Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 114-182)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر قصة الخليل إبراهيم ، وقصة الذبيح والفداء ، أعقبها بذكر قصص بعض الأنبياء ، كموسى وهارون ، ويونس ولوط ، وما في هذه القصة من العظات والعبر ، وختم السورة الكريمة ببيان أن النصر والغلبة للرسل وأتباعهم المؤمنين . اللغَة : { أَبَقَ } هرب { ٱلْمَشْحُونِ } المملوء { سَاهَمَ } قارع أي ضرب القُرعة قال المبرّد : وأصله من السهام التي تُجال { ٱلْمُدْحَضِينَ } المغلوبين ، وأصله من الزلق ، يُقال : دَحضت حجته وأدحضها اللهُ أي غُلب وهُزم قال الشاعر : @ قتلنا المُدْحضين بكلِّ فجٍّ فقد قرَّت بقتلهم العُيون @@ { مُلِيمٌ } آتٍ بما يُلام عليه { ٱلْعَرَآءِ } الأرض الفيحاء لا شجر فيها ، ولا معلم ، قال الفراء ، العراءُ المكانُ الخالي { يَقْطِينٍ } القرعُ المعروف والمسمَّى بالدباء ، قال الجوهري : اليقطين ما لا ساق له كشجر القرع ونحوه { سَاحَتِهِمْ } الساحةُ : الفناء . التفسِير : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } اللام موطئة للقسم أي وعزتنا وجلالنا لقد أنعمنا على موسى وهارون بأنواع النعم والمنافع الدينية والدنيوية ومنها نعمة النبوة والرسالة { وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } أي ونجيناهما وقومهما - بني إسرائيل - من الغم والمكروه العظيم ، وهو استعباد فرعون إياهم مع التعذيب بقتل الأبناء ، واستحياء النساء { وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ ٱلْغَٰلِبِينَ } الضمير يعود على موسى وهارون وبني إسرائيل أي ونصرناهم على أعدائهم - الأقباط - فكانوا الغالبين عليهم بعد أن كانوا تحت أيديهم مقهورين { وَآتَيْنَاهُمَا ٱلْكِتَابَ ٱلْمُسْتَبِينَ } أي أعطيناهما الكتاب البليغ في بيانه ، الكامل في حدوده وأحكامه ، وهو التوراة { وَهَدَيْنَاهُمَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أي وهديناهما الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه قال الطبري : وهو الإِسلام دينُ الله الذي ابتعث به أنبياءه { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي ٱلآخِرِينَ } أي تركنا عليهما الثناء الجميل ، والذكر الحسن { سَلاَمٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } أي سلام منا على موسى وهارون { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي كذلك نفعل بمن أحسن وأخلص العبودية لله { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي وإِنَّ الياس - أحد أنبياء بني إسرائيل - لمن الرسل الكرام الذين أرسلتُهم لهداية الخلق قال أبو السعود : هو إلياس بن ياسين من سبط هارون أخي موسى { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ } أي حين قال لقومه من بني إسرائيل ألا تخافون الله في عبادتكم غيره ؟ { أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ ٱلْخَالِقِينَ } أتعبدون هذا الصنم - المسمَّى بعلاً - وتتركون عبادة ربكم أحسن الخالقين ؟ { ٱللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } أي تتركون عبادة أحسن الخالقين ، الذي هو ربكم وربُّ آبائكم السابقين قال القرطبي : و " بعل " اسم صنم لهم كانوا يعبدونه وبذلك سميت مدينتهم بعلبك ، والمعنى : أتدعون رباً اختلقتموه وهو هذا الصنم ، وتتركون أحسن من يقال له خالق وهو " الله " ربكم وربَّ آبائكم الأولين ؟ { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي فكذبوا نبيَّهم فإِنهم لمحضرون في العذاب { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } أي لكنْ عباد الله المؤمنين فإِنهم نجوا من العذاب { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ } أي تركنا على إلياس الثناء الحسن الجميل إلى يوم الدين { سَلاَمٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ } أي سلام منا عليه وعلى آل ياسين قال المفسرون : المراد بـ { إل ياسين } هو إلياس ومن آمن معه جمعوا معه تغليباً كما قالوا للمهلَّب وقومه المهلَّبون ، واختار الطبري أنه اسم لإِلياس فيقال : إلياس ، وإل ياسين مثل ميكال وميكائيل ، وأن له اسمين فيسمى " إلياس " و { إل ياسين } { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } تقدم تفسيره ، وإِنما ختم الآيات بعد ذكر كل رسول بالسلام عليه ، وبهاتين الآيتين الكريمتين لبيان فضل الإِحسان والإِيمان ، وأن هؤلاء الرسل الكرام كانوا جميعاً من المتصفين بهذه الصفات ، فلذلك استحقوا التحية والسلام ، والذكر الحسن بين الأنام ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين { وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي وإِنَّ لوطاً لأحد رسلنا لهداية قومه { إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } أي اذكر حين خلصناه من العذاب هو ومن آمن معه من أهله وأولاده { إِلاَّ عَجُوزاً فِي ٱلْغَابِرِينَ } أي إلا امرأته الكافرة فإِنها لم تؤمن فكانت من الباقين في العذاب ومن الهالكين { ثُمَّ دَمَّرْنَا ٱلآخَرِينَ } أي ثم أهلكنا المكذبين من قومه أشدَّ إهلاك وأفظعه ، وذلك بقلب قراهم حيث جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ، ولهذا عبَّر بـ { دَمَّرْنَا } { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِٱلَّيلِ } أي وإِنكم يا أهل مكة لتمرون على منازلهم في أسفاركم وتشاهدون آثار هلاكهم صباحاً ومساءً ، وليلاً ونهاراً { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ أي أتشاهدون ذلك ثم لا تعتبرون ؟ ألا تخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم ؟ { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي وإِن يونس لأحد رسلنا المرسلين لهداية قومه { إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } أي اذكر حين هرب إلى السفينة المملوءة بالرجال { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ } أي فقارع أهل السفينة فكان من المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر قال المفسرون : إن يونس ضاق صدراً بتكذيب قومه ، فأنذرهم بعذاب قريب ، وغادرهم مغضباً لأنهم كذبوه ، فقاده الغضب إلى شاطىء البحر حيث ركب سفينة مشحونة ، فناوأتها الرياح والأمواج ، فقال الملاحون : هٰهنا عبدٌ أبق من سيده ، ولا بدَّ لنجاة السفينة من إلقائه في الماء لتنجو من الغرق ، فاقترعوا فخرجت القُرعة على يونس فألقوه في البحر { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } أي فابتلعه الحوت وهو آتٍ بما يُلام عليه من تخليه عن المهمة التي أرسله الله بها ، وترك قومه مغاضباً لهم ، وخروجه بغير إِذنٍ من ربه { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } أي لولا أنه كان من الذاكرين الله كثيراً في حياته { لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، وأصبح بطنه قبراً له فلم ينج أبداً ، ولكنه سبَّح اللهَ واستغفره وناداه وهو في بطن الحوت بقوله { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] فاستجاب الله تضرعه ونداءه { فَنَبَذْنَاهُ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ } أي فألقيناه من بطن الحوت على الساحل ، بالأرض الفضاء التي لا شجر فيها ولا ظل ، وهو سقيم مريض مما ناله من الكرب قال عطاء : أوحى الله تعالى إلى الحوت إني قد جعلت بطنك له سجناً ، ولم أجعله لك طعاماً ، فلذلك بقي سالماً لم يتغير منه شيء { وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } أي وأنبتنا فوقه شجرة لتظله وتقيه حرَّ الشمس ، وهي شجرة القرع ذات الأوراق العريضة قال ابن جزي : وإِنما خصَّ القرع بالذكر لأنه يجمع كبر الورق ، وبرد الظل ، والذبابُ لا يقربه ، فإِن لحم يونس لما خرج من البحر كان لا يحتمل الذباب ، وكان هذا من تدبير الله ولطفه ، فلما استكمل قوته وعافيته ردَّه الله إلى قومه ولهذا قال { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } أي وأرسلناه بعد ذلك إلى قومه الذين هرب منهم وهم مائة ألفٍ بل يزيدون قال المفسرون : كانوا مائة وعشرين ألفاً وقيل : وسبعين ألفاً ، وهم أهل نينوى بجهة الموصل ، و " أو " بمعنى بل أي بل يزيدون { فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } أي فآمنوا بعد أن شاهدوا أمارات العذاب الذي وُعدوا به فأبقيناهم ممتعين في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم قال في التسهيل : روي أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم ، وفرقوا بينهم وبين الأمهات ، وناحوا وتضرعوا إلى الله ، فرفع الله العذاب عنهم … ولما انتهى من الحديث عن الرسل الكرام رجع إلى الحديث عن المكذبين من كفار مكة فقال { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلْبَنُونَ } ؟ أي اسأل يا محمد واستخبر كفار مكة - على سبيل التوبيخ والتقريع لهم - كيف زعموا أن الملائكة بنات الله ، فجعلوا للهِ الإِناث ولأنفسهم الذكور ؟ إنهم يكرهون البنات ولا يرضون نسبتهنَّ لأنفسهم ، فكيف يرضونها لله عز وجل ويختصون بالبنين ؟ { أَمْ خَلَقْنَا ٱلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } توبيخٌ آخر على بهتانهم واستهزاء بهم وتجهيل أي بل أخلقنا الملائكة الأطهار حين خلقناهم ، وجعلناهم إناثاً وهم شاهدون لذلك حتى يقولوا مثل هذا البهتان ؟ { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ ٱللَّهُ } أي ألا فانتبهوا أيها الناس إن هؤلاء المشركين من كذبهم وافترائهم ينسبون إلى الله الذرية والولد { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي وهم كاذبون قطعاً في قولهم الملائكة بناتُ الله قال أبو السعود : والآية استئناف مسوقٌ لإِبطال أصل مذهبهم الفاسد ، ببيان أن مبناه ليس إلا الإِفك الصريح ، والافتراء القبيح ، من غير أن يكون لهم دليلٌ قطعاً { أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ عَلَىٰ ٱلْبَنِينَ } ؟ توبيخٌ وتقريع أي هل اختار جل وعلا البناتِ وفضلهن على البنين ؟ { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ؟ تسفيهٌ لهم وتجهيل أيْ أيُّ شيء حصل لكم حتى حكمتم بهذا الحكم الجائر ؟ كيف يختار لنفسه أخسَّ الجنسين على زعمكم ؟ { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي أفليس لكم تمييز وإدراك تعرفون به خطأ هذا الكلام ؟ قال أبو السعود : أي أفلا تتذكرون بطلان هذا ببديهة العقل ، فإِنه مركوزٌ في عقل كل ذكي وغبي { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } توبيخ آخر أي أم لكم برهان بيّن وحجة واضحة على أن الله اتخذ الملائكة بناتٍ له ؟ { فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي فأتوا بهذا الكتاب الذي يشهد بصحة دعواكم فيما تزعمون . . والغرضُ تعجيزهم وبيان أنهم لا يستندون - في أقوالهم الباطلة - على دليل شرعي ، ولا منطق عقلي … وينتقل إلى أسطورةٍ أُخرى لفَّقها المشركون ، حيث زعموا أن هناك صلة بين الله سبحانه وبين الجنِّ ، وأنه من التزاوج بين الله تعالى والجِنَّة ولدت الملائكة فيقول { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } أي جعل المشركون بين الله وبين الجنِّ قرابة ونسباً ، حيث قالوا إنه نكح من الجنِّ فولدت له الملائكة { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 43 ] ثم زعموا أن الملائكة إناث ، وأنهن بنات الله { وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي لقد علمت الشياطين أنهم محضرون في العذاب قال الصاوي : وهذا زيادة في تبكيتهم وتكذيبهم كأنه قيل : هؤلاء الذين عظمتموهم وجعلتموهم بنات الله ، أعلمُ بحالكم وما يئول إليه أمركم { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي تنزَّه وتقدَّس الله عما يصفه به هؤلاء الظالمون { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } استثناء منقطع أي لكنْ عباد الله المخلصين فإِنهم ينزهون الله تعالى عما يصفه به هؤلاء { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ ٱلْجَحِيمِ } أي فإِنكم أيها الكفار وكل ما تعبدونه من الأصنام والشياطين لستم بقادرين على أن تُضلوا أحداً من عباد الله ، إلاَّ من قضى الله عليه الشقاوة ، وقدَّر أنه يدخل النار ويصلاها ، ثم ذكر تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية لله فقال { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } أي وما منا ملك إلا له مرتبة ومنزلة ووظيفة لا يتعداها ، فمنا الموكَّل بالأرزاق ، ومنا الموكَّل بالآجال ، ومنَّا من يتنزل بالوحي ، ولكلٍ منزلته من العبادة ، والتقريب ، والتشريف { وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ } أي الواقفون في العبادة صفوفاً { وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ } أي المنزهون الله سبحانه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه ، نسبّح الله في كل وقتٍ وحين قال في التسهيل : وفي هذا الكلام الذي قالته الملائكة ردٌّ على من قال إنهم بناتُ الله ، وشركاء الله ، لأنهم اعترفوا على أنفسهم بالعبودية والطاعة لله ، والتنزيه له جل وعلا { وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } الضمير لكفار قريش و { وَإِن } هي المخففة من " إنَّ " الثقيلة أي وإِن كان الحال والشأن أن كفار مكة كانوا قبل أن ينزل عليهم القرآن - يقولون لو نزل علينا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإِنجيل لكنا أعظم إِيماناً منهم ، وأكثر عبادةً وإِخلاصاً للهِ منهم ، فلما جاءهم القرآن كفروا به ولهذا قال { فَكَفَرُواْ بِهِ } أي فكفروا وكذبوا بالقرآن أشرف الكتب السماوية { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي فسوف يرون عاقبة كفرهم بآيات الله ، وهو وعيد وتهديد { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ } أي سبق وعدنا وقضاؤنا للرسل الكرام { إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } أي إِنهم هم المنصورون على أعدائهم ، والإِشارة إلى قوله تعالى { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ } [ المجادلة : 21 ] { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } أي وإِن جندنا المؤمنين لهم الغالبون في الدنيا والآخرة ، في الدنيا بالحجة والبرهان ، وفي الآخرة بدخول الجنان قال المفسرون : نصرُ الله للمؤمنين محقق ، ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المعارك ، فإِن القاعدة هي بالظفر والنصرة ، وإِنما يُغلبون في بعض الأحيان بسبب تقصيرٍ منهم أو ابتلاءً ومحنة { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ } أي أعرض عنهم يا محمد إلى مدة يسيرة ، إلى أن تُؤمر بقتالهم { وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } أي وأبصرهم حين ينزل بهم العذاب ، فسوف يبصرون عاقبة كفرهم { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } ؟ استفهام إنكاري للتهديد أي أيستعجلون بعذاب الله ؟ روي أنه لما نزل { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } استهزءوا وقالوا متى هذا يكون ؟ فنزلت الآية ثم قال تعالى { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ ٱلْمُنْذَرِينَ } أي لا يستبعدوا ذلك فإِن العذاب إِذا نزل بفناء المكذبين فبئس هذا الصباح صباحهم ، شبهه بجيشٍ هجم عليهم وقت الصباح فقطع دابرهم { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } كرره تأكيداً للتهديد وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي تنزه وتقدس ذو العزة والجبروت عما يصفه به المشركون { وَسَلاَمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ * وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي وسلامٌ منا على الرسل الكرام ، والحمد لله في البد والختام لله ربّ الخلائق أجمعين . نزَّه تعالى نفسه عما وصفه به الكفار مما لا يليق به سبحانه ، فإِنه حكى عنهم في هذه السورة أقوالاً كثيرة شنيعة ، وختم بتعميم السلام على الرسل الكرام وبحمده سبحانه ، وهو تعليم للعباد . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1ـ الطباق بين { تَدْعُونَ … وَتَذَرُونَ } وبين { ٱلْبَنَاتِ … وٱلْبَنِينَ } . 2ـ تتابع التوبيخ وتكراره مثل { أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ } ؟ { أَمْ خَلَقْنَا ٱلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً } ؟ { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ؟ { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ؟ { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } ؟ وكلها للتوبيخ والتبكيت . 3ـ التأكيد بعدة مؤكدات لتحقيق المعنى وتقريره مثل { إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } فقد أُكدت كل من الجملتين بإِن واللام . 4ـ الاستعارة التصريحية { إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } شبه خروجه بغير إذن ربه بإِباق العبد من سيّده . 5ـ الالتفات من الخطاب إلى الغيبة { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } الأصل وتجعلون ، والالتفاتُ للإِشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً للخطاب ، وهم بعيدون من رحمة ربّ الأرباب . 6ـ الاستعارة التمثيلية { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } مثل للعذاب النازل بهم بجيش هجم عليهم فأناخ بفنائهم بغتة ، ونصحهم بعض النصاح فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ، حتى اجتاحهم الجيش . قال الزمخشري : وما فصحت هذه الجملة ولا كانت لها الروعة التي يروقك موردها إلا لمجيئها على طريقة التمثيل . فَائِدَة : روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ * وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } " .