Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 1-61)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { فَٱلزَّاجِرَاتِ } الزجر : الدفع عن الشيء بقوةٍ أو صياح ، والزجرة : الصيحةُ من قولك : زجر الراعي الغنم إِذا صاح عليها فرجعت لصوته { مَّارِدٍ } عاتي متمرد { ثَاقِبٌ } محرق شديد النفاذ { وَاصِبٌ } دائم لا ينقطع { لاَّزِبٍ } ملتزق بعضه ببعض { مَّعِينٍ } شراب نابع من العيون { غَوْلٌ } الغول : كل ما يغتال العقل ويفسده قال أبو عبيدة : الغول ما يغتال العقل ويذهبه وأنشد قول ابن إياس : @ وما زالتِ الخمر تغتالنا وتذهب بالأول فالأول @@ { كَأْسٍ } قال أهل اللغة : العرب تقول للإِناء إِذا كان فيه خمر كأس ، فإِذا لم يكن فيه خمر قالوا : إناء وقدح قال الشاعر : @ وكأسٍ شربتُ على لذةٍ وأُخرى تداويتُ منها بها @@ { يُنزَفُونَ } يسكرون يقال : نُزف الرجل فهو نزيف ومنزوف إذا سكر قال الشاعر : @ لعمري لئن أنزفتمو أو صحوتمو لبئس النَّدامى كنتم آل أبجرا @@ التفسِير : { وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا } افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته ، إظهاراً لعظم شأنها ، وكبر فوائدها ، وتنبيهاً للعباد على جلالة قدرها والمعنى : أقسم بهذه الطوائف من الملائكة ، الصافات قوائمها في الصلاة ، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله قال ابن مسعود : هم الملائكة تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً ، وفي الحديث " ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربهم ؟ قلنا : وكيف يا رسول الله ؟ قال : يُتمون الصفوف المتقدمة ، ويتراصون في الصف " أقسم تعالى بالملائكة تنبيهاً على جلالة قدرهم ، وكثرة عبادتهم ، فهم مع عظيم خلقهم ورفعة شأنهم لا ينفكون عن عبادة الله ، يصطفون للعبادة كاصطفاف المؤمنين في الصلاة ، مع الخشوع والخضوع للعزيز الجبار ، الذي دانت له الخلائق ، وخضعت لجلال هيبته الرقاب ، بما فيهم حَمَلة العرش والملائكة الأطهار { فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً } أي الملائكة التي تزجر السحاب ، يسوقونه إلى حيث شاء الله ، من الزجر بمعنى السوق والحث { فَٱلتَّالِيَاتِ ذِكْراً } وصفٌ ثالثٌ للملائكة الأبرار ، إشادةً بذكر محاسنهم ومناقبهم العلوية أي وأقسمُ بالملائكة التالين لآيات الله على أنبيائه وأوليائه ، مع التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد { إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ } هذا هو المقسم عليه أي إِن إِلهكم الذي تعبدونه - أيها الناس - إله واحدٌ لا شريك له ، قال مقاتل : إِن الكفار بمكة قالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؟ وكيف يسع هذا الخلق إله فرد ؟ فأقسم الله بهؤلاء تشريفاً ، ثم بيَّن تعالى معنى وحدانيته وألوهيته فقال { رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي هو تعالى خالق السمٰوات والأرض ومالكهما وما بينهما من المخلوقات والموجودات ، فإِن وجودهما وانتظامهما على هذا النمط البديع ، من أوضح الدلائل على وجود الله ووحدانيته { وَرَبُّ ٱلْمَشَارِقِ } أي وهو رب مشارق الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف قال الطبري : واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالة الكلام عليه ثم أخبر عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب ، بعد أن أخبر عن وحدانيته فقال { إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ } أي زينا السماء القريبة منكم بالكواكب المنيرة المضيئة ، التي تبدو وكأنها جواهر تتلألأ { وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } أي وللحفظ من كل شيطان عاتٍ متمرد ، خارج عن طاعة الله قال قتادة : خلقت النجومُ لثلاث : رجوماً للشياطين ، ونوراً يُهتدى بها ، وزينةً للسماء الدنيا وقال أبو حيان : خصَّ السماء الدنيا بالذكر لأنها هي التي تُشاهد بالأبصار ، وفيها وحدها يكون الحفظ من الشياطين { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ } أي لا يقدرون أن يستمعوا إلى الملائكة الذين هم في العالم العلوي ، وقيل المعنى : لئلا يتسمَّعوا إلى الملأ الأعلى { وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ } أي ويُرجمون بالشهب من كل جهةٍ يقصدون السماء منها { دُحُوراً } أي طرداً لهم عن السماع لأخبار السماء قال الطبري : أي مطرودين ، من الدحر وهو الدَّفعُ والإِبعاد { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } أي ولهم في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ } أي إلاَّ من اختلس شيئاً مسارقةً { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } أي فلحقه شهاب مضيءٌ ، نافذ بضوئه وشعاعه فأحرقه قال المفسرون : قد يخطف الشيطان المارد خطفةً سريعة مما يدور في الملأ الأعلى ، فيتبعه شهابٌ يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقاً قال القرطبي : وليست الشهب التي يرجم بها الشياطين من الكواكب الثوابت ، لأن الثابتة تجري ولا تُرى حركاتها ، وهذه الشهب تُرى حركاتها { فَٱسْتَفْتِهِمْ } أي فسلْ يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } أي أيهم أقوى بُنيةً وأشد خلْقاً هل هم أم السمٰوات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة العجيبة ؟ { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } أي من طينٍ رخوٍ لزج لا قوة فيه قال الطبري : وإِنما وصفه باللزوب لأنه ترابٌ مخلوطٌ بماء ، وكذلك خُلِق ابنُ آدم من ترابٍ وماء ، ونار وهواء ، والترابُ إِذا خُلط بماءٍ صار طيناً لازباً ، والغرضُ من الآية إِقامةُ البرهان على إعادة الإِنسان ، فالذي خلقه من العدم وخلق هذه الخلائق ، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد الفناء { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } أي بل عجبتَ يا محمد من تكذيبهم للبعث مع رؤيتهم آثار قدرة الله الباهرة ، وهم يسخرون منك ومما تقول لهم في ذلك قال أبو السعود : المعنى عجبتَ من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإِنكارهم للبعث ، وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث { وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ } أي وإِذا وُعظوا بالقرآن وخوّفوا به ، لا يتعظون ولا يتدبرون { وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } أي وإِذا رأوا آية باهرة ، أو معجزة قاهرة تدل على صدقك كانشقاق القمر ، وتكليم الشجر والحجر ، يبالغون في السخرية أو يدعون غيرهم للسخرية والاستهزاء { وَقَالُوۤاْ إِن هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي ما هذا الذي جئتنا به يا محمد إلا سحر واضح بيِّن قال في البحر : والإِشارة بـ " هذا " إلى ما ظهر على يديه عليه السلام من الخارق المعجز { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } الاستفهام للإِنكار والاستهزاء أي أئذا أصبحت أجسادنا بالية ، وتفتَّت أجزاؤها إلى تراب وعظام سوف نبعث ؟ { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } أي أو آباؤنا الأولون كذلك سيُبعثون ؟ قال الزمخشري : أي أيبعث أيضاً آباؤنا ؟ وهذا زيادة في استبعاد الأمر ، يعنون أنهم أقدم ، فبعثُهم أبعدُ وأبطل { قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } أي قل لهم نعم تُبعثون وأنتم صاغرون { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } أي وما هي إلا صيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور للقيام من القبور { فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } أي فإِذا هم قيامٌ في أرض المحشر ينظر بعضهم إلى بعض قال القرطبي : الزجرةُ : الصيحةُ وهي النفخةُ الثانية ، وسميت زجرة لأن مقصودها الزجر ، كزجر الإِبل ، والخيل عند السَّوق . . ثم أخبر تعالى عن حسرتهم وندامتهم عند معاينتهم أهوال القيامة فقال { وَقَالُواْ يٰوَيْلَنَا هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ } أي يا هلاكنا وخسارتنا هذا هو يوم الجزاء والحساب ! ! فتقول لهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي هذا يوم الفصل بين الخلائق الذي كنتم تنكرونه وتكذبون به قال البيضاوي : الفصلُ : القضاءُ والتفريق بين المحسن والمسيء { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } أي اجمعوا الظالمين وأشباههم من العصاة والمجرمين ، كل إنسان مع نظرائه قال القرطبي : الزاني مع الزاني ، وشارب الخمر مع شارب الخمر ، والسارق مع السارق وقال ابن عباس : اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات ، وعنه المراد به أشباههم من العصاة { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي وما كانوا يعبدون من الأوثان والأصنام ، وذلك زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم { فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ } أي فعرفوهم طريق الجحيم ووجهوهم إليها ، وفي لفظ { اهدوهم } تهكم وسخرية ، فإِذا لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم ، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } أي احبسوهم عند الصراط لأنهم سيسألون عن جميع أقوالهم وأفعالهم ، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ } أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً وأنتم هنا جميعاً ؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر والمعين ؟ قال المفسرون : هذا إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر " نحن جميعٌ منتصر " وأصل { تَنَاصَرُونَ } تتناصرون حذفت إحدى التاءين تخفيفاً ، قال تعالى { بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } أي بل هم اليوم أذلاء منقادون ، عاجزون عن الانتصار ، سواء منهم العابدون والمعبودون { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } أي أقبل الرؤساء والأتباع يتلاومون ويتخاصمون قال أبو السعود : وسؤالهم إنما هو سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال { قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ } أي قال الأتباع منهم للمتبوعين : إِنكم كنتم تأتوننا من قبل الحقِّ ، وتزينون لنا الباطل ، وتصدوننا عن اتباع طريق الهدى قال الطبري : أي كنتم تأتوننا من قبل الدين والحق ، فتخدعوننا بأقوى الوجوه ، قال : واليمين في كلام العرب : القوة والقدرة كقول الشاعر : @ إِذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ تلقَّاها عرابةُ باليمين @@ وقيل : المراد تأتوننا بطريق الوسوسة عن يميننا كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار غالباً { قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي يقول لهم الرؤساء : لم نحملكم نحن على الضلال ولم نمنعكم من الإِيمان ، بل كفرتم ولم تؤمنوا باختياركم قال ابن كثير : أي ليس الأمر كما تزعمون ، بل كانت قلوبكم منكرةً للإِيمان ، قابلةً للكفر والعصيان { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } أي ما كان لنا عليكم من قوة وقدرة نقهركم بها على متابعتنا { بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ } أي بل كاف فيكم فجور وطغيان واستعداد للعصيان ، فلذلك استجبتم لنا واتبعتمونا { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ } أي فوجب علينا جميعاً وعيد الله لنا بالعذاب { إِنَّا لَذَآئِقُونَ } أي فإِنا لذائقو هذا العذاب لا محالة { فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } أي فزينا لكم الباطل ، ودعوناكم إلى الغيّ لأننا كنا على غيٍّ وضلال ، قال تعالى مخبراً عن حالهم { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } أي فإِنهم يوم القيامة مشتركون في العذاب ، كما كانوا مشتركين في الغواية ، ولكنْ كما قال تعالى { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [ الزخرف : 39 ] { إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ } أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بالأشقياء المجرمين ، ثم بيَّن تعالى السبب فقال { إِنَّهُمْ كَانُوۤاْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } أي إِذا قيل لهم قولوا { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } يتكبَّرون ويتعظَّمون { وَيَقُولُونَ أَءِنَّا لَتَارِكُوۤاْ آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } ؟ أي ويقولون عندما يُدعون إلى التوحيد : أنترك عبادة الأوثان لقول شاعرٍ مجنون ؟ يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى رداً عليهم { بَلْ جَآءَ بِٱلْحَقِّ وَصَدَّقَ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي ليس الأمرَ كما يفترون بل جاءهم محمد بالتوحيد والإِسلام الذي هو الحقُّ الأبلج ، وجاء بمثل ما جاء به الرسل قبله قال أبو حيان : جمع المشركون بين إِنكار الوحدانية ، وإِنكار الرسالة ، ثم خلطوا في كلامهم بقولهم " شاعر مجنون " فإِن الشاعر عنده من الفهم والحذق ما ينظم به المعاني الغريبة ، ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة ، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك ، فكلامهم تخليط وهذيان { إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو ٱلْعَذَابِ ٱلأَلِيمِ } أي إنكم أيها المجرمون لمعذبون أشد العذاب { وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي لا تُعاقبون إلا جزاء مثل عملكم قال الصاوي : لأن الشر يكون جزاؤه بقدره ، بخلاف الخير فجزاؤه بأضعاف مضاعفة … ولمّا ذكر شيئاً من أحوال الكفار وعذابهم ، ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم ، على طريقة القرآن في الموازنة بين الفريقين ترغيباً وترهيباً فقال { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } الاستثناء منقطع أي لكنْ عباد الله المُخلَصين الموحدين ، فإِنهم لا يذوقون العذاب ، ولا يناقشون الحساب ، بل يتجاوز الله عن سيئاتهم ، يُجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . . ثم أخبر عن جزائهم فقال { أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ } أي أولئك الأخيار الأبرار لهم رزقهم في الجنة صباحاً ومساءً كما قال تعالى { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] وقال أبو السعود : معلوم الخصائص من حسن المنظر ، ولذة الطعم ، وطيب الرائحة ، ثم فسر الرزق بقوله : { فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ } أي فواكهُ متنوعة من جميع ما يشتهون ، وهم في الجنة معزَّزون مكرَّمون ، وخصَّ الفواكه بالذكر لأن كل ما يؤُكل في الجنة إِنما هو على سبيل التفكه والتلذذ { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } أي في رياضٍ وبساتين يتنعمون فيها { عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } أي على أسرَّة مكلَّلة بالدر والياقوت ، تدور بهم كيف شاءوا قال مجاهد : { مُّتَقَابِلِينَ } أي لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض تواصلاً وتحابباً { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } لما ذكر الطعام أعقبه بذكر الشراب أي يطوف عليهم خدم الجنة بكأسٍ من الخمر من نهر جارٍ خارج من عيون الجنة قال الصاوي : وصف به خمر الجنة لأنه يجري كالماء النابع وقال ابن عباس : كل كأسٍ في القرآن فهي الخمر ، والمعين هي الجارية { بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } أي هذه الخمر بيضاء ذات لذةً للشاربين ، يلتذ بها من شربها قال الحسن : خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } أي ليس فيها ما يغتال عقولهم فيفسدها ، ولا هم يسكرون بشربها كما تفعل خمر الدنيا قال ابن كثير : نزَّه الله سبحانه خمر الجنة عن الآفات التي هي في خمر الدنيا ، من صداع الرأس ، ووجع البطن ، وذهاب العقل ، فخمر الجنة طعمها طيب كلونها ، والمراد بالغول هنا صُداع الرأس قاله ابن عباس ، وقال قتادة : هو صداع الرأس ووجع البطن وتلك أجمل أوصاف الشراب ، التي تحقق لذة الشُّرَّاب ، وتنفي أكداره وأضراره ، فلا خُمار يصدع الرءوس ، ولا سكر ولا عربدة يُذهب لذة الاستمتاع كما هي الحال في خمرة الدنيا { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } أي وعندهم الحور العين ، العفيفات اللواتي قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن ، فلا ينظرن إلى غيرهم حياءً وعفةً ، قال ابن عباس : { قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن { عِينٌ } أي وهنَّ مع العفة واسعات جميلات العيون قال الطبري : أي نُجل العيون جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العين مع الحسن والجمال ، وهي أحسن ما تكون من العيون { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } أي كأنهن اللؤلؤ المكنون في أصدافه قاله ابن عباس واستشهد بقوله تعالى { وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } [ الواقعة : 22 - 23 ] وقال الحسن : { ٱلْمَكْنُونِ } المصون الذي لم تمسَّه الأيدي … والغرضُ أنهنَّ مع هذا الجمال الباهر ، مصونات كالدُّر في أصدافه ، مع رقةٍ ولطفٍ ونعومة { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } لا تبتذله الأيدي ولا العيون ، والعربُ تشبّه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها قال أبو حيان : ذكر تعالى في هذه الآيات أولاً الرزق وهو ما تتلذذ به الأجسام ، وثانياً الإِكرام وهو ما تتلذذ به النفوس ، ثم ذكر المحل وهو جنات النعيم ، ثم لذة التآنس والاجتماع { عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } وهو أتم للسرور وآنس ، ثم ذكر المشروب وهو الخمر التي تدار عليهم بالكؤوس ولا يتناولونها بأنفسهم ، ثم ختم باللذة الجسدية - أبلغ الملاذ - وهي التآنس بالنساء ثم أخبر تعالى عما يتحدث به أهل الجنة للأنس والسرور ، وهم على موائد الشراب يتلذذون بكل ممتع ، وينعمون بتجاذب أطراف الحديث فقال { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } أي جلسوا يتحدثون عما جرى لهم في الدنيا ، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا وثمرة الإِيمان { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } أي قال قائل من أهل الجنة إني كان لي في الدنيا صديقٌ وجليس ينكر البعث { يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ } أي يقول لي أتصدِّق بالبعث والجزاء ؟ { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ } ؟ أي هل إِذا متنا وأصبحنا ذراتٍ من التراب وعظاماً نخرة ، أئنا لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا ؟ يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد { قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } ؟ أي قال ذلك المؤمن لإِخوانه في الجنة : هل أنتم مطَّلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين ؟ قال تعالى { فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } أي فنظر فأبصر صاحبه الكافر في وسط الجحيم يتلظى سعيرها { قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } أي فخاطبه المؤمن شامتاً وقال له : واللهِ لقد قاربت أن تهلكني بإِغوائك { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } أي ولولا فضلُ الله عليَّ بتثبيتي على الإِيمان ، لكنتُ معك في النار محضراً ومعذباً في الجحيم ، ثم يخاطبه مستهزءاً ساخراً كما كان ذلك الكافر يستهزىء به في الدنيا { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ؟ أي هل لا تزال على اعتقادك بأننا لن نموت إلا موتةً واحدة ، وأنه لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب ؟ وهو أسلوب ساخر لاذع يظهر فيه التشفي من ذلك القرين الكافر ، والتحدث بنعمة الله عليه قال تعالى { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي إن هذا النعيم الذي ناله أهل الجنة لهو الفوز العظيم { لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُون } أي لمثل هذا الجزاء الكريم يجب أن يعمل العاملون ويجتهد المجتهدون . قال المفسرون : أشارت الآيات الكريمة إلى قصة شريكين كان لهما ثمانية آلاف درهم ، فكان أحدهما يعبد الله ويقصِّر في التجارة والنظر إلى أمور الدنيا ، وكان الآخر مقبلاً على تكثير ماله ، فانفصل من شريكه لتقصيره ، وكان كلما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً أو نحو ذلك عرضه على المؤمن وفخر عليه بكثرة ماله ، وكان المؤمن إِذا سمع ذلك يتصدَّق بنحوٍ من ذلك ليشتري له به قصراً في الجنة ، فإِذا لقيه صديقه قال ما صنعت بمالك ؟ قال : تصدقت به لله ! فكان يسخر منه ويقول : أئنك لمن المصدِّقين ؟ فكان أمرهما ما قصَّ الله علينا في كتابه العزيز . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } لأن السخرية في مقابلة التعجب . 2 - التأكيد بإِن واللام { إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ } ومقتضى الكلام يقتضيه لإِنكار المخاطبين للوحدانية . 3 - الأسلوب التهكمي { فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ } وردت الهداية بطريق التهكم ، لأن الهداية تكون إلى طريق النعيم لا الجحيم . 4 - الإِيجاز بالحذف { إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } أي قولوا لا إله إلا الله ، وحذف لدلالة السياق عليه . 5 - الالتفات من الغيبة إلى الخطاب { إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو ٱلْعَذَابِ ٱلأَلِيمِ } والأصل إِنهم لذائقو وإِنما التفت لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم . 6 - الكناية { قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } كنَّى بذلك عن الحور العين لأنهن عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن . 7 - التشبيه المرسل والمجمل { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } حذف منه وجه الشبه فأصبح مجملاً . 8 - مراعاة الفواصل وهو من المحسنات البديعية مثل { شِهَابٌ ثَاقِبٌ ، عَذابٌ وَاصِبٌ ، طِينٍ لاَّزِبٍ } إِلى آخره .