Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 21-34)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى حادثة الإِفك ، أتبعها بالتحذير من سلوك طريق الشيطان المتربص بالإِنسان الذي يدعو إلى السوء والشر والفساد ، ثم ذكر تعالى آداب الاستئذان والزيارة لأن أهل الإِفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة فصارت طريقاً للتهمة ، فأوجب تعالى ألا يدخل إنسان ببيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام ، ثم أتبعها بآيات غضِّ البصر . اللغَة : { يَأْتَلِ } يحلف والأليَّةُ : اليمين ومنه { يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } [ البقرة : 226 ] اي يحلفون { ٱلْمُحْصَنَاتِ } العفائف الشريفات الطاهرات جمع محصنة وهي العفيفة { مُبَرَّءُونَ } منزهون والبراءة : النزاهة مما نسب للإِنسان من تهمة { تَسْتَأْنِسُواْ } تستأذنوا وأصله في اللغة : طلبُ الأنس بالشيء قال الشاعر : @ عوى الذئب فاستأنستُ للذئب إِذْ عوى وصوَّت إِنسانٌ فكدت أطير @@ { يَغُضُّواْ } غضَّ بصره : خفضه ونكَّسه وأصله إطباق الجفن على الجفن قال جرير : @ فغُضَّ الطّرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا @@ { بِخُمُرِهِنَّ } جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها ، وخمّروا الآنية أي غطوها { جُيُوبِهِنَّ } جمع جيب وهو الصدر { ٱلإِرْبَةِ } الحاجة إلى النساء . سَبَبُ النّزول : أ - كان أبو بكر الصدّيق ينفق على " مسطح بن أُثاثة " لمسكنته وقرابته ، فلما وقع أمر الإِفك وقال فيه مسطحٌ ما قال ، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً فأنزل الله { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ … } الآية فقال أبو بكر : واللهِ إني لأحبُ أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : والله لا أنزعها منه أبداً . ب - عن علي كرم الله وجهه قال : مرَّ رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقٍ من طرقات المدينة ، فنظر إلى امرأةٍ ونظرت إليه ، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به ، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط " أي صدمه الحائط " فشقَّ أنفه فقال : والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُعلمه أمري ، فأتاه فقصَّ عليه قصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا عقوبة ذنبك فأنزل الله { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ … } الآيات . التفسِير : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ } أي يا من صدَّقتم بالله ورسوله لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه بإِشاعة الفاحشة ، والإِصغاء إِلى الإِفك والقول به { وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ } أي ومن يتبع سيرة الشيطان وطريقته { فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } أي فإِن الشيطان يضل الإِنسان ويغويه لأنه يأمر بالفحشاء وهي ما أفرط قبحه ، والمنكر وهو ما ينكره الشرع وتنفر منه العقول السليمة { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب ، وبشرع الحدود المكفرة للخطايا { مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً } أي ما تطهر أحدٌ منكم من الأوزار أبد الدهر { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } أي ولكن الله بفضله ورحمته يطهر من يشاء بتوفيقه للتوبة النصوح وقبولها منه قال القرطبي : والغرض أن تزكيته لكم ، وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ } أي لا يحلف أهل الفضل في الدين وأصحاب الغنى واليسار { أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي أن لا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كانوا يعطونهم إيَّاه من الإِحسان لذنب فعلوه { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ } أي وليعفوا عمّا كان منهم من جرم ، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة ، وليعودوا إلى ما كانوا عليه من الإِنعام والإِحسان { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ } أي ألا تحبون أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم ؟ روي أن أبا بكر لما سمع الآية قال : بلى أحب أن يغفر الله لي وأعاد النفقة إلى مسطح وكفَّر عن يمينه وقال : والله لا أنزعها منه أبداً ! ! قال المفسرون : والآية دالة على فضل أبي بكر فإن الله تعالى امتدحه بقوله { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ } وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على العقاب ، ثم توعَّد تعالى الذين يرمون العفائف الطاهرات فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ } أي يقذفون بالزنى العفيفات ، السليمات الصدور ، النقيات القلوب عن كل سوء وفاحشة { ٱلْمُؤْمِناتِ } أي المتصفاب بالإيمان مع طهارة القلب { لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } أي طردوا وأُبعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة قال ابن عباس : هذا اللعن فيمن قذف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ليس له توبة ، ومن قذف مؤمنة جعل الله له توبه وقال أبو حمزة : نزلت في مشركي مكة ، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا خرجت لتفجر { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي ولهم مع اللعنة عذاب هائل لا يكاد يوصف بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي وذلك العذاب الشديد في ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين تشهد على الإِنسان جوارحه فتنطق الألسنة والأيدي والأرجل بما اقترف من سيء الأعمال { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ } أي يوم القيامة ينالهم حسابهم وجزاؤهم العادل من أحكم الحاكمين { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ } أي ويعلمون حينئذٍ أن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً ، الظاهر عدله في تشريعه وحكمه . . ثم ذكر تعالى بالدليل القاطع ، والبرهان الساطع براءة عائشة ونزاهتها ، فهي زوجة رسول الله الطيب الطاهر وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه ، فلو لم تكن عائشة طيبة لما كانت زوجة لأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم وهذا قال { ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ } أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، وكذلك الطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء ، وهذا كالدليل على براءة عائشة لأنها زوجة أشرف رسول وأكرم مخلوق على الله ، وما كان الله ليجعلها زوجة لأحبِّ عباده لو لم تكن عفيفة طاهرة شريفة { أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } أي أولئك الفضلاء منزهون ممَّا تقوَّله أهل الإِفك في حقهم من الكذب والبهتان { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي لهم على ما نالهم من الأذى مغفرة لذنوبهم ، ورزقٌ كريم في جنات النعيم قال ابن كثير : وفيه وعدٌ بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } لما حذَّر تعالى من قذف المحصنات وشدد العقاب فيه ، وكان طريق هذا الاتهام مخالطة الرجال للنساء ، ودخولهم عليهم في أوقات الخلوات أرشد تعالى إلى الآداب الشرعية في دخول البيوت فأمر بالاستئذان قبل الدخول وبالتسليم بعده { حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا } أي لا تدخلوا بيوت الغير حتى تستأذنوا وتسلموا على أهل المنزل { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي ذلك الاستئذان والتسليم خير لكم من الدخول بغتة { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرشيدة قال القرطبي : المعنى إن الاستئذان والتسليم خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة أو من تحية الجاهلية فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال : حُيّيتم صباحاً ، وحُييتم مساءً ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ ، وروي " أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي ؟ قال نعم ، قال ليس لها خادمٌ غيري ، أأستأذن عليه ما كلما دخلتُ ؟ قال : أتحب أن تراها عريانه ؟ قال لا ، قال فاستأذن عليها " { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً } أي فإن لم تجدوا في البيوت أحداً يأذن لكم بالدخول إليها { فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ } أي فاصبروا ولا تدخوها حتى يسمح لكم بالدخول ، لأن للبيوت حرمة ولا يحل دخولها إلا بإذن أصحابها { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ } أي وإن لم يؤذن لكم وطلب منكم الرجوع فارجعوا ولا تلحًّوا { هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ } أي الرجوع أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والانتظار على الأبواب { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي هو تعالى عالم بالخفايا والنوايا وبجميع أعمالكم فيجازيكم عليها قال القرطبي : وفيه توعدٌ لأهل التجسس على البيوت ، ثم إنه تعالى لما ذكر حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور غير المسكونة فقال { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي ليس عليكم إثمٌ وحرج { أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } أي أن تدخلوا بغير استئذان بيوتاً لا تختص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات قال مجاهد : هي الفنادق التي في طرق السابلة لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل { فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } أي فيها منفعة لكم أو حاجة من الحاجات كالاستظلال من الحر ، وإيواء الأمتعة والرحال { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } أي يعلم ما تظهرون وما تُسرون في نفوسكم فيجازيكم عليه قال ابو السعود : وهذا وعيدٌ لمن يدخل مدخلاً لفسادٍ أو اطلاع على عورات ، ثم أرشد تعالى إلى الآداب الرفيعة من غض البصر ، وحفظ الفروج فقال { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يكفوا أبصارهم عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم ، فإن النظرة تزرع في القلب الشهوة ، ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً @ كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر @@ { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } أي يصونوا فروجهم عن الزنى وعن الإِبداء والكشف { ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ } أي ذلك الغضُّ والحفظ أطهرُ للقلوب ، وأتقى للدين ، وأحفظ من الوقوع في الفجور { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } أي هو تعالى رقيبٌ عليهم ، مطلعٌ على أعمالهم ، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم ، فعليهم أن يتقوا الله في السر والعلن قال الإِمام الفخر : فإن قيل فلم قدم غضَّ الأبصار على حفظ الفروج ؟ قلنا : لأن النظر بريد الزنى ، ورائد الفجور ، والبلوى فيه أشدُّ وأكثر ، ولا يكاد يُحترس منه { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } أي وقل أيضاً للمؤمنات يكففن أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه ، ويحفظن فروجهن عن الزنى وعن كشف العورات ، قال المفسرون : أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج ، وزادهن في التكليف على الرجال بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فقال { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي ولا يكشفن زينتهن للأجانب إلا ما ظهر منها بدون قصدٍ ولا نية سيئة قال ابن كثير : أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه ، كما قال ابن مسعود : الزينة زينتان : فزينةٌ لا يراها إلا الزوج : الخاتم والسوار ، وزينةٌ يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب ، وقيل : المراد به الوجه والكفان فإنهما ليسا بعورة قال البيضاوي : والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر ، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهن لئلا يبدو شيء من النحر والصدر ، وفي لفظ الضرب مبالغة في الصيانة والتستر ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } شققن مروطهن فاختمرن بها قال المفسرون : كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر ، بادية النحر ، حاسرة الذراعين ، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال ، وكنَّ يسدلن الخُمُر من ورائهن فتبقى صدورهن مكشوفة عارية ، فأمرت المؤمنات بأن يلقينها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } أي ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن { أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ } أي أو لآبائهن أو آباء أزواجهن وهو العم أبو الزوج فإنهما من المحارم ، فإن الأب يصون عرض ابنته ، ووالد الزوج يحفظ على ابنه ما يسوءه ، ثم عدد بقية المحارم فقال { أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } فذكر تعالى الأبناء ، وأبناء الأزواج ، والإِخوة ، وأبناء الإِخوة ، وأبناء الأخوات وكلهم من المحارم الذين يحرم الزواج بهم لما جبل الله في الطباع من النفرة من مماسة القريبات ونكاحهن { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } أي المسلمات وخرج بذلك النساء الكافرات قال مجاهد : المراد نساؤهن المسلمات ، ليس المشركات من نسائهن ، وليس يحل للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة وقال ابن عباس : هن المسلمات ولا تبدي زينتها أمام يهودية أو نصرانية { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أي من الإِماء المشركات قال ابن جرير : يعني من نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها { أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ } أي الخدام غير أولي الميل والشهوة والحاجة إلى النساء كالبُلْهِ والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً قال مجاهد : هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ولا يهمه إلا بطنه { أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ } أي الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا حدَّ الشهوة ، ولا يعرفون أمور الجماع لصغرهم فلا حرج أن تظهر المرأة زينتها أمامهم { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض قال ابن عباس : كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع صوت خلخالها ، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان { وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى ربكم بامتثال الطاعات ، والكفّ عن الشهوات ، لتنالوا رضاه وتفوزوا بسعادة الدارين { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال والنساء من أحرار رجالكم ونسائكم قال الطبري : الأَيامي جمع أَيَّم ، يوصف به الذكر والأنثى يقال : رجل أَيَّم وامرأة أَيِّمة إذا لم يكن لها زوج { وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } أي وأنكحوا كذلك أهل التقى والصلاح من عبيدكم وجواريكم قال البيضاوي : وتخصيص الصالحين لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهمُّ ، وفيه إشارة إلى مكانة التقى والصلاح في الإِنسان { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } أي إن يكن هؤلاء الذين تزوجونهم أهل فاقةٍ وفقر فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم ، ففي فضل الله ما يغنيهم { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي واسع الفضل ، جواد كريم ، يعطي الرزق من يشاء وهو عليم بمصالح العباد قال القرطبي : وهذا وعدٌ بالغنى للمتزوجين طلباً لرضى الله ، واعتصاماً من معاصيه وقال ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية وفي الحديث " ثلاثة حقٌّ على الله عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والغازي في سبيل الله " { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي وليجتهد في العفة وقمع الشهوة الذين لا تتيسر لهم سبل الزواج لأسباب مادية { حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } أي حتى يوسع الله عليهم ويسهل لهم أمر الزواج ، فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي والذين يريدون أن يتحرروا من رقِّ العبودية بمكاتبة أسيادهم من العبيد والأرقاء { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } أي فكاتبوهم على قدر من المال إن عرفتم منهم الأمانة والرشد ليصيروا أحراراً { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ } أي أعطوهم مما أعطاكم الله من الرزق ليكون لهم عوناً على فكاك أنفسهم { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ } أي لا تجبروا إماءكم على الزنى { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } أي إن أردن التعفف عن مقارفة الفاحشة ، وليس هذا للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته ، فالأصل في المملوكة أن يُحصنها سيدها أمّا أن يأمرها بالزنى وتمتنع وتريد العفة فذلك منتهى الخسة والدناءة منه قال المفسرون : نزلت في " عبد الله بن سلول " المنافق كان له جاريتان إحداهما تسمى " مُسَيْكة " والثانية تسمى " أميمة " فكان يأمرهما بالزنى للكسب ويضربهما على ذلك فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية { لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي لأجل أن تنالوا حطام هذه الحياة الزائل ، وتحصلوا على المال بطريق الفاحشة والرذيلة { وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي ومن يجبرهن على الزنى فإن الله غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنى لأنهن أُكرهن عليه وسينتقم ممن أكرههن شر انتقام { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } أي والله لقد أنزلنا إليكم أيها المؤمنون آيات واضحات وأحكاماً مفصلات { وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ } وضربنا لكم الأمثال بمن سبقكم من الأمم لتتعظوا وتعتبروا { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } أي وعظة وذكرى للمتقين . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الاستعارة اللطيفة { لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ } شبَّه سلوك طريق الشيطان والسير في ركابه بمن يتتبع خطوات الآخر خطوة خطوة بطريق الاستعارة . 2 - الإِيجاز بالحذف { أَن يُؤْتُوۤاْ } أي أن لا يؤتوا حذفت منه { لا } لدلالة المعنى وهو كثير في اللغة . 3 - صيغة الجمع للتعظيم { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ } والمراد به أبو بكر الصدّيق . 4 - الجناس الناقص بين { يَعْمَلُونَ } و { يَعْلَمُونَ } . 5 - المقابلة اللطيفة بين { ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ … وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } . 6 - الطباق بين { تُبْدُونَ … تَكْتُمُونَ } . 7 - الإِيجاز بالحذف { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } لأن المراد غض البصر عما حرَّم الله لا عن كل شيء فحذف ذلك اكتفاءً بفهم المخاطبين . 8 - المجاز المرسل { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } المراد مواقع الزينة وهو من باب إطلاق اسم الحال على المحل قال الزمخشري : وذكرُ الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر والتصون . فَائِدَة : قال بعض المحققين : إن يوسف لما رُمي بالفاحشة برّاه الله على لسان صبي في المهد ، وإن مريم لما رُميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى عليه السلام ، وإن عائشة لما رُميت بالفاحشة برأها الله في كتابه العزيز ، فما رضي الله لها ببراءة صبيٍّ ولا نبيّ حتى برّأها الله في القرآن من القذف والبهتان . تنبيه : السرُّ في تقديم غضّ البصر على حفظ الفروج { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور ، وهو مقدمة للوقوع في الخطر كما قال الشاعر : @ وكنتَ إذا أَرسلتَ طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيتَ الذي لا كلَّه أنت قادرٌ عليه وعلى عن بعضه أنت صابر @@ لطيفَة : ذكر أن قسِّيساً أراد أن ينال من المسلمين بالطعن في أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها ، فقال : إن الناس رموها بالإِفك ولا ندري أهي بريئة أم متهمة ؟ فأجابه بضع الحاضرين بقوله : إسمعْ يا هذا ، هناك امرأتان اتهمتا بالزنى وقد برأهما القرآن الكريم ، إحداهما ليس لها زوج وقد جاءت بولد ، والأخرى لها زوج ولم يأتها ولد - يقصد مريم وعائشة - فأيتهما أحرى بالتهمة ؟ فخرس القسيس .