Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 71-88)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى أنه هو الخالق المختار ، وسفَّه المشركين في عبادتهم لغير الله ، عقَّبه بذكر بعض الأدلة والبراهين الدالة على عظمته وسلطانه ، تذكيراً للعباد بوجوب شكر المنعم ، ثم ذكر قصة " قارون " وهي قصة الطغيان بالمال ، وما كان من نهايته المشئومة حيث خسف الله به وبكنوزه الأرض ، وهذه هي نتيجة الاستعلاء والغرور والطغيان . اللغَة : { سَرْمَداً } السرمد : الدائم الذي لا ينقطع ومنه قول طرفه : @ لعمرك ما أمري عليَّ بغمةٍ نهاري ولا ليلي عليَّ بسرمد @@ { مَفَاتِحَهُ } جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به ، وأما المفتاح فجمعه مفاتيح . { تَنُوءُ } ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله قال ذو الرمَّة : @ تنوء بأُخراها فلأْياً قيامها وتمشي الهُوينى عن قريبٍ فتبهر @@ { ٱلْعُصْبَةِ } الجماعة الكثيرة ومثلها العصابة ومنه قوله تعالى { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 8 ] سميت الجماعة عُصبة لأن بعضهم يتعصب لبعض ويتقوى به { وَيْكَأَنَّ } قال الجوهري : " ويْ " كلمةُ تعجب وقد تدخل على " كأن " فتقول : ويكأنَّ ، وقيل إنها كلمة تستعمل عند التنبه للخطأ وإظهار الندم قال الخليل ، إن القوم تنبهوا وقالوا نادمين على ما سلف منهم وَيْ { ظَهيراً } معيناً ومساعداً . التفسِير : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } أي قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين من كفار مكة : أخبروني لو جعل الله عليكم الليل دائماً مستمراً بلا انقطاع إلى يوم القيامة { مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ } ؟ أي من هو الإِله الذي يقدر على أن يأتيكم بالنور الذي تستضيئون به في حياتكم غيرُ الله تعالى ؟ { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } أي أفلا تسمعون سماع فهمٍ وقبول فتستدلوا بذلك على وحدانية الله تعالى ؟ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } أي أخبروني لو جعل الله عليكم النهار دائماً مستمراً بلا انقطاع { مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } أي من هو الإِله القادر على أن يأتيكم بليلٍ تستريحون فيه من الحركة والنصب غير الله تعالى ؟ { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } أي أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال ؟ ثم نبه تعالى إلى كمال رحمته بالعباد فقال { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ } أي ومن آثار قدرته ، ومظاهر رحمته أن خلق لكم الليل والنهار يتعاقبان بدقةٍ وإحكام { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي لتستريحوا بالليل من نصب الحياة وهمومها وأكدارها ، ولتلتمسوا من رزقه بالمعاش والكسب في النهار { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي ولتشكروا ربكم على نعمه الجليلة التي لا تُحصى ، ومنها نعمةُ الليل والنهار قال الإِمام الفخر : نبه تعالى بهذه الآية على أن الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان ، لأن المرء في الدنيا مضطر إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار ، ولولا الراحة والسكون بالليل ، فلا بدَّ منهما في الدنيا ، وأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل ، فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } قال ابن كثير : هذا نداءٌ ثانٍ على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهاً آخر ، يناديهم الرب على رءوس الأشهاد : أين شركائي الذين زعمتموهم في الدنيا ؟ { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } أي أخرجنا من كل أمةٍ شهيداً منهم يشهد عليهم بأعمالهم وهو نبيُّهم { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر ، هذا إعذار لهم وتوبيخٌ وتعجيز { فَعَلِمُوۤاْ أَنَّ ٱلْحَقَّ لِلَّهِ } أي فعلموا حينئذٍ أن الحقَّ لله ولرسله ، وأنه لا إله إلا هو { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ما كانوا يتخرصونه في الدنيا من الشركاء والأنداد ، ثم ذكر تعالى قصة " قارون " ونتيجة الغرور والطغيان فقال { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ } أي من عشيرته وجماعته قال ابن عباس : كان ابن عم موسى { فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ } أي تجبر وتكبر على قومه ، واستعلى عليهم بسبب ما منحه الله من الكنوز والأموال قال الطبري : أي تجاوز حدَّه في الكبر والتجبر عليهم { وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ } أي أعطيناه من الأموال الوفيرة ، والكنوز الكثيرة ما يثقل على الجماعة أصحاب القوة حمل مفاتيح خزائنه لكثرتها وثقلها فضلاً عن حمل الخزائن والأموال والآية تصويرٌ لما كان عليه قارون من كثرة المال والغنى والثراء { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ } أي لا تأشر ولا تبطر { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } أي لا يحب البطرين الذين لا يشكرون الله على إنعامه ، ويتكبرون بأموالهم على عباد الله { وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } أي اطلب فيما أعطاك الله من الأموال رضى الله ، وذلك بفعل الحسنات والصدقات والإِنفاق من الطاعات { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } قال الحسن : أي لا تضيّع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إيّاه { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } أي أحسن إلى عبادِ الله كما أحسن الله إليك { وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ } أي لا تطلب بهذا المال البغي والتطاول على الناس ، والإِفساد في الأرض بالمعاصي { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } أي لا يحب من كان مجرماً باغياً مفسداً في الأرض { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } لمَّا وعظه قومه أجابهم بهذا على وجه الرد عليهم والتكبر عن قبول الموعظة والمعنى : إنما أُعطيت هذا المال على علمٍ عندي بوجوه المكاسب ، ولولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي واستحقاقي له ما أعطاني هذا المال ! قال تعالى رداً عليه { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } أي أولم يعلم هذا الأحمق المغرور أنَّ الله قد أهلك من قبله من الأمم الخالية من هو أقوى منه بدناً وأكثر مالاً ؟ ! قال البيضاوي : والآية تعجبٌ وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله ، مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة ، وسمعه من حفاظ التواريخ { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } أي لا حاجة أن يسألهم الله عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه عالمٌ بكل شيء ، ولا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤالهم بل متى حقَّ عليهم العذاب أهلكهم بغتة ، ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بنصيحة قومه ، بل تمادى في غطرسته وغيِّه فقال تعالى { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } أي فخرج قارون على قومه في أظهر زينةٍ وأكملها قال المفسرون : خرج ذات يوم في زينةٍ عظيمة بأتباعه الكثيرين ، ركباناً متحلين بملابس الذهب والحرير ، على خيولٍ موشحةٍ بالذهب ، ومعها الجواري والغلمان في موكبٍ حافلٍ باهر { قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ } أي فلما رآه ضعفاء الإِيمان ممن تخدعهم الدنيا ببريقها وزخرفها وزينتها قالوا : يا ليت لنا مثل هذا الثراء والغنى الذي أُعطيه قارون { إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي ذو نصيب وافرٍ من الدنيا { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } أي وقال لهم العقلاء من أهل العلم والفهم والاستقامة { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } أي ارتدعوا وانزجروا عن مثل هذا الكلام فإن جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين خيرٌ مما ترون وتتمنَّون من حال قارون قال الزمخشري : أصل { وَيْلَكُ } الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع ، والبعث على ترك ما لا يرتضى { وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ٱلصَّابِرُونَ } أي ولا يُعطى هذه المرتبة والمنزلة في الآخرة إلا الصابرون على أمر الله قال تعالى تنبيهاً لنهايته المشئومة { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } أي جعلنا الأرض تغور به وبكنوزه ، جزاءً على عتوه وبطره { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي ما كان له أحد من الأنصار والأعوان يدفعون عنه عذاب الله { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ } أي وما كان المنتصرين بنفسه بل كان من الهالكين { وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأَمْسِ } أي وصار الذين تمنوا منزلتُه وغناه بالأمس القريب بعد أن شاهدوا ما نزل به من الخسف { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أي يقولون ندماً وأسفاً على ما صدر منهم من التمني : اعجبوا أيها القوم من صنع الله ، كيف أن الله يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده - بحسب مشيئته وحكمته - لا لكرامته عليه ، ويضيّق الرزق على من يشاء - لحكمته وقضائه ابتلاءً - لا لهوانه عليه ! ! قال الزمخشري : { وَيْكَأَنَّ } كلمتان " وَيْ " مفصولة عن " كأنَّ " وهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم ، ومعناه أن القوم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم منزلة قارون وتندموا وقالوا { لَوْلاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا } أل لولا أنَّ الله لطف بنا ، وتفضَّل علينا بالإِيمان والرحمة ، ولم يعطنا ما تمنيناه { لَخَسَفَ بِنَا } أي لكان مصيرنا مصير قارون ، وخسف بنا الأرض كما خسفها به { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ } أي أعجبُ من فعل الله حيث لا ينجح ولا يفوز بالسعادة الكافرون لا في ادنيا ، ولا في الآخرة . . وإلى هنا تنتهي " قصة قارون " وهي قصة الطغيان بالمال ، بعد أن ذكر تعالى قصة الطغيان بالجاه والسلطان في قصة فرعون وموسى ، ثم يأتي التعقيب المباشر في قوله تعالى { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً } الإِشارة للتفخيم والتعظيم أي تلك الدار العالية الرفيعة التي سمعت خبرها ، وبلغك وصفها هي دار النعيم الخالد السرمدي ، التي فيها ما لا عينٌ رأتْ ، ولا أُذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، نجعلها للمتقين الذين لا يريدون التكبر والطغيان ، ولا الظلم والعدوان في هذه الحياة الدنيا { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } أي العاقبة المحمودة للذين يخشون الله ويراقبونه ، ويبتغون رضوانه ويحذرون عقابه { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ من الحسنات فإن الله يضاعفها له أضعافاً كثيرة { وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ومن جاء يوم القيامة بالسيئات فلا يجزى إلا بمثلها ، وهذا من فضل الله على عباده أنه يضاعف لهم الحسنات ولا يضاعف لهم السيئات { إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ } أي إن الذي أنزل عليك يا محمد القرآن وفرض عليك العمل به { لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ } أي لرادُّك إلى مكة كما أخرجك منها ، وهذا وعدٌ من الله بفتح مكة ورجوعه عليه السلام إليها بعد أن هاجر منها قال ابن عباس : معناه لرادك إلى مكة ، وقال الضحال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجُحْفة اشتاق إلى مكة ، فأنزل الله عليه هذه الآية { قُل رَّبِّيۤ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ربي أعلم بالمهتدي والضال هل أنا أو أنتم ؟ فهو جلَّ وعلا الذي يعلم المحسن من المسيء ، ويجازي كلاً بعمله ، وهو جواب لقول كفار مكة : إنك يا محمد في ضلالٍ مبين { وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي وما كنت تطمع أن تنال النبوة ، ولا أن ينزل عليك الكتابُ ولكن رحمك الله بذلك ورحم العباد ببعثتك قال الفراء : وهذا استثناء منقطع والمعنىإلا أنّ ربك رحمك فأنزله عليك { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ } أي لا تكن عوناً لهم على دينهم ، ومساعداً لهم على ضلالهم ، بالمداراة والمجاملة ولكن نابذهم وخالفهم قال المفسرون : دعا المشركون الرسول إلى دين آبائه ، فأُمر بالتحرز منهم وأن يصدع بالحق ، والخطابُ بهذا وأمثاله له عليه السلام ، والمراد أمته لئلا يظاهروا الكفار ولا يوافقوهم { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ ٱللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } أي ولا تلتفت إلى هؤلاء المشركين ، ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع ما أنزل الله إليك من الآيات البينات { وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ } أي وادع الناس إلى توحيد ربك وعبادته { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } أي بمسايرتهم على أهوائهم ، فإن من رضي بطريقتهم كان منهم { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } أي لا تعبد إلهاً سوى الله { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا معبود بحقٍ إلا الله تعالى قال البيضاوي : وهذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } أي كل شيء يفنى وتبقى ذاتُه المقدسة ، أطلق الوجه وأراد ذات الله جلَّ وعلا قال ابن كثير : وهذا إخبار بأنه تعالى الدائم الباقي ، الحيُّ القيوم ، الذي تموت الخلائق ولا يموت ، فعبَّر بالوجه عن الذات كقوله { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26 - 27 ] { لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي له القضاء النافذ في الخلق ، وإليه مرجعهم جميعاً يوم المعاد لا إلى أحدٍ سواه . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - التبكيت والتوبيخ { مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ } ؟ ومثله { يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ } ؟ . 2 - اللَّف والنشر المرتب { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ } جمع الليل والنهار ثم قال { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } فأعاد السكن إلى الليل ، والابتغاء لطلب الرزق إلى النهار ، ويسمى هذا عند علماء البديع اللف والنشر المرتب ، لأن الأول عاد على الأول ، والثاني عاد على الثاني وهو من المحسنات البديعية . 3 - جناس الاشتقاق { لاَ تَفْرَحْ … ٱلْفَرِحِينَ } ومثله { ٱلْفَسَادَ … ٱلْمُفْسِدِينَ } . 4 - تأكيد الجملة بـ { إِنَّ } و ( اللام ) { إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } لأن السامع شاك ومتردّد . 5 - الكناية { تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأَمْسِ } كنَّى عن الزمن الماضي القريب بلفظ الأمس . 6 - الطباق { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ … وَيَقْدِرُ } . 7 - المقابلة اللطيفة { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } { وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى … } الآية . 8 - المجاز المرسل { إِلاَّ وَجْهَهُ } أطلق الجزء وأراد الكل أي ذاته المقدسة ففيه مجاز مرسل . لطيفَة : قال بعض العلماء : من لم تشبعه القناعة لم يكفه ملك قارون وأنشدوا :