Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 190-200)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : بدأ تعالى هذه السورة الكريمة بذكر أدلة التوحيد والألوهية والنبوة ، وختمها بذكر دلائل الوحدانية والقدرة ودلائل الخلق والإِيجاد ، ليستدل منها الإِنسان على البعث والنشور فكان ختام مسك ، ولما كان المقصود من هذا الكتاب العظيم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق إِلى معرفة الإِله الحق ، جاءت الآيات الكريمة تنير القلوب بأدلة التوحيد والإِلهية والكبرياء والجلال ، فلفتت الأنظار إِلى التفكر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض ، ليخلص الإِنسان إِلى الاعتراف بوحدانية الله وباهر قدرته وهو يتأمل في كتاب الله المنظور " الكون الفسيح " بعد أن تأمل في كتاب الله المسطور " القرآن العظيم " وفي الكتاب المسطور إِشارات عديدة لآيات الكتاب المنظور وهو يدعو إِلى معرفة الحقائق باستخدام الحواس { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] . اللغَة : { ٱلأَلْبَابِ } العقول { بَاطِلاً } عبثاً بدون حكمة { سُبْحَانَكَ } تنزيهٌ لله عن السوء { أَخْزَيْتَهُ } أذللته وأهنته { كَفِّرْ عَنَّا } استر وامح { ٱلأَبْرَارِ } جمع بر أو بارّ وهم المستمسكون بالشريعة { فَٱسْتَجَابَ } بمعنى أجاب { نُزُلاً } النُّزُل : ما يهيأ للنزيل وهو الضيف من أنواع الإِكرام { رَابِطُواْ } المرابطة : ترصد العدو في الثغور . سَبَبُ النّزول : عن أم سلمة قالت قلت : يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } الآية . التفسِير : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي إِن في خلق السماوات والأرض على ما بهما من إِحكام وإٍبداع { وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } أي وتعاقب الليل والنهار على الدوام { لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } أي علامات واضحة على الصانع وباهر حكمته ، ولا يظهر ذلك إِلا لذوي العقول الذين ينظرون إِلى الكون بطريق التفكر والاستدلال لا كما تنظر البهائم ، ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } أي يذكرون الله بألسنتهم وقلوبهم في جميع الأحوال في حال القيام والقعود والاضطجاع فلا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم ، لاطمئنان قلوبهم بذكره واستغراق سرائرهم في مراقبته { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي يتدبرون في ملكوت السماوات والأرض ، في خلقهما بهذه الأجرام العظام وما فيهما من عجائب المصنوعات وغرائب المبتدعات قائلين { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } أي ما خلقت هذا الكون وما فيه عبثاً من غير حكمة { سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي ننزهك يا ألله عن العبث فأجرنا واحمنا من عذاب جهنم { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي من أدخلته النار فقد أذللته وأهنته غاية الإِهانة وفضحته على رءوس الأشهاد { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي ليس لهم من يمنعهم من عذاب الله ، والمراد بالظالمين الكفار كما قال ابن عباس وجمهور المفسرين وقد صرح به في البقرة { وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ البقرة : 254 ] { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ } أي داعياً يدعو إِلى الإِيمان وهو محمد صلى الله عليه وسلم { أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي يقول هذا الداعي أيها الناس آمنوا بربكم واشهدوا له بالوحدانية فصدقنا بذلك واتبعناه { رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } أي استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها { وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } أي امح بفضلك ورحمتك ما ارتكبناه من سيئات { وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ } أي ألحقنا بالصالحين قال ابن عباس : الذنوب هي الكبائر والسيئات هي الصغائر ويؤيده { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] فلا تكرار إِذاً { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } تكرير النداء للتضرع ولإِظهار كمال الخضوع أي أعطنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك وهي الجنة لمن أطاع قاله ابن عباس { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي لا تفضحنا كما فضحت الكفار { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } أي لا تخلف وعدك وقد وعدت من آمن بالجنة { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } أي أجاب الله دعاءهم بقوله إِني لا أُبطل عمل من عمل خيراً ذكراً كان العامل أو أُنثى قال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ، ربنا ، حتى استجاب لهم { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أي الذكر من الأنثى ، والأنثى من الذكر ، فإِذا كنتم مشتركين في الأصل فكذلك أنتم مشتركون في الأجر { فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } أي هجروا أوطانهم فارين بدينهم ، وألجأهم المشركون إِلى الخروج من الديار { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } أي تحملوا الأذى من أجل دين الله { وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ } أي وقاتلوا أعدائي وقتلوا في سبيلي { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي الموصوفون بما تقدم لأمحونَّ ذنوبهم بمغفرتي ورحمتي { وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ } أي ولأدخلنهم جنات النعيم جزاءً من عند الله على أعمالهم الصالحة { وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ } أي عنده حسن الجزاء وهي الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ثم نبه تعالى إِلى ما عليه الكفار في هذه الدار من النعمة والغبطة والسرور ، وبيَّن أنه نعيم زائل فقال { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } أي لا يخدعنك أيها السامع تنقل الذين كفروا في البلاد طلباً لكسب الأموال والجاه والرتب { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أي إِنما يتنعمون بذلك قليلاً ثم يزول هذا النعيم ، ومصيرهم في الآخرة إِلى النار ، وبئس الفراش والقرار نار جهنم . { لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } أي لكن المتقون لله لهم النعيم المقيم في جنات النعيم مخلدين فيها أبداً { نُزُلاً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي ضيافة وكرامة من عند الله { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } أي وما عند الله من الثواب والكرامة للأخيار الأبرار ، خير مما يتقلب فيه الأشرار الفجار من المتاع القليل الزائل ، ثم أخبر تعالى عن إِيمان بعض أهل الكتاب فقال { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } أي ومن اليهود والنصارى فريق يؤمنون بالله حق الإِيمان ، ويؤمنون بما أنزل إِليكم وهو القرآن وبما أنزل إِليهم وهو التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام وأصحابه ، والنجاشي وأتباعه { خَاشِعِينَ للَّهِ } أي خاضعين متذللين لله { لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي لا يحرّفون نعت محمد ولا أحكام الشريعة الموجودة في كتبهم لعرضٍ من الدنيا خسيس كما فعل الأحبار والرهبان { أُوْلۤـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي ثواب إِيمانهم يعطونه مضاعفاً كما قال { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِْ } [ القصص : 54 ] { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أي سريعٌ حسابُه لنفوذ علمه بجميع المعلومات ، يعلم ما لكل واحدٍ من الثواب والعقاب ، قال ابن عباس والحسن : " نزلت في النجاشي وذلك أنه لما مات نعاه جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي ، فقال بعضهم لبعض : يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة فأنزل الله { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } الآية " ثم ختم تعالى السورة الكريمة بهذه الوصية الجامعة لسعادة الدارين فقال : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ } أي اصبروا على مشاقّ الطاعات وما يصيبكم من الشدائد { وَصَابِرُواْ } أي غالبوا أعداء الله بالصبر على أهوال القتال وشدائد الحروب { وَرَابِطُواْ } أي لازموا ثغوركم مستعدين للكفاح والغزو { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي خافوا الله فلا تخالفوا أمره لتفوزوا بسعادة الدارين . البَلاَغَة : تضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع ما يلي : 1 - الإِطناب في قوله { رَبَّنَآ } حيث كرر خمس مرات والغرض منه المبالغة في التضرع . 2 - الطباق في قوله { ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } و { ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } و { قِيَاماً وَقُعُوداً } و { ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } . 3 - الإِيجاز بالحذف { مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } أي على ألسنة رسلك وكذلك في قوله { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ } أي قائلين ربنا . 4 - الجناس المغاير في قوله { آمِنُواْ … فَآمَنَّا } وفي { عَمَلَ عَامِلٍ } وفي { مُنَادِياً يُنَادِي } . 5 - { لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } التنكير للتفخيم ودخلت اللام في خبر إِنَّ لزيادة التأكيد . 6 - الاستعارة في قوله { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } استعير التقلب للضرب في الأرض لطلب المكاسب والله أعلم . الفوَائِدَ : الأولى : إِنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق ففي الحديث الشريف " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإِنكم لا تقدرون الله قدره " وذلك لعدم الوصول إِلى كنه ذاته وصفاته قال بعض العلماء : المتفكر في ذات الله كالناظر في عين الشمس لأنه تعالى ليس كمثله شيء . الثانية : تكرر النداء بهذا الاسم الجليل { رَبَّنَآ } خمس مرات كل ذلك على سبيل الاستعطاف وتطلب رحمة الله بندائه بهذا الاسم الشريف الدال على التربية والملك والإِصلاح . الثالثة : سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أعجب ما رأته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت : كل أمره كان عجباً ، " أتاني في ليلتي حتى مسَّ جلده جلدي ثم قال " ذريني أتعبد لربي عز وجل " فقلت : والله إِني لأحب قربك وأحب هواك ، فقام إِلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صبّ الماء ثم قام يصلي فبكى حتى بلّ لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إِذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح فقال يا رسول الله : ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال " ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكر وقد أنزل الله عليَّ في هذه الليلة { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } الآيات ثم قال : ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها " " .