Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 47, Ayat: 1-19)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { كَفَّرَ } أزال ومحا { أَثْخَنتُمُوهُمْ } أكثرتم فيهم القتل والجراح والأسر قال في المصباح : أثخن في الأرض إِثخاناً ، سار إِلى العدو وأوسعهم قتلاً ، وأثخنته الجراحة أوهنته وأضعفته { ٱلْوَثَاقَ } القيد والحبل الذي يربط به { مَنًّا } إِطلاق الأسير من غير فدية { أَوْزَارَهَا } آلاتها وأثقالها وهي الأسلحة والعتاد يقال : وضعت الحرب أوزارها أي انقضت الحرب وانتهت ، وأصل الأوزار الأثقال من السلاح والخيل قال الشاعر : @ وأعددتُ للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكوراً @@ { تَعْساً } شقاءً وهلاكاً { آسِنٍ } متغيّر ومنتن { حَمِيماً } حاراً شديد الحرارة { آنِفاً } الآن ، من قولهم ، استأنف الأمر إِذا ابتدأ به { أَشْرَاطُ } أمارات وعلامات . التفسِير : { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } هذا إِعلان حربٍ من الله تعالى على أعدائه وأعداء دينه والمعنى الذين جحدوا بآيات الله وأعرضوا عن الإِسلام ، ومنعوا الناس عن الدخول فيه { أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا ثواب لها لأنها لم تكن لله فبطلت ، والمراد أعمالهم الصالحة كإِطعام الطعام ، وصلة الأرحام ، وقرى الضيف قال الزمخشري : وحقيقة إِضلال الأعمال جعلُها ضالةً ضائعة ، ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها كالضالة من الإِبل ، التي لا ربَّ لها يحفظها ويعتني بأمرها ، والمراد أعمالهم التي عملوها في كفرهم بما كانوا يسمونه " مكارم الأخلاق " ، من صلة الأرحام ، وفك الأسارى ، وقرى الأضياف ، وحفظ الجوار { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي جمعوا بين الإِيمان الصادق ، والعمل الصالح { وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ } أي صدَّقوا بما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تصديقاً جازماً لا يخالجه شك ولا ارتياب وهو عطف خاص على عام ، والنكتةُ فيه تعظيم أمره والاعتناء بشأنه ، إشارةً إِلى أن الإِيمان لا يتمُّ بدونه ، ولذا أكَّده بقوله { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } أي وهو الثابت المؤكد المقطوع بأنه كلام الله ووحيهُ المنزَّل من عند الله ، والجملة اعتراضية لتأكيد السابق { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي أزال ومحا عنهم ما مضى من الذنوب والأوزار { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي أصلح شأنهم وحالهم ، في دينهم ودنياهم ، ثم بيَّن تعالى سبب ضلال الكفار ، واهتداء المؤمنين فقال { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ } أي ذلك الإِضلال لأعمال الكفار بسبب أنهم سلكوا طريق الضلال ، واختاروا الباطل على الحق { وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ } أي وأن المؤمنين سلكوا طريق الهدى ، وتمسَّكوا بالحق والإِيمان المنزل من عند الرحمن { كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أي مثل ذلك البيان الواضح ، بيَّن الله أمر كلٍ من الفريقين - المؤمنين والكافرين - بأوضح بيانٍ وأجلى برهان ليعتبر الناس ويتعظوا … وبعد إِعلان هذه الحرب السافرة على الكافرين أمر تعالى المؤمنين بجهادهم فقال { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } أي فإِذا أدركتم الكفار في الحرب فاحصدوهم حصْداً بالسيوف قال في التسهيل : وأصله فاضربوا الرقاب ضرباً ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه والمراد : اقتلوهم ، ولكنْ عبَّر عنه بضرب الرقاب لأنه الغالب في صفة القتل { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } أي حتى إِذا هزمتموهم وأكثرتم فيهم القتل والجراحات ولم تبق لهم قوة للمقاومة فأْسروهم وكفُّوا عن قتلهم قال الزمخشري : وفي هذه العبارة { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حزُّ العنق وإِطارة رأس البدن ، ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] ومعنى { أَثْخَنتُمُوهُمْ } أكثرتم قتلهم وأغلظتموه { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } أي فأسروهم ، والوثاقَ اسم لما يربط من حبلٍ وغيره { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } أي ثم أنتم مخيَّرون بعد أسرهم إِمَّا أن تمنُّوا عليهم وتطلقوا سراحهم بلا مقابل من مال ، أو تأخذوا منهم مالاً فداءً لأنفسهم ، ولكنْ بعد أن تكونوا قد كسرتم شوكتهم ، وأعجزتموهم بكثرة القتل والجراح { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي حتى تنقضي الحرب وتنتهي بوضع آلاتها وأثقالها ، وتنتهي الحرب بين المسلمين والمناوئين له ، وذلك بعزة الإِسلام واندحار المشركين { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي الأمر فيهم ما ذُكر ، ولو أراد الله لانتصر منهم وأهلكهم بقدرته ، دون أن يكلفكم - أيها المؤمنون - إلى قتالهم قال ابن كثير : أي لو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبةٍ ونكالٍ من عنده { وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي ولكنَّه أمركم بجهادهم ليختبر إِيمانكم وثباتكم ، فيظهر حال الصادق في الإِيمان من غيره كما قال تعالى { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ } [ محمد : 31 ] وليبتلي المؤمنين بالكافرين والكافرين بالمؤمنين ، فيصير من قُتل من المؤمنين إلى الجنة ، ومن قتل من الكافرين إلى النار ولهذا قال { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي والذين استشهدوا في سبيل الله فلن يُبطل الله عملهم ، بل يكثّره ويضاعفه وينميّه { سَيَهْدِيهِمْ } أي سيهديهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة ، بتوفيقهم إلى العمل الصالح وإِرشادهم إلى الجنة دار الأبرار { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي ويُصلح حالهم وشأنهم { وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي ويدخلهم الجنة دار النعيم بيَّنها لهم بحيث يعلم كل واحدٍ منزله ويهتدي إِليه قال مجاهد : يهتدي أهلُها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خُلقوا وفي الحديث " والذي نفسي بيده إِن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا " { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } أي إِن تنصروا دينه ينصركم على أعدائكم { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } أي ويثبتكم في مواطن الحرب { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } أي والذين كفروا بالله وآياته فهلاكاً وشقاءً لهم ، وهو دعاءٌ عليهم بالتعاسة والخيبة والخذلان { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي أبطلها وأحبطها لأنها كانت في طاعة الشيطان { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي ذلك التعس والإِضلال بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله من الكتب والشرائع قال الزمخشري : أي كرهوا القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام ، لأنهم قد ألفوا الإِهمال وإِطلاق العَنان في الشهوات والملاذِّ فشقَّ عليهم ذلك وتعاظمهم { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } أي أذهبها وأضاعها لأن الإِيمان شرط لقبول الأعمال ، والشرك محبطٌ للعمل ، ثم خوَّفهم تعالى عاقبة الكفر فقال { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي أفلم يسافر هؤلاء ليروا ما حلَّ بمن سبقهم من الأمم الطاغية كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من المجرمين ، كيف كان مآلهم ؟ وماذا حلَّ بهم من العذاب ؟ فإِنَّ آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم { دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي أهلكهم الله ، واستأصل كل ما يخصهم من مالٍ وبنين ومتاع ، فإِذا هو أنقاض متراكمة وإِذا هم تحت هذه الأنقاض " ودمَّر عليهم " أبلغ من دمَّرهم لأن معناها أهلكهم مع أموالهم ودورهم وأولادهم وأطبق عليهم الهلاك إِطباقاً فلم يبق شيء إلا شمله الدمار { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } أي ولكفار مكة أمثال تلك العاقبة الوخيمة والعذاب المدمّر { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي وليُّهم وناصرهم { وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } أي لا ناصر لهم ولا معين ولا مغيث ، ثم بيَّن تعالى مآل كلٍ من الفريقين - المؤمنين والكافرين - في الآخرة فقال { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي يدخل المؤمنين جناتِ النعيم ، التي فيها ما لا عينٌ رأتْ ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ } أي والكافرون في الدنيا ينتفعون بشهواتها ولذائذها ، ويأكلون كما تأكل البهائم ، ليس لهم همٌّ إِلا بطونهم وفروجهم { وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي وجهنم مقامهم ومنزلهم في الآخرة قال الزمخشري : المراد أنهم ينتفعون بمتاع الدنيا أياماً قلائل ، ويأكلون غافلين غير مفكرين في العاقبة كما تأكل الأنعام في مسارحها ومعالفها غافلةً عما هي بصدده من النحر والذبح ، والنار منزل ومقام لهم في الآخرة . . ثم سلَّى تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ } أي وكم من أهل قرية عاتية ظالمة كانوا أقوى من أهل مكة الذين أخرجوك منها { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } أي أهلكناهم بأنواع العذاب فلم ينصرهم أحد فكذلك نفعل بهؤلاء قال ابن عباس : " لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة واختفى بالغار ثم خرج مهاجراً إِلى المدينة ، التفت إِلى مكة ثم قال " إِنك لأحبُّ البلاد إِلى الله ، وأحبُّ البلاد إِليَّ ، ولولا أنَّ قومك أخرجوني منك ما خرجت " فنزلت الآية { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أي هل من كان على حجة وبصيرة ، وثباتٍ ويقين من أمر دينه { كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ } ؟ أي كمن زُيّن له عمله القبيح فرآه حسناً ؟ { وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ } أي انهمكوا في الضلال حتى عبدوا الهوى ؟ ليس هذا كهذا ، وإِنما جاء بصيغة الجمع مراعاةً للمعنى قال المفسرون : يريد بـ { مَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ } رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن { زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ } أبا جهل وكفار قريش . . واللفظ أعمُّ لأن الغرض المباينة بين من يعبد الله ، وبين من يعبد هواه ، ولذلك مثَّل بعده بالفارق الكبير بين الجنة والنار فقال { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } أي صفة الجنة الغريبة العجيبة الشأن ، التي وعد الله بها عباده الأبرار وأعدَّها للمتقين الأخيار { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ } أي فيها أنهار جاريات من ماءٍ غير متغير الراحة قال ابن مسعود : أنهار الجنة تفجَّر من جبلٍ من مسكٍ { وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } أي وأنهار جاريات من حليبٍ في غاية البياض والحلاوة والدسامة ، لم يحمض بطول المقام ولم يفسد كما تفسد ألبان الدنيا وفي حديث مرفوع " لم يخرج من ضروع الماشية " { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } أي وأنهار جاريات من خمرٍ لذيذة الطعم يتلذذ بها الشاربون لأنه { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [ الصافات : 47 ] وإِنما قيَّدها بأنها لذة للشاربين ، لأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا لا يلتذ بها إِلاَّ فاسد المزاج ، وأما خمر الآخرة فهي طيبة الطعم والرائحة ، يشربها أهل الجنة لمجرد الالتذاذ { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } أي وأنهارٌ جارياتٌ من عسل في غاية الصفاء وحسن اللون والريح ، لم يخرج من بطون النحل قال أبو السعود : { عَسَلٍ مُّصَفًّى } أي لم يخالطه الشمع وفضلات النحل { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } أي ولهم في الجنة أنواعٌ متعددة من جميع أصناف الفواكه والثمار قال في حاشية البيضاوي : وفي ذكر الثمرات بعد المشروب إشارة إِلى أنَّ مأكول أهل الجنة للَّذَّة لا للحاجة { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } أي ولهم فوق ذلك النعيم الحسن نعيمٌ روحي وهو المغفرة من الله مع الرحمة والرضوان وفي الحديث " أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " قال الصاوي : في الجنة ترفع عنهم التكاليف فيما يأكلونه ويشربونه ، بخلاف الدنيا فإِن مأكولها ومشروبها يترتب عليه الحساب والعقاب ، ونعيم الآخرة لا حساب عليه ولا عقاب فيه { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ } أي كمن هو مخلَّدٌ في الجحيم ؟ والاستفهام للإِنكار أي لا يستوي من هو في ذلك النعيم المقيم ، بمن هو خالد في الجحيم ؟ { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } أي وسُقوا مكان تلك الأشربة ماءً حاراً شديد الغليان ، فقطَّع أحشاءهم من فرط حرارته ؟ قال المفسرون : بلغ الماء الغاية في الحرارة ، إِذا دنا منهم شوى وجوههم ، ووقعت فروة رءوسهم ، فإِذا شربوه قطَّع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم ولما بيَّن تعالى حال الكافرين ، ذكر حال المنافقين فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } أي ومن هؤلاء المنافقين جماعة يستمعون إِلى حديثك يا محمد { حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } أي حتى إِذا خرجوا من مجلسك { قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً } أي قالوا لعلماء الصحابة - كابن عباس وابن مسعود - ماذا قال محمدٌ قريباً في تلك الساعة ؟ قال ابن كثير : أخبر تعالى عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم ، حيث كانوا يجلسون إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ، فلا يفهمون منه شيئاً ، فإِذا خرجوا من عنده قالوا لأهل العلم من الصحابة : ماذا قال محمد { آنِفاً } أي الساعة ، لا يعقلون ما قال ولا يكترثون به { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي ختم على قلوبهم بالكفر { وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } أي ساروا وراء أهوائهم الباطلة { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } أي وأما المؤمنون المتقون فقد زادهم الله هدى وألهمهم رشدهم قال الإِمام الفخر : لما بيَّن تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع ، ويستعيد ولا يستفيد ، بيَّن أن حال المؤمن المهتدي بخلافه ، فإِنه يستمع فيفهم ، ويعمل بما يعلم ، وفيه فائدة وهو قطع عذر المنافق ، فإِنه لو قال ما فهمت كلامه لغموضه ، يُردُّ عليه بأن المؤمن فهم واستنبط ، فذلك لعماء القلوب لا لخفاء المطلوب { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي فهل ينتظرون إِلا قيام الساعة فجأةً فتبغتهم وهم سادرون غارون غافلون ؟ { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } أي فقد جاءت أماراتها وعلاماتها ، ومنها بعثة خاتم الرسل صلى لله عليه وسلم { فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } أي فمن أين لهم التذكر إِذا جاءتهم الساعة ، حيث لا ينفع ندم ولا توبة ؟ { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } أي فدم يا محمد على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي اطلب من الله المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } أي يعلم تصرفكم في الدنيا ، ومصيركم في الآخرة ، فأعدوا الزاد ليوم المعاد .