Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 41, Ayat: 39-54)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى صفات المؤمنين الأبرار ، وأردفها بذكر الدلائل الدالة على وجوده سبحانه ووحدانتيه ، وكمال علمه وحكمته ، ذكر هنا ما يدل على البعث والنشور ، من صفحات هذا الكون المنظور ، ثم أعقبه بذكر الملحدين في آياته ، المكذبين برسله وأنبيائه ، وختم السورة الكريمة ببيان حال الأشقياء المجرمين ، المنكرين للقرآن العظيم . اللغَة : { يُلْحِدُونَ } يميلون عن الحق والاستقامة ، والإِلحادُ : الميلُ والعدول يقال : ألحد في دين الله أي حاد عنه وعدل { أعْجَمِيّاً } بلغة العجم { وَقْرٌ } صممٌ مانع من سماعه { أَكْمَامِهَا } جمع كُمَّ وهو وعاء الثمرة بضم الكاف وكسرها { مَّحِيصٍ } فرار ومهرب من حاص يحيصُ حيصاً إذا هرب { نَأَى } تباعد وأعرض { ٱلآفَاقِ } أقطار السماوات والأرض { مِرْيَةٍ } شك وارتياب عظيم . التفسِير : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً } أي ومن البراهين والعلامات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته ، أنك ترى الأرض يابسة جرداء لا نبات فيها ، تشبه الرجل الخاضع الذليل { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } أي فإِذا أنزلنا عليها المطر تحركت حركة شديدة وانتفخت وعلت بالنبات ، وأخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار { إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } أي إن الإِله الذي أحيا الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الأموات ويبعثهم من القبور { إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي لا يعجزه جل وعلا شيءٌ ، فكما أخرج الزروع والثمار من الأرض المجدبة ، فإِنه قادر على إحياء الموتى … ثم توعَّد تعالى من يلحد في آياته بعد ظهور الأَدلة والبراهين على وجوده فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } أي إن الذين يطعنون في آياتنا ، بالتحريف والتكذيب والإِنكار لها لا يغيب أمرهم عنا فنحن لهم بالمرصاد ، وفيه وعيد وتهديد قال قتادة : الإِلحادُ الكفر والعناد وقال ابن عباس : هو تبديلُ الكلام ووضعه في غير موضعه { أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِيۤ آمِناً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي أفمن يُطرح في جهنم مع الخوف والفزع أفضل أم من يكون في الجنة آمناً من عذاب الله يوم القيامة ؟ قال الرازي : والغرضُ التنبيهُ على أن الملحدين في آيات الله يُلقون في النار ، وأن المؤمنين بآيات الله يكونون آمنين يوم القيامة ، وشتَّان ما بينهما { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } أي افعلوا ما تشاءون في هذه الحياة ، وهو تهديدٌ لا إباحة ملفَّع بظل الوعيد ، بدليل قوله تعالى { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي هو تعالى مطّلع على أعمالكم ، لا تخفى عليه خافية ، من أحوالكم ، وسيجازيكم عليها { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ } أي إن الذين كذبوا بالقرآن حين جاءهم من عند الله ، وخبر " إنَّ " محذوفٌ لتهويل الأمر كأنه قيل : سيجازون بكفرهم جزاءً لا يكاد يوصف لشدة بشاعته وفظاعته { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } أي وإِنه لكتاب غالب بقوة الحجة ، لا نظير له لما احتوى عليه من الإِعجاز ، يدفع كل جاحد ، ويقمع كلَّ معاند { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } أي لا يتطرق إليه الباطل من جهةٍ من الجهات ، ولا مجال للطعن فيه قال ابن كثير : أي ليس للبطلان إليه سبيل ، لأنه منزَّل من رب العالمين { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } أي هو تنزيلٌ من إله حكيم في تشريعه وأحواله وأفعاله ، محمود من خلقه بسبب كثرة نعمه . . ثم سلَّى تعالى نبيَّه على ما يصيبه من أذى الكفار فقال { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } أي ما يقول لك كفار قومك ، إلاّ ما قد قال الكفار للرسل قبلهم من الكلام المؤذي ، والطعن فيما أنزل الله قال القرطبي : يُعزّي نبيه ويُسلّيه من أذى وتكذيب قومه { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } أي إن ربك يا محمد لهو الغفور لذنوب المؤمنين ، ذو العقاب الشديد للكافرين ، ففوِّضْ أمرك إليه فإِنه ينتقم لك من أعدائك ، ثم ذكر تعالى تعنُّت الكافرين و مكابرتهم للحقِّ بعد سطوعه وظهوره فقال { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً } أي لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم { لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي لقال المشركون : هلاَّ بُيّنت آياته بلسانٍ نفهمه وهلاَّ نزل بلغتنا { ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } ؟ استفهام إنكاري أي أقرآن أعجميٌ ونبيٌ عربي ؟ قال الرازي : ذكروا أن الكفار كانوا يقولون لتعنتهم : هلاَّ نزل القرآن بلغة العجم ؟ ! فأجيبوا بأن الأمر لو كان كما تقترحون لم تتركوا الاعتراض ، ثم قال : والحقُّ عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحدٌ متعلق بعضُه ببعض ، وقد حكى تعالى عنهم في أول السورة أنهم قالوا { قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] فردَّ تعالى عليهم هنا بأنه لو أنزل هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا : كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب ! ! ولصحَّ لهم أن يقولوا { قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه ! ! أما وقد نزل بلغة العرب ، وهم من أهل هذه اللغة ، فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك ؟ فظهر أن الآية على أحسن وجوه النظم { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } أي قل لهم يا محمد : إن هذا القرآن هدى للمؤمنين من الضلالة ، وشفاء لهم من الجهل والشك والريب { وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي والذين لا يصدّقون بهذا القرآن ، في آذانهم صممٌ عن سماعه ، ولذلك تواصوا باللغو فيه { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي كما أن هذا القرآن رحمة للمؤمنين ، هو شقاء وتعاسة على الكافرين كقوله تعالى { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [ الإِسراء : 82 ] قال في حاشية البيضاوي : إن القرآن لوضوح آياته ، وسطوع براهينه ، هادٍ إلى الحق ، ومزيل للريب والشك ، وشفاء من داء الجهل والكفر والارتياب ، ومن ارتاب فيه ولم يؤمن به ، فارتيابه إِنما نشأ عن توغله في اتباع الشهوات ، وتقاعده عن تفقد ما يُسعده وينجيه { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أي أولئك الكافرون بالقرآن ، كمن يُنادى من مكان بعيد ، فإِنه لا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به ، وهذا على سبيل التمثيل قال ابن عباس : يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاءً ونداءً { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ } أي والله لقد أعطينا موسى التوراة فاختلف فيها قومه ما بين مصدِّق لها ومكذِّب ، هكذا حال قومك بالنسبة للقرآن قال القرطبي : وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا يحزنك اختلاف قومك في كتابك ، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم ، فآمن به قوم وكذَّب به قوم { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي ولولا أن الله حكم بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة لعذَّبهم وأهلكهم في الدنيا { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي وإِن هؤلاء الكفار لفي شكٍ من القرآن ، لتبلد عقولهم وعمى بصائرهم ، موقع لهم في أشد الريبة والاضطراب { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } أي من عمل شيئاً من الصالحات في هذه الدنيا فإِنما يعود نفع ذلك على نفسه ، ومن أساء في الدنيا فإِنما يرجع وبال ذلك وضرره عليه { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي وليس الله منسوباً إلى الظلم حتى يعذِّب بغير إساءة ، فهو تعالى لا يعاقب أحداً إلا بذنبه ، ولا يعاقبه إلا بجرمه قال المفسرون : ليست صيغة " ظلاَّم " هنا للمبالغة ، وإِنما هي صيغة نسبة مثل عطَّار ، ونجَّار ، وتمَّار ، ولو كانت للمبالغة لأوهم أنه تعالى ليس كثير الظلم ولكنه يظلم أحياناً ، وهذا المعنى فاسد لأنه يستحيل عليه الظلم جل وعلا { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } أي إليه تعالى وحده علم وقت الساعة لا يعلمه غيره قال الإِمام الفخر : أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا اللهُ ، ومناسبتُها لما قبلها أنه تعالى لما هدَّد الكفار بقوله { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } ومعناه أن جزاء كل أحدٍ يصل إليه في يوم القيامة ، فكأن سائلاً قال : ومتى يكون ذلك اليوم ؟ فبيَّن تعالى أن معرفة ذلك اليوم لا يعلمه إلا الله { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا } أي وما تخرج ثمرةٌ من الثمرات من غلافها ووعائها { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي ولا تحمل أنثى جنيناً في بطنها ، ولا تلده إلا ملتبساً بعلمه تعالى ، لا يعزبُ عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي } ؟ أي ويوم القيامة ينادي الله المشركين أين شركائي الذين زعمتم أنهم آلهة ؟ وفيه تقريعٌ وتهكمٌ بهم { قَالُوۤاْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } أي قال المشركون : أعلمناك وأخبرناك الآن بالحقيقة ما مّنا من يشهد اليوم بأنَّ لك شريكاً قال المفسرون : لما عاينوا القيامة تبرءوا من الأصنام وتبرأت الأصنم منهم ، وأعلنوا إيمانهم وتوحيدهم في وقت لا ينفع فيه إِيمان { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ } أي وغاب عنهم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من الآلهة المزعومة { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } أي وأيقنوا أنه لا مهرب ولا مخلص لهم من عذاب الله { لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ } أي لا يملُّ الإِنسان من سؤاله ودعائه بالخير لنفسه ، كالمال والصحة العز والسلطان { وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } أي وإِن أصابه فقر أو مرض فهو عظيم اليأس ، قانطٌ من روح الله ورحمته { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ } أي ولئن أعطيناه غنى وصحة من بعد شدة وبلاء { لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي } أي ليقولنَّ هذا بسعْيي واجتهادي قال أبو حيان : سمَّى النعمة رحمة إذ هي من آثار رحمة الله { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً } أي وما أعتقد أن القيامة ستكون { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } أي وعلى فرض أن القيامة حاصلة ، فليحسننَّ إليَّ ربي كما أحسن إليَّ في هذه الدنيا قال ابن كثير : يتمنى على الله عز وجل مع إساءته العمل وعدم اليقين { فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ } أي فواللهِ لنعلِمنَّ هؤلاء الكافرين بحقيقة أعمالهم ، ولنبصرنَّهم بإِجرامهم { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي ولنعذبنَّهم أشد العذاب ، وهو الخلود في نار جهنم { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي وإِذا أنعمنا على الإِنسان أعرض عن شكر ربه ، واستكبر عن الانقياد لأوامره ، وشمخ بأنفه تكبراً وترفعاً { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } أي وإِذا أصابه المكروه فهو ذو دعاء كثير ، يديم التضرع ويكثر من الابتهال ، وهكذا طبيعة الإِنسان الجحود والنكران ، يعرف ربه في البلاء وينساه في الرخاء قال الرازي : استعير العرض لكثرة الدعاء ، كما استعير الغلظ لشدة العذاب { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } أي قل لهم يا محمد : أخبروني يا معشر المشركين ، إن كان هذا القرآن من عند الله ، وكفرتم به من غير تأمل ولا نظر ، كيف يكون حالكم ؟ { مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أضلُّ منكم لفرط شقاقكم وعداوتكم ، قال أبو السعود : وضع الموصول " من أضلُّ " موضع الضمير " منكم " شرحاً لحالهم ، وتعليلاً لمزيد ضلالهم { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا } أي سنظهر لهؤلاء المشركين دلالاتنا وحججنا على أن القرآن حقٌ منزل من عند الله { فِي ٱلآفَاقِ } أي في أقطار السماواتِ والأرض من الشمس والقمر والنجوم ، والأشجار والنبات وغير ذلك من العجائب العلوية والسفلية { وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ } أي وفي عجائب قدرة الله في خلقهم وتكوينهم قال القرطبي : المراد ما في أنفسهم من لطيف الصنعة ، وبديع الحكمة ، حتى سبيل الغائط والبول ، فإِن الرجل يأكل ويشرب من مكان واحدٍ ، ويتميز ذلك من مكانين ، ومن بديع صنعة الله وحكمته في عينيه اللتين هما قطرة ماء ، ينظر بهما من الأرض إلى السماء ، مسيرة خمسمائة عام ، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة ، وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } أي حتى يظهر لهم أن هذا القرآن حق { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ؟ أي أولم يكفهم برهاناً على صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ وأنه مطَّلع على كل شيء لا تخفى عليه خافية ؟ { أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ } ألا استفتاحٌ لتنبيه السامع إلى ما يقال أي ألا فانتبهوا أيها القوم إن هؤلاء المشركين في شكٍ من الحساب والبعث والجزاء ، ولهذا لا يتفكرون ولا يؤمنون { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } أي ألا فانتبهوا فإِنه تعالى قد أحاط علمه بكل الأشياء جملة وتفصيلاً ، فهو يجازيهم على كفرهم . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { بَشِيراً … وَنَذِيراً } وبين { طَوْعاً … و كَرْهاً } وبين { مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ … وَمَا خَلْفَهُمْ } وبين { ٱلْحَسَنَةُ … و ٱلسَّيِّئَةُ } وبين { مَغْفِرَةٍ … و عِقَابٍ } وبين { ءَاعْجَمِيٌّ … وعَرَبِيٌّ } وبين { تَحْمِلُ … و تَضَعُ } وبين { ٱلْخَيْرِ … و ٱلشَّرُّ } . 2 - طباق السلب { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ … وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ } وكذلك { آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } . 3 - الالتفات { فَإِنْ أَعْرَضُواْ } [ فصلت : 13 ] بعد قوله { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ } [ فصلت : 9 ] وهو التفات من الخطاب إلى الغيبة ، وناسب الإِعراض عن مخاطبتهم لكونهم أعرضوا عن الحق ، وهو تناسب حسن . 4 - الاستعارة التمثيلية { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } [ فصلت : 11 ] مثَّل تأثير قدرته تعالى في السماوات والأرض بأمر السلطان لأحد رعيته أو عبيده بأمر من الأمور وامتثال الأمر سريعاً . 5 - الاستعارة التصريحية { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } [ فصلت : 5 ] ليس هناك على الحقيقة شيء مما قالوه ، وإِنما أخرجوا هذا الكلام مخرج الدلالة على استثقالهم ما يسمعونه من قوارع القرآن ، وجوامع البيان ، فكأنهم من شدة الكراهية له قد صُمَّت أسماعهم عن فهمه ، وقلوبهم عن علمه . 6 - الاستعارة أيضاً { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } شبّه حالهم في عدم قبول المواعظ ، وإِعراضهم عن القرآن وما فيه بحال من يُنادى من مكان بعيد ، فلا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به ، والجامع عدم الفهم في كلٍ . 8 - الأمر التهديدي { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } خرج الأمر عن صيغته الأصلية إلى معنى الوعيد والتهديد . 9 - التشبيه المرسل المجمل { كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه فهو مرسل مجمل . 10 - إن اللسان عاجز عن تصوير البلاغة في جمال الأسلوب القرآني ، فتأمل الروعة البيانية في قوله تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وتصور التناسق الفني في التعبير والأداء ، وتأمل لفظ الخشوع والاهتزاز والانتفاخ للأرض الميتة يبعثها الله كما يبعث الموتى من القبور ، إنه جو بعث وإِخراج وإِحياء ، ويا له من تصوير رائع يأخذ بالألباب .