؟ ومن هو المتصرف في هذه الأكوان بالخلق والإِيجاد والتدبير ؟ { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } أي يحمي من استجار به والتجأ إِليه ، ولا يغيث أحدٌ منه أحداً { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي إِن كنتم تعلمون فأخبروني عن ذلك { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي سيقولون : الملك كله والتدبيرُ للّه جلَّ وعلا { قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ } أي قل لهم : فكيف تُخدعون وتُصرفون عن طاعته وتوحيده مع اعترافكم وعلمكم بأنه وحده المتصرف المالك ؟ قال أبو حيان : والسحر هنا مستعار وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط ، ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع للمسحور من التخبط والتخليط رتَّب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولاً { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ؟ ثم قال ثانياً { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } ؟ وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف ، ثم قال ثالثاً { فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ } وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِٱلْحَقِّ } أي بل جئناهم بالقول الصدق في أمر التوحيد والبعث والجزاء { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي كاذبون فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد . لمَّا بالغ في الحِجاج عليه بالآيات السابقة أعقبها بهذه الآية كالوعيد والتهديد ، ثم بيَّن بطلان الشريك والولد بالبرهان القاطع فقال { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ } أي ما اتخذ الله ولداً مطلقاً لا من الملائكة ولا من البشر { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ } أي وليس معه من يشاركه في الألوهية والربوبية { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ } أي لو كان معه إِله - كما زعم عبدة الأوثان - لانفرد كل إِلهٍ بخلقه الذي خلق واستبدَّ به ، وتميَّز ملك كلِّ واحد عن ملك الآخر { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي ولغلب بعضهم على بعض كحال ملوك الدنيا قال ابن كثير : المعنى لو قدر تعدُّد الآلهة لانفرد كلٌ منهم بما خلق ، ثم لكان كلٌ منهم يطلب قهر الآخر وخلافه فيعلو بعضهم على بعض وما كان ينتظم الوجود ، والمشاهد أن الوجود منتظمٌ متَّسقٌ غاية الكمال فدل على تنزه الله عن الولد والشريك ولهذا قال { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي تنزّه الله وتقدَّس عما يصفه به الظالمون { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي هو تعالى العالم بما غاب عن الأنظار ، وبما تدركه الأبصار ، لا تخفى عليه خافية من شؤون الخلق { فَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تقدَّس وتنزَّه عن الشريك والولد { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } أي قل يا ربِّ إِن كان ولا بدَّ من أن تُريَني ما تعدهم من العذاب في الدنيا { رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } هذا جواب الشرط { إِمَّا } وكرَّر قوله { رَّبِّ } مبالغةً في الدعاء والتضرع أي ربّ فلا تجعلني في جملة الظالمين فأهلك بهلاكهم قال أبو حيان : ومعلوم أنه عليه السلام معصومٌ مما يكون سبباً لجعله مع الظالمين ولكنه أُمر أن يدعو بذلك إِظهاراً للعبودية وتواضعاً لله { وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ } أي ونحن قادرون على أن نريك العذاب الذي وعدناهم به ولكن نؤخره لحكمة { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ } أي ادفع إِساءتهم بالصفح عنهم وتجمَّل بمكارم الأخلاق قال ابن كثير : أرشده إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإِحسان إلى من يسيء إِليه ليستجلب خاطره ، فتعود عدواته صداقةً ، وبغضه محبة { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } أي نحن أعلم بحالهم وبما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء وسنجازيهم عليه { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ } أي أعتصم بك من نزغات الشياطين ووساوسهم المغرية على الباطل والمعاصي { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } أي وأعتصم وأحتمي بك يا رب من أن يصيبوني بسوء أو يكونوا معي في أموري ، كرَّر ذلك للمبالغة والاعتناء بشأن الاستعاذة { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } عاد الكلام عن المشركين أي حتى إِذا حضر الموتُ أحدهم وعاين أهواله وشدائده { قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } أي قال تحسراً على ما فرط منه : ربِّ ردَّني إلى الدنيا ، وصيغة الجمع للتعظيم { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } أي لكي أعمل صالحاً فيما ضيَّعت من عمري { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } { كَلاَّ } كلمةُ ردع وزجر أي لا رجوع إِلى الدنيا فليرتدع عن ذلك فإِن طلبه للرجعة كلام لا فائدة فيه ولا جدوى منه وهو ذاهبٌ أدراج الرياح { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي وأمامهم حاجزٌ يمنعهم عن الرجوع إِلى الدنيا - هو عالم البرزخ - الذي يحول بينهم وبين الرجعة يلبثون فيه إِلى يوم القيامة قال مجاهد : البرزخُ : الحاجز ما بين الدنيا والآخرة { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } أي فإِذا نفخ في الصور النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ } أي فلا قرابة ولا نسب ينفعهم يوم القيامة لزوال التراحم والتعاطف من شدة الهول والدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأُمه وأبيه وصاحبته وبنيه { وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن شأنه لاشتغال كل واحد بنفسه ، ولا تنافي بينها وبين قوله { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الطور : 25 ] لأن يوم القيامة طويل وفيه مواقف ومواطن ، ففي بعضها يتكلمون وفي بعضها لا ينطقون { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي فمن رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي فهم السعداء الذين فازوا فنجوا من النار وأُدخلوا الجنة { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي زادت سيئاته على حسناته { فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } أي فهم الأشقياء الذين خسروا سعادتهم الأبدية بتضييع أنفسهم وتدنيسها بالكفر والمعاصي { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } أي هم مقيمون في جهنم لا يخرجون منها أبداً { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ } أي تحرقها بشدة حرِّها ، وتخصيص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } أي وهم في جهنم عابسون مشوَّهو المنظر قال ابن مسعود : قد بدتْ أسنانهم وتقلَّصت شفاههم كالرأس المُشيَّط بالنار ، وفي الحديث " تشويه النارُ فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سُرَّته " { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } أي يقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً : ألم تكن آيات القرآن الساطع تقرأ عليكم في الدنيا ؟ { فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي فكنتم لا تصدّقون بها مع وضوحها { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } أي غلبت علينا شقاوتنا { وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ } أي وكنَّا ضالين عن الهدى بسبب اتباعنا للملذّات والأهواء { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا } أي أخرجنا من النار وردُنَّا إلى الدنيا { فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } أي فإِن رجعنا إلى الكفر والمعاصي بعد ذلك نكون قد تجاوزنا الحدَّ في الظلم العدوان . أقروا أولاً بالإِجرام ثم تدرجوا من الإِقرار إلى الرغبة والتضرع فجاء الجواب بالتيئيس والزجر { قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } أي ذلوا في النار وانزجروا كما تُزجر الكلاب ولا تكلموني في رفع العذاب قال في التسهيل : اخسئوا : كلمة تستعمل في زجر الكلاب ففيها إِهانةٌ وإِبعاد { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ } قال مجاهد : هم بلال ، وخباب ، وصهيب وغيرهم من ضعفاء المسلمين كان أبو جهل وأصحابه يهزءون بهم { فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً } أي فسخرتم منهم واستهزأتم بهم { حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } أي حتى نسيتم بتشاغلكم بهم واستهزائكم عليهم عن طاعتي وعبادتي { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } أي وكنتم تتضحكون عليهم في الدنيا { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ } أي جزيتهم بسبب صبرهم على أذاكم أحسن الجزاء { أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ } أي أنهم هم الفائزون بالنعيم المقيم { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ } أي قال تعالى للكفار على سبيل التبكيت والتوبيخ : كم مكثتم في الدنيا وعمَّرتم فيها من السنين ؟ { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أي مكثنا يوماً أو أقل من يوم { فَسْئَلِ ٱلْعَآدِّينَ } أي الحاسبين المتمكنين من العدِّ قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب المدة التي لبثوها { قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي ما أقمتم حقاً في الدنيا إِلا قليلاً قال الرازي : كأنه قيل لهم : صدقتم ما لبثتم فيها إِلا قليلاً فقد انقضت ومضت ، والغرضُ تعريفهم قلة أيام الدنيا في مقابلة أيام الآخرة { لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي لو كان لكم علمٌ وفهم لعرفتم حقارة الدنيا ومتاعها الزائل { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } أي أظننتم - أيها الناس - أنما خلقناكم باطلاً وهملاً بلا ثواب ولا عقاب كما خلقت البهائم { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } أي وأنه لا رجوع لكم إِلينا للجزاء ؟ لا ليس الأمر كما تظنون وإِنما خلقناكم للتكليف والعبادة ثم الرجوع إِلى دار الجزاء { فَتَعَالَى ٱللَّهُ } أي فتنزَّه وتقدَّس الله الكبير الجليل { ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ } أي صاحب السلطان ، المتصرف في ملكه بالإِيجاد والإِعدام ، والإِحياء والإِفناء ، تنزَّه عن العبث والنقائض وعن أن يخلق شيئاً سفهاً لأنه حكيم { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا ربَّ سواه ولا خالق غيره { رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } أي خالق العرش العظيم وصفه بالكريم لأن الرحمة والخير والبركة تنزل منه ، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين { وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ } أي ومن يجعل لله شريكاً ويعبد معه سواه { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } أي لا حجة له به ولا دليل { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ } أي جزاؤه وعقابه عند الله { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ } أي لا يفوز ولا ينجح من جحد وكذب بالله ورسله ، افتتح السورة بقوله { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } وختمها بقوله { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ } ليظهر التفاوت بين الفريقين فشتان ما بين البدء والختام . { وَقُل رَّبِّ ٱغْفِرْ وَٱرْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ } أمر رسوله بالاستغفار والاسترحام تعليماً للأمة طريق الثناء والدعاء ، اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء ، يا أرحم الراحمين ، اللهم آمين . البّلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الامتنان { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنْشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } . 2 - التفنن { ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ } أفرد السمع وجمع الأبصار تفنناً . 3 - التنكير للتقليل { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } و { مَّا } تأكيد للقلة المستفادة من التنكير والمعنى شكراً قليلاً وهو كناية عن عدم الشكر . 4 - الاستفهام الذي غرضه الإِنكار والتوبيخ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ؟ { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } ؟ 5 - الطباق بين { يُحْيِي وَيُمِيتُ } . 6 - حذف جواب الشرط ثقةً بدلالة اللفظ عليه { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي إِن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني عنه . 7 - طباق السلب { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ } . 8 - تأكيد الكلام بذكر حرف الجر الزائد { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ } أي ما اتخذ ولداً وكذلك { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ } ذكر { مِنْ } في الجملتين تأكيداً وتثبيتاً للنفي . 9 - الطباق في { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } . 10 - التأكيد بإِنَّ واللام { وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ } لإِنكار المخاطبين لذلك . 11 - الطباق المعنوي { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ } لأنه المعنى ادفع بالحسنة السيئة فهو طباق بالمعنى لا باللفظ . 12 - واو الجمع للتعظيم { رَبِّ ٱرْجِعُونِ } ولم يقل ارجعني تعظيماً لله جل وعلا . 13 - المجاز المرسل { إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } أطلق الكلمة على الجملة وهو من إِطلاق الجزء وإرادة الكل . 14 - المقابلة اللطيفة بين { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } وبين { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ … } الآيتان . 15 - القصر { أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ } . 16 - جناس الاشتقاق { ٱغْفِرْ وَٱرْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ } . 17 - السجع الموزون الخالي من التكلف وهو كثير مشهور .