Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 52-63)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لا تزال الآيات تتحدث عن قصة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، وقد ذكر تعالى في الآيات السابقة بشارة مريم بالسيد المسيح ، ثم أعقبها بذكر معجزاته وكلها براهين ساطعة تدل على نبوته عليه السلام ، ومع كل البراهين والمعجزات التي أيده الله بها فإِنَّ الكثيرين من بني إِسرائيل لم يؤمنوا به وقد عزم أعداء الله " اليهود " على قتله فنجّاه الله من شرهم ورفعه إِلى السماء . اللغَة : { أَحَسَّ } عرف وتحقق وأصله من الإِحساس وهو الإِدراك ببعض الحواس الخمس { ٱلْحَوَارِيُّونَ } جمع حواري وهو صفوة الرجل وخاصته ومنه قيل للحضريات حواريات لخلوص ألوانهن وبياضهن قال الشاعر : @ فقلْ للحواريات يَبْكينَ غيرنا ولا تَبْكنا إِلا الكلابُ النوابحُ @@ والحواريون أتباع عيسى كالصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم سمّوا حواريين لصفاء قلوبهم ونقاء سرائرهم { مَكَرُواْ } المكر : الخداع وأصله السعي بالفساد في خفية قال الزجاج : يقال مكر الليل وأمكر إِذا أظلم ، ومكرُ الله استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون حكي عن الفراء وغيره { نَبْتَهِلْ } نتضرع في الدعاء ، وأصل الابتهال : الاجتهاد في الدعاء باللعن ، والبهلةُ اللعنة . سَبَبُ النّزول : لما قدم وفد نصارى نجران ، وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى ، قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : مالك تشتِم صاحبنا ؟ قال : وما أقول ؟ قالوا : تقول إِنه عبد قال : أجل إِنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إِلى العذراء البتول ، فغضبوا وقالوا : هل رأيت إِنساناً قط من غير أب ؟ فإِن كنت صادقاً فأرنا مثله فأنزل الله { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } الآية وروي أنه عليه السلام لما دعاهم إِلى الإِسلام قالوا : قد كنا مسلمين قبلك ، فقال : كذبتم يمنعكم من الإِسلام ثلاث : قولكم اتخذ الله ولداً ، وأكلكم الخنزير ، وسجودكم للصليب فقالوا : فمن أبوه فأنزل الله { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ … إلى قوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ } فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إِِلى المباهلة ، فقال بعضهم لبعض : إِن فعلتم اضطرم الوادي عليكم ناراً فقالوا أما تعرض علينا سوى هذا ؟ فقال : الإِسلام أو الجزية أو الحرب فأقروا بالجزية . التفسِير : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ } أي استشعر من اليهود التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال وإِرادتهم قتله { قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } أي من أنصاري في الدعوة إِلى الله قال مجاهد : أي من يتبعني إِلى الله { قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } أي قال المؤمنون الأصفياء من أتباعه نحن أنصار دين الله { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي صدقنا بالله وبما جئتنا به واشهد بأننا منقادون لرسالتك مخلصون في نصرتك { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِين } أي آمنا بآياتك واتبعنا رسولك عيسى فاكتبنا مع من شهد لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق ، ثم أخبر تعالى عن اليهود المتآمرين الذين أرادوا قتل عيسى فقال { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } أي أرادوا قتله فنجّاه الله من شرهم ورفعه إِلى السماء دون أن يمسَّ بأذى وألقى شبهه على ذلك الخائن " يهوذا " وسمّي مكراً من باب المشاكلة ولهذا قال { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } أي أقواهم مكراً بحيث جعل تدميرهم في تدبيرهم وفي الحديث " اللهمَّ امكرْ لي ولا تمكر عليَّ " { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } أي إِني رافعك إِلى السماء ثم مميتك بعد استيفائك كامل أجلك والمقصود بشارته بنجاته من اليهود ورفعه إِلى السماء سالماً دون أذى قال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر تقديره إِني رافعك إِليَّ ثم متوفيك بعد ذلك ، وقد ذكره الطبري فقال : وقال آخرون معنى ذلك : إِذ قال الله يا عيسى إِني رافعك إِليَّ ومطهرك من الذين كفروا ، ومتوفيك بعد إِنزالي إِيّاك إِلى الدنيا { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي مخلصك من شر الأشرار الذين أرادوا قتلك قال الحسن : طهّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه { وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } أي جاعل أتباعك الذين آمنوا بك فوق الذين جحدوا نبوتك ظاهرين على من ناوأهم إِلى يوم القيامة وقال في تفسير الجلالين : { ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ } أي صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى { فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وهم اليهود يعلونهم بالحجة والسيف { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي ثم مصيركم إِلى الله فأقضي بين جميعكم بالحق فيما كنتم تختلفون فيه من أمر عيسى { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } أي أما الكافرون بنبوتك المخالفون لملتك فإِني معذبهم عذاباً شديداً في الدنيا بالقتل والسبي ، وبالآخرة بنار جهنم { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أي ليس لهم ناصر يمنع عنهم عذاب الله { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي وأما المؤمنون فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملةً غير منقوصة { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } أي لا يحب من كان ظالماً فكيف يظلم عباده ؟ { ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } أي هذه الأنباء التي نقصها عليك يا محمد { مِنَ الآيَاتِ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ } أي من آيات القرآن الكريم المحكم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } أي إِن شأن عيسى إِذ خلقه بلا أب - وهو في بابه غريب - كشأن آدم { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي خلقَ آدم من غير أب ولا أم ثم قال له كن فكان ، فليس أمر عيسى بأعجب من أمر آدم { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } أي هذا هو القول الحق في عيسى فلا تكن من الشاكين { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ } أي من جادلك في أمر عيسى بعدما وضح لك الحق واستبان { فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ } أي هلمّوا نجتمع ويدعو كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إِلى المباهلة وفي صحيح مسلم لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسناً وحُسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلي { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ } أي نتضرع إِلى الله فنقول : اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى ، فلما دعاهم إِلى المباهلة امتنعوا وقبلوا بالجزية عن ابن عباس أنه قال " لو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً " قال أبو حيان : " وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بصدقه شاهد عظيم على صحة نبوته " ثم قال تعالى { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ } أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا شك فيه { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ } أي لا يوجد إِله غير الله ، وفيه ردٌّ على النصارى في قولهم بالتثليث { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي هو جل شأنه العزيز في ملكه الحكيم في صنعه { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ } أي إِن أعرضوا عن الإِقرار بالتوحيد فإِنهم مفسدون والله عليم بهم وسيجازيهم على ذلك شر الجزاء . البَلاَغَة : 1 - { فَلَمَّآ أَحَسَّ } قال أبو حيان : فيها استعارة إِذ الكفر ليس بمحسوس وإِنما يُعلم ويفطن به فإِطلاق الحسّ عليه من نوع الاستعارة . 2 - { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } بين لفظ مكروا والماكرين جناس الاشتقاق وهو من باب المشاكلة . 3 - { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } فيه التفات من ضمير التكلم إِلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة . 4 - { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إِلى الرسول لتشريفه عليه الصلاة والسلام . 5 - { فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } هو من باب الإِلهاب والتهييج لزيادة التثبيت أفاده أبو السعود . لطيفَة : قال صاحب البحر المحيط : سأل رجل الجنيد فقال : كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره ، فقال : لا أدري ما تقول ولكن أنشدني فلان الظهراني : @ ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا @@ ثم قال له : قد أجبتك إِن كنت تعقل .