Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 61-77)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر إعراض المشركين عن عبادة الرحمن أعقبها بذكر آياته الكونية الدالة على الوحدانية ، ثم ختم السورة الكريمة بذكر صفات عباد الرحمن التي استحقوا بها دخول الجنان . اللغَة : { بُرُوجاً } البروج : منازل الكواكب السيارة سميت بالبروج لأنها تشبه القصور العالية وهي للكواكب كالمنازل للسكان وقيل : هي الكواكب العظيمة { غَرَاماً } لازماً دائماً غير مفارق ومنه الغريم لملازمته { ٱلْغُرْفَةَ } الدرجة الرفيعة في الجنة وهي في اللغة العلية ، وكل بناءٍ عالٍ فهو غرفة { يَعْبَأُ } يبالي ويهتمُّ قال أبو عبيدة : ما أعبأ به أي وجودُه وعدمه عندي سواء ، والعبء في اللغة الثقل { لِزَاماً } ملازماً لكم . التفسِير : { تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً } أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي جعل في السماء تلك الكواكب العِظام المنيرة { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } أي وجعل فيها الشمس المتوهجة في النهار ، والقمر المضيء بالليل { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً } أي يخلف كلٌّ منهما الآخر ويتعاقبان ، فيأتي النهار بضيائه ثم يعقبه الليل بظلامه { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } أي لمن اراد أن يتذكَّر آلاء الله ، ويتفكر في بدائع صنعه { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } أي أراد شكر الله على إِفضاله ونعمائه قال الطبري : جعل الله الليل والنهار يخلف كل واحدٍ منهما الآخر ، فمن فاته شيء من الليل أدركه بالنهار ، ومن فاته شيء من النهار أدركه بالليل { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } الإِضافة للتشريف أي العباد الذين يحبهم الله وهم جديرون بالانتساب إليه هم الذين يمشون على الأرض في لين وسكينة ووقار ، لا يضربون بأقدامهم أشراً ولا بطراً ، ولا يتبخترون في مشيتهم { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } أي وإذا خاطبهم السفهاء بغلظةٍ وجفاءً قالوا قولاً يسْلَمون فيه من الإِثم قال الحسن : لا يجهلون على أحد ، وإِن جُهل عليهم حَلُموا { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } أي يُحيْون الليل بالصلاة ساجدين لله على جباههم ، أو قائمين على أقدامهم كقوله { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] قال الرازي : لما ذكر سيرتهم في النهار ومن وجهين : ترك الإِيذاء ، وتحمل الأذى بيَّن هنا سيرتهم في الليالي وهو اشتغالهم بخدمة الخالق { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ } أي يدعون ربهم أن ينجيهم من عذاب النار ، ويبتهلون إليه أن يدفع عنهم عذابها { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } أي لازماً دائماً غير مفارق { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي بئست جهنم منزلاً ومكان إقامة قال القرطبي : المعنى بئس المستقر وبئس المقام ، فهم مع طاعتهم مشفقون خائفون من عذاب الله ، وقال الحسن : خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرَقاً من عذاب جهنم { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } هذا هو الوصف الخامس من أوصاف عباد الرحمن والمعنى : ليسوا مبذرين في إِنفاقهم في المطاعم والمشارب والملابس ، ولا مقصِّرين ومضيّقين بحيث يصبحون بخلاء { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } أي وكان إنفاقُهم وسطاً معتدلاً بين الإِسراف والتقتير كقوله تعالى { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] الآية وقال مجاهد : " لو أنفقت مثل جبل أبي قُبيس ذهباً في طاعة الله ما كان سرَفاً ، ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان سَرَفاً " { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ } أي لا يعبدون معه تعالى إلهاً آخر ، بل يوحّدونه مخلصين له الدين { وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } أي لا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحقُّ أن تُقتل به النفوس من كفرٍ بعد إيمان ، أو زنىً بعد إحصان ، أو القتل قِصاصاً { وَلاَ يَزْنُونَ } أي لا يرتكبون جريمة الزنى التي هي من أفحش الجرائم { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } أي ومن يقترف تلك الموبقات العظيمة من الشرك والقتل والزنى يجد في الآخرة النكال والعقوبة ثم فسَّرها بقوله { يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ } أي يُضاعف عقابُه ويُغلَّظ بسبب الشرك وبسبب المعاصي { وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } أي يُخلد في ذلك العذاب حقيراً ذليلاً أبد الآبدين { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } أي إلاّ من تاب في الدنيا التوبة النصوح وأحسن عمله { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } أي يكرمهم الله في الآخرة فيجعل مكان السيئات حسنات وفي الحديث " إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة ، وآخر أهل النار خروجاً منها ، رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها ، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال : عملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه فيقال له : فإِنَّ لك مكانَ كل سيئةٍ حسنة فيقول يا رب : قد عملتُ أشياء لا أراها هٰهنا ، قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدتْ نواجذه " { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي واسع المغفرة كثير الرحمة { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتاباً } أي ومن تاب عن المعاصي وأصلح سيرته فإِن الله يتقبل توبته ويكون مرضياً عند الله تعالى { وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } هذا هو الوصف السابع من أوصاف عباد الرحمن أي لا يشهدون الشهادة الباطلة - شهادة الزور - التي فيها تضييعٌ لحقوق الناس { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } أي وإِذا مرُّوا بمجالس اللغو - وهي الأماكن التي يكون فيها العمل القبيح كمجالس اللهو ، والسينما ، والقمار ، والغناء المحرَّم - مرُّوا معرضين مكرمين أنفسهم عن أمثال تلك المجالس قال الطبري : واللغوُ كلُّ كلامٍ أو فعلٍ باطل وكلُّ ما يُستقبح كسبّ الإِنسان ، وذكر النكاح باسمه في بعض الأماكن ، وسماعِ الغناءِ مما هو قبيح ، كلُّ ذلك يدخل في معنى اللغو الذي يجب أن يجتنبه المؤمن { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } أي إِذا وُعظوا بآيات القرآن وخُوّفوا بها { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي لم يُعرضوا عنها بل سمعوها بآذانٍ واعية وقلوبٍ وجلة { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي اجعل لنا في الأزواج والبنين مسرةً وفرحاً بالتمسك بطاعتك ، والعمل بمرضاتك { وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أي اجعلنا قُدوة يقتدي بنا المتقون ، دعاةً إلى الخير هُداة مهتدين قال ابن عباس : أي أئمة يقتدى بنا في الخير { أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ } أي أولئك المتصفون بالأوصاف الجليلة السامية ينالون الدرجات العالية ، بصبرهم على أمر الله وطاعتهم له سبحانه { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً } أي ويُتلقَّون بالتحية والسلام من الملائكة الكرام كقوله تعالى { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 - 24 ] الآية { خَالِدِينَ فِيهَا } أي مقيمين في ذلك النعيم لا يموتون ولا يُخْرجون من الجنَّة لأنها دار الخلود { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي ما أحسنها مقراً وأطيبها منزلاً لمن اتقى الله { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } أي قل لهم يا محمد : لا يكترثُ ولا يحفلُ بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إيّاه في الشدائد { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي فقد كذبتم أيها الكافرون بالرسول والقرآن فسوف يكون العذاب ملازماً لكم في الآخرة . البَلاَغَة : تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الإِضافة للتشريف والتكريم { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } . 2 - الطباق بين السجود والقيام { سُجَّداً وَقِيَاماً } وكذلك بين الإِسراف والتقتير { لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } . 3 - المقابلة اللطيفة بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } مقابل قوله عن أهل النار { سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } . 4 - الاستعارة البديعة { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي لم يتغافلوا عن قوارع النذر حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر وهذا من أحسن الاستعارات . 5 - الكناية { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } كناية عن الفرحة والمسرَّة كما أن { ٱلْغُرْفَةَ } كناية عن الدرجات العالية في الجنة . تنبيه : قال القرطبي : وصف تعالى " عباد الرحمن " بإِحدى عشرة خصلة هي أوصافهم الحميدة من التحلِّي ، والتخلِّي وهي " التواضع ، والحلم ، والتهجد ، والخوف ، وترك الإسراف والإِقتار ، والبعد عن الشرك ، والنزاهة عن الزنى والقتل ، والتوبة ، وتجنب الكذب ، وقبول المواعظ ، والابتهال إلى الله " ثم بين جزاءهم الكريم وهو نيل الغرفة أي الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا .