Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 114-134)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى قصة طُعْمة وحادثة السرقة التي اتهم بها اليهودي البريء ودفاع قومه عنه وتآمرهم في السرّ لإِيقاع البرئ بها ، ذكر تعالى هنا أن موضوع النجوى لا يخفى على الله وأن كل تدبير في السرّ يعلمه الله ، وأنه لا خير في التناجي إِلا ما كان بقصد الخير والإِصلاح ، ثم ذكر تعالى أن مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم جرمٌ عظيم وحذَّر من الشيطان وطرق إِغوائه ، ثم عاد الحديث إِلى التحذير من ظلم النساء في ميراثهن ومهورهن وأكد على وجوب الإِحسان إِليهن ، وأعقبه بذكر النشوز والطريق إِلى الإِصلاح بين الزوجين إِمّا بالوفاق أو بالفراق . اللغَة : { نَّجْوَاهُمْ } النجوى : السرُّ بين الإِثنين قال الواحدي : ولا تكون النجوى إِلا بين اثنين { يُشَاقِقِ } يخالف والشقاقُ : الخلاف مع العداوة لأن كلاً من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر { مَّرِيداً } المريد : العاتي المتمرد من مرد إِذا عتا وتجبر قال الأزهري : مرد الرجل إِذا عتا وخرج عن الطاعة فهو مارد ومريد { فَلَيُبَتِّكُنَّ } البتك : القطع ومنه سيف باتك أي قاطع { مَحِيصاً } مهرباً من حاص إِذا هرب ونفر وفي المثل " وقعوا في حيص بيص " أي فيما لا يقدر على التخلص منه { خَلِيلاً } من الخلة وهي صفاء المودة قال ثعلب : سمي الخليل خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إِلا ملأته قال بشار : @ قد تخلّلتِ مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلاً @@ { ٱلشُّحَّ } شدة البخل { ٱلْمُعَلَّقَةِ } هي التي ليست ذات بعل ولا مطلقة . سَبَبُ النّزول : أ - لما سرق " طُعْمة بن أُبيرق " وحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالقطع هرب إِلى مكة وارتد عن الإِسلام فأنزل الله { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } الآية . ب - قال قتادة : تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحقُّ بالله منكم ، وقال المؤمنون : نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب فنزلت { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } الآية . التفسِير : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ } أي لا خير في كثير مما يُسرّه القوم ويتناجون به في الخفاء { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } أي إِلا نجوى من أمر بصدقةٍ ليعطيها سراً أو أمر بطاعة الله قال الطبري : المعروف هو كل ما أمر الله به أو ندب إِليه من أعمال البر والخير ، والإِصلاح هو الإِصلاح بين المختصمَين { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } أي ومن يفعل ما أمر به من البر والمعروف والإِصلاح طلباً لرضى الله تعالى لا لشيء من أغراض الدنيا { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } أي فسوف نعطيه ثواباً جزيلاً هو الجنة قال الصاوي : والتعبير بسوف إِشارة إلى أن جزاء الأعمال الصالحة في الآخرة لا في الدنيا لأنها ليست دار جزاء { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } أي يخالف أمر الرسول فيما جاء به عن الله من بعد ما ظهر له الحق بالمعجزات { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي يسلك طريقاً غير طريق المؤمنين ويتبع منهاجاً غير منهاجهم { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } أي نتركه مع اختياره الفاسد وندخله جهنم عقوبة له { وَسَآءَتْ مَصِيراً } أي وساءت جهنم مرجعاً لهم { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } أي لا يغفر ذنب الشرك ويغفر ما دونه من الذنوب لمن يريد { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي فقد بَعُد عن طريق الحق والسعادة بعداً كبيراً { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } أي ما يدعو هؤلاء المشركون وما يعبدون من دون الله إلا أوثاناً سموها بأسماء الإِناث " اللات والعزى ومناة " قال في التسهيل : كانت العرب تسمي الأصنام بأسماء مؤنثة { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } أي وما يعبدون إلا شيطاناً متمرداً بلغ الغاية في العتو والفجور وهو إبليس الذي فسق عن أمر ربه { لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أي أبعده الله عن رحمته فأقسم الشيطان قائلاً : لأتخذنَّ من عبادك الذين أبعدتني من أجلهم نصيباً أي حظاً مقدراً معلوماً أدعوهم إلى طاعتي من الكفرة والعصاة وفي صحيح مسلم يقول الله تعالى لآدم يوم القيامة " إبعثْ بعثَ النار فيقول : وما بعثُ النار ؟ فيقول من كل ألفٍ تسعمائةٌ وتسعة وتسعون " { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } لأصرفَنّهم عن طريق الهدى وأعدهم الأماني الكاذبة وألقي في قلوبهم طول الحياة وأن لا بعث ولا حساب { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ ٱلأَنْعَامِ } أي ولآمرنهم بتقطيع آذان الأنعام قال قتادة : يعني تشقيقها وجعلها علامة للبحيرة والسائبة كما كانوا يفعلون في الجاهلية { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ } أي ولآمرنهم بتغيير خلق الله كخصاء العبيد والحيوان والوشم وغيره وقيل : المراد به تغيير دين الله بالكفر والمعاصي وإحلال ما حرّم الله وتحريم ما أحل { وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } أي ومن يتول الشيطان ويطعْه ويترك أمر الله { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } أي خسر دنياه وآخرته لمصيره إلى النار المؤبدة وأي خسرانٍ أعظم من هذا ؟ ثم قال تعالى عن إبليس { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ } أي يعدهم بالفوز والسعادة ويمنيهم بالأكاذيب والأباطيل قال ابن كثير : هذا إخبارٌ عن الواقع فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة وقد كذب وافترى في ذلك { وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } أي وما يعدهم إلا باطلاً وضلالاً قال ابن عرفة : الغُرور ما له ظاهر محبوب وباطن مكروه ، فهو مزيّن الظاهر فاسد الباطن { أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة نار جهنم { وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } أي ليس لهم منها مفر ولا مهرب ، ثم ذكر تعالى حال السعداء الأبرار وما لهم من الكرامة في دار القرار فقال { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي مخلدين في دار النعيم بلا زوال ولا انتقال { وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً } أي وعداً لا شك فيه ولا ارتياب { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } أي ومن أصدق من الله قولاً ؟ والاستفهام معناه النفيُ أي لا أحد أصدق قولاً من الله قال أبو السعود : والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي ليس ما وعد الله تعالى من الثواب يحصل بأمانيكم أيها المسلمون ولا بأماني أهل الكتاب وإنما يحصل بالإِيمان والعمل الصالح قال الحسن البصري : ليس الإِيمان بالتمني ولكنْ ما وقر في القلب وصدّقه العمل ، إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا نحسن الظن بالله ، وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } أي من يعمل السوء والشر ينال عقابه عاجلاً أو آجلاً { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي لا يجد من يحفظه أو ينصره من عذاب الله { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي ومن يعمل الأعمال الصالحة سواءً كان ذكراً أو أنثى بشرط الإِيمان { فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } أي يدخلهم الله الجنة ولا يُنقصون شيئاً حقيراً من ثواب أعمالهم كيف لا والمجازي أرحم الراحمين ! ! وإنما قال { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ليبيّن أن الطاعة لا تنفع من دون الإِيمان ، ثم قال تعالى { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } ؟ أي لا أحد أحسن ديناً ممن انقاد لأمر الله وشرعه وأخلص عمله لله { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي مطيعٌ لله مجتنبٌ لنواهيه { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أي واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن ، مستقيماً على منهاجه وسبيله وهو دين الإِسلام { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } أي صفياً اصطفاه لمحبته وخلته قال ابن كثير : فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي جميع ما في الكائنات ملكه وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك ، لا رادّ لما قضى ولا معقب لما حكم { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ } أي يسألونك عما يجب عليهم في أمر النساء { قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَابِ } أي قل لهم يا محمد : يبين الله لكم ما سألتم في شأنهنَّ ويبين لكم ما يتلى في القرآن من أمر ميراثهن { فِي يَتَامَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي ويفتيكم أيضاً في اليتيمات اللواتي ترغبون في نكاحهن لجمالهن أو لمالهنَّ ولا تدفعون لهن مهورهنَّ كاملة فنهاهم الله عز وجل عن ذلك قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً فإن كانت جميلة واحبها تزوجها وأكل مالها ، وإن كانت دميمةً منعها الرجال حتى تموت فإذا ماتت ورثها ، فحرم الله ذلك ونهى عنه { وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَىٰ بِٱلْقِسْطِ } أي ويفتيكم في المستضعفين الصغار أن تعطوهم حقوقهم وأن تعدلوا مع اليتامى في الميراث والمهر ، وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون الصغار ولا النساء ويقولون : كيف نعطي المال من لا يركب فرساً ولا يحمل سلاحاً ولا يقاتل عدواً ! فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يعطوهم نصيبهم من الميراث { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } أي وما تفعلوه من عدلٍ وبرٍّ في أمر النساء واليتامى فإن الله يجازيكم عليه قال ابن كثير : وهذا تهييجٌ على فعل الخيرات وامتثال الأوامر وأن الله سيجزي عليه أوفر الجزاء ، ثم ذكر تعالى حكم نشوز الرجل فقال { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً } أي وإذا علمت امرأة أو شعرت من زوجها الترفع عليها أو الإِعراض عنها بوجهه بسبب الكره لها لدمامتها أو لكبر سنها وطموح عينه إلى من هي أشبُّ وأجمل منها { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } أي فلا حرج ولا إثم على كل واحد من الزوجين من المصالحة والتوفيق بينهما بإسقاط المرأة بعض حقوقها من نفقةٍ أو كسوةٍ أو مبيت لتستعطفه بذلك وتستديم مودته وصحبته ، روى ابن جرير عن عائشة أنها قالت : هذا الرجل يكون له امرأتان إحداهما قد عجزت أو هي دميمة وهو لا يحبها فتقول : لا تطلقني وأنت في حلٍّ من شأني { وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ } أي والصلح خيرٌ من الفراق { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ } أي جبلت الأنفس على الشح وهو شدة البخل فالمرأة لا تكاد تسمح بحقها من النفقة والاستمتاع ، والرجل لا تكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها وأن يمسكها إذا رغب عنها وأحبَّ غيرها { وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ } أي وإن تحسنوا في معاملة النساء وتتقوا الله بترك الجور عليهن { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي فإن الله عالم بما تعملون وسيجزيكم عليه أوفر الجزاء . . ثم ذكر تعالى أن العدل المطلق بين النساء بالغٌ من الصعوبة مبلغاً لا يكاد يطاق ، وهو كالخارج عن حد الاستطاعة فقال { وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ } أي لن تستطيعوا أيها الرجال أن تحققوا العدل التام الكامل بين النساء وتسوّوا بينهن في المحبة والأُنس والاستمتاع { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أي ولو بذلتم كل جهدكم لأن التسوية في المحبة وميل القلب ليست بمقدور الإِنسان { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ } أي لا تميلوا عن المرغوب عنها ميلاً كاملاً فتجعلوها كالمعلقة التي ليست بذات زوج ولا مطلقة ، شبّهت بالشيء المعلَّق بين السماء والأرض ، فلا هي مستقرة على الأرض ولا هي في السماء ، وهذا من أبلغ التشبيه { وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ } أي وإن تصلحوا ما مضى من الجور وتتقوا الله بالتمسك بالعدل { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } أي يغفر ما فرط منكم ويرحمكم { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } أي وإن يفارق كل واحد منهما صاحبه ، فإن الله يغنيه بفضله ولطفه ، بأن يرزقه زوجاً خيراً من زوجه ، وعيشاً أهنأ من عيشه { وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً } أي واسع الفضل على العباد حكيماً في تدبيره لهم { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي ملكاً وخلقاً وعبيداً { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } أي وصينا الأولين والآخرين وأمرناكم بما أمرناهم به من امتثال الأمر والطاعة { أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي وصيناكم جميعاً بتقوى الله وطاعته { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي وإن تكفروا فلا يضره تعالى كفركم لأنه مستغنٍ عن العباد وهو المالك لما في السماوات والأرض { وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } أي غنياً عن خلقه ، محموداً في ذاته ، لا تنفعه طاعة الطائعين ، ولا تضره معصية العاصين { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي كفى به حافظاً لأعمال عباده { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } أي لو أراد الله لأهلككم وأفناكم وأتى بآخرين غيركم { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً } أي قادراً على ذلك { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } أي من كان يريد بعمله أجر الدنيا فعند الله ما هو أعلى وأسمى وهو أجر الدنيا والآخرة فلم يطلب الأخسّ ولا يطلب الأعلى ؟ فليسأل العبد ربه خيري الدنيا والآخرة فهو تعالى سميع لأقوال العباد بصير بأعمالهم . البَلاَغَة : تضمنت الآيات أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الاستعارة في { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } استعار الوجه للقصد والجهة وكذلك في قوله { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ } لأن الشح لما كان غير مفارق للأنفس ولا متباعد عنها كان كأنه أحضرها وحمل على ملازمتها فاستعار الإِحضار للملازمة . 2 - الجناس المغاير في { ضَلَّ … ضَلاَلاً } وفي { خَسِرَ … خُسْرَاناً } وفي { أَحْسَنُ … مُحْسِنٌ } وفي { صُلْحاً … وَٱلصُّلْحُ } وفي { تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ } . 3 - التشبيه في { فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ } وهو مرسل مجمل . 4 - الإِطناب والإِيجاز في عدة مواضع . تنبيه : العدل المقصود في هذه الآية هو العدل في المحبة القلبية فقط وإلا لتناقضت الآية مع الآية السابقة { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ النساء : 3 ] وقد كان صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول " اللهم هذا قَسْمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك " يعني بذلك المحبة القلبية ويدل على هذا قوله تعالى { فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ } ، وأما ما يدعو إليه بعض من يتسمون بـ " المجددين " من وجوب التزوج بواحدة فقط بدليل هذه الآية فلا عبرة به لأنه جهل بفهم النصوص وهو باطل محض تَرُدُّهُ الشريعة الغراء ، والسنة النبوية المطهرة ، وكفانا الله شر علماء السوء .