Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 43, Ayat: 46-64)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما طعنت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر النبوة ، بسبب أنه فقيرٌ عديم المال والجاه ، واختاروا أن يتنزَّل القرآن على رجلٍ كثير المال عظيم الجاه ، ذكر تعالى قصة " موسى مع فرعون " ليشير إلى أن منطق العناد والطغيان واحد ، فقد سبقهم فرعون إلى التجبر بماله وسلطانه ، ورفضَ قبول دعوة الحق بحجة أنه أكثر مالاً وجاهاً من موسى ، فردت الآيات الكريمة هذه الشبهة السقيمة بالحجة والبرهان . اللغَة : { يَنكُثُونَ } نكث العهد : نقضه { مَهِينٌ } حقير لا قدر له ولا مكانة { آسَفُونَا } أغضبونا وغاظونا { سَلَفاً } قُدْوة { يَصِدُّونَ } بكسر الصاد بمعنى يضجّون ويصيحون ، وبضمها بمعنى الإِعراض ومنع الناس عن الإِيمان قال الجوهري : صدَّ يصُدُّ صديداً أي ضجَّ ، وقيل إنه بالضم من الصدود وهو الإِعراض ، وبالكسر من الضجيج ، وقال الفراء : هما سواء { تَمْتَرُنَّ } الامتراء : الشك ، امترى في الأمر شكَّ فيه ، والمريةُ : الشكُ . سَبَبُ النّزول : عن مجاهد قال : إن قريشاً قالت إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد النصارى عيسى ابن مريم فأنزل الله { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } . التفسِير : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي واللهِ لقد أرسلنا موسى بالمعجزات الباهرة الدالة على صدقه إلى فرعون وقومه الأقباط { فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي فقال له موسى : إني رسول الله إليك ، أرسلني لأدعوك وقومك إلى عبادة الله وحده { فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } أي فلما جاءهم بتلك الآيات الباهرة الدالة على رسالته ضحكوا سخريةً واستهزاءً به قال القرطبي : إِنما ضحكوا منها ليوهموا أتباعهم أن تلك الآياتِ سحرٌ ، وأنهم قادرون عليها ، قال تعالى { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } أي وما نريهم آية من آيات العذاب كالطوفان ، والجراد ، والقُمَّل إلا وهي في غاية الكبر والظهور ، بحيث تكون أوضح من سابقتها قال الصاوي : والمعنى إلا وهي بالغة الغاية في الإِعجاز ، بحيث يظن الناظر إليها أنها أكبر من غيرها { وَأَخَذْنَاهُم بِٱلْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي عاقبناهم بأنواع العذاب الشديد ، لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والتكذيب { وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } أي وقالوا لما عاينوا العذاب يا أيها الساحرُ ادع لنا ربك ليكشف عنا هذا البلاء والعذاب { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي بالعهد الذي أعطاك إياه من استجابة دعائك { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } أي لنؤمِنن بك إن كشف عنا العذاب بدعائك قال المفسرون : ليس قولهم { يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ } على سبيل الانتقاص ، وإِنما هو تعظيم في زعمهم ، لأن السحر كان عِلم زمانهِم ، ولم يكن مذموماً ، فنادوه بذلك على سبيل التعظيم قال ابن عباس : معناه يا أيها العالم ، وكان الساحر فيهم عظيماً يوقرونه { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي فلما رفعنا عنهم العذاب بدعوة موسى ، إذا هم ينقضون العهد ويصرون على الكفر والعصيان { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } أي نادى فرعون رؤساء القبط وعظماءهم ، لما رأى الآيات الباهرة من موسى وخاف أن يؤمنوا { قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } ؟ أي قال مفتخراً متبجحاً : أليست بلادُ مصرَ الواسعة الشاسعة ملكاً لي ؟ وهذه الخُلجان والأنهار المتفرعة من نهر النيل تجري من تحتي قصوري ؟ قال القرطبي : ومعظمها أربعة : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تينس وكلها من النيل وقال قتادة : كانت جنانها وأنهارها تجري من تحت قصره { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ؟ أي أفلا تبصرون عظمتي وسعة ملكي ، وقلة موسى وذلته ؟ { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ } أي بل أنا خيرٌ من هذا الضعيف الحقير الذي لا عزَّ له ولا جاه ولا سلطان ، فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه ؟ يعني بذلك موسى عليه السلام { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } أي لا يكاد يفصح عن كلامه ، ويوضّح مقصوده ، فكيف يصلح للرسالة ؟ قال أبو السعود : قال فرعون ذلك افتراءً على موسى ، وتنقيصاً له عليه السلام في أعين الناس ، باعتبار ما كان في لسانه من عُقدة ، ولكنَّ الله أذهبها عنه بدعائه { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي } [ طه : 27 - 28 ] { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } أي فهلاَّ ألقى الله إليه أسورةً من ذهب كرامةً له ودلالة على نبوَّته ! ! قال مجاهد : كانوا إذا أرادوا أن يجعلوا رجلاً رئيساً عليهم سوّروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهبٍ علامة لسيادته { أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } أي أو جاءت معه الملائكةُ يكتنفونه خدمةً له وشهادة بصدقه قال أبو حيان : لما وصف فرعون نفسه بالعزة والمُلك ، ووازن بينه وبين موسى عليه السلام ، ووصفه بالضعف وقلة الأعوان ، اعترض فقال : إن كان صادقاً فهلاَّ ملَّكه ربُه وسوَّره وجعل الملائكة أنصاره ! ! { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي فاستخفَّ بعقول قومه واستجهلهم لخفة أحلامهم ، فأطاعوه فيما دعاهم إليه من الضلالة { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } أي إنما أجابوه لفسقهم وخروجهم عن طاعة الله { فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي فلما أغضبونا وغاظونا انتقمنا منهم بأشد أنواع العقاب { فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } أي فأغرقنا فرعون وقومه في البحر أجمعين فلم نبق منهم أحداً قال المفسرون : اغتر فرعون بالعظمة والسلطان والأنهار التي تجري من تحته ، فأهلكه الله بجنس ما تكبر به هو وقومه وذلك بالغرق بماء البحر ، وفيه إشارة إلى أن من تعزَّز بشيء أهلكه الله به { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ } أي جعلنا قوم فرعون قُدوةً لمن بعدهم من الكفار في استحقاق العذاب والدمار ، ومثلاً يعتبرون به لئلا يصيبهم مثل ذلك قال مجاهد : سلفاً لكفار قريش يتقدمونهم إلى النار ، وعظة وعبرةً لمن يأتي بعدهم { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } أي ولمَّا ذُكر عيسى بن مريم في القرآن وضُرب المثلُ بالآلهة التي عُبدت من دون الله إذا مشركو قريش يضجون وترتفع أصواتُهم بالصياح قال المفسرون : " لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } قال ابن الزبعرى : أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم ؟ فقال عليه السلام : هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال : قد خصمتك وربِّ الكعبة ؟ أليست النصارى يعبدون المسيح ، واليهود يعبدون عزيراً ؟ وبنو فلان يعبدون الملائكة ! ! فإِن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، فسكت عليه الصلاة والسلام انتظاراً للوحي ، فظنوا أنه أُلزم الحجة فضحك المشركون وضجوا وارتفعت أصواتهم فأنزل الله { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } " قال القرطبي : ولو تأمل ابن الزبعرى الآية ما اعترض عليها ، لأنه تعالى قال { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } ولم يقل " ومنْ تعبدون " وإِنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل ، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإِن كانوا معبودين { وَقَالُوۤاْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } أي أآلهتنا خيرٌ أم عيسى ؟ فإِن كان عيسى في النار فلتكنْ آلهتنا معه { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً } أي ما قالوا هذا القول لك إلاَّ على وجه الجدل والمكابرة لا لطلب الحقِّ { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } أي بل هم قوم شديدو الخصومة واللجاج بالباطل قال في التسهيل : أي ما ضربوا لك هذا المثال إلا على وجه الجدل ، وهو أن يقصد الإِنسان أن يغلب من يناظره ، سواء غلبه بحقٍ أو بباطل ، فإِن ابن الزبعرى وأمثاله ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم يدخل في قوله تعالى { حَصَبُ جَهَنَّمَ } ولكنهم أرادوا المغالطة فوصفهم الله بأنهم قوم خَصِمون { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } أي ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه بالنبوة وشرفناه بالرسالة ، وليس هو إلهاً ولا ابن إله كما زعم النصارى { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي وجعلناه آيةً وعبرةً لبني إسرائيل ، يستدلون بها على قدرة الله تعالى ، حيث خُلق من أمٍ بلا أب قال الرازي : أي صيرناه عبرةً عجيبة كالمثل السائر حيث خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ } أي لو أردنا لجعلنا بدلاً منكم ملائكةً يسكنون في الأرض يكونون خلفاً عنكم قال مجاهد : ملائكة يعمرون الأرض بدلاً منكم { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } أي وإِن عيسى علامة على قرب الساعة قال ابن عباس وقتادة : إن خروج عيسى عليه السلام من أعلام الساعة لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة ، { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } أي فلا تشكُّوا في أمر الساعة فإنها آتية لا محالة وفي الحديث " يوشك أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً … " الحديث { وَٱتَّبِعُونِ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي وقل لهم يا محمد : اتبعوا هُداي وشرعي ، فإِن هذا الذي أدعوكم إليه دينٌ قيّم وطريق مستقيم { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي لا تغتروا بوساوس الشيطان ، واحذروا أن يصدكم عن اتباع الحق ، فإِنه لكم عدوٌ ظاهر العداوة ، حيث أخرج أباكم من الجنة ، ونزع عنه لباس النور { وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ } أي ولما جاء عيسى بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات ، قال قد جئتكم بما تقتضيه الحكمة الإِلهية من الشرائع { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي وجئتكم لأبين لكم ما اختلفتم فيه من أمور الدين قال ابن جزي : وإِنما قال { بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } دون الكل ، لأن الأنبياء إِنما يبيّنون أمور الدين لا أمور الدنيا وقال الطبري : يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي فاتقوا اللهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وأطيعوا أمري فيما أبلغه إليكم من التكاليف { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ } أي إن الله جل وعلا هو الربُ المعبود لا ربَّ سواه فأخلصوا له الطاعة والعبادة قال ابن كثير : أي أنا وأنتم عبيد له ، فقراء إليه ، مشتركون في عبادته وحده { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع ، طريق مستقيم موصلٌ إلى جنات النعيم .