Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 53, Ayat: 33-62)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى في الآيات السابقة سفاهات المشركين وضلالاتهم في عبادتهم للأصنام ، وميَّز بين المؤمنين والمجرمين ، ذكر هنا نوعاً خاصاً من أهل الإِجرام ، وختم السورة الكريمة ببيان ما حلَّ بالمكذبين من أنواع العذاب والدمار ، تذكيراً للمشركين بانتقام الله من أعدائه المكذبين لرسوله . اللغَة : { وَأَكْدَىٰ } قطع العطاء مأخوذ من الكُدية يقال لمن حفر بئراً ثم وجد صخرة تمنعه من إِتمام الحفر قد أكدى ، ثم استعمله العرب لمن أعطى ولم يتمم ، ولمن طلب شيئاً فلم يبلغ آخره قال الحطيئة : @ فأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه ومن يبذل المعروف في الناس يُحمد @@ { وَأَقْنَىٰ } أعطاه الكفاية من المال ورضَّاه بما أعطاه قال الجوهري : قني الرجل يقنى مثل غني يغنى أي أعطاه الله ما يُقتنى من المال والنشب ، وأقناه الله رضَّاه { ٱلشِّعْرَىٰ } الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر { أَزِفَتِ } قربت قال كعب بن زهير : @ بان الشباب وهذا الشيبُ قد أزفا ولا أرى لشبابٍ بائنٍ خلفا @@ والآزفة القيامة سميت بذلك لقربها ودنوها { سَامِدُونَ } لاهون لاعبون ، والسمودُ اللهو . سَبَبُ النّزول : روي أن " الوليد بن المغيرة " جلس عند النبي صلى الله عليه وسلم وسمع وعظه ، فتأثر قلبه بما سمع وكاد أن يُسلم ، فعيَّره رجلٌ من المشركين وقال : تركت دين آبائك وضلَّلتهم وزعمت أنهم في النار ؟ ! فقال الوليد : إِني خشيتُ عذاب الله ، فضمن له الرجل إِن هو أعطاه شيئاً من ماله ، ورجع إِلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله عز وجل ، فأعطاه بعض الذي ضمن له ثم بخل ومنعه الباقي فأنزل الله { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ * وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } الآيات . التفسِير : { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ } أي أخبرني يا محمد عن هذا الفاجر الأثيم الذي أعرض عن الإِيمان واتباع الهدى ؟ { وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } أي وأعطى لصاحبه الذي عيَّره قليلاً من المال المشروط ثم بخل بالباقي قال مجاهد : نزلت في الوليد بن المغيرة { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } أي أعنده علمٌ بالأمور الغيبية حتى يعلم أن صاحبه يتحمل عنه العذاب ؟ { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ } أي لم يُخبر بما في التوراة المنزلة على موسى { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } أي وبما في صحف إِبراهيم الذي تمَّم ما أُمر به من طاعة الله وتبليغ رسالته ، على وجه الكمال والتمام قال الحسن : ما أمره الله بشيء إِلا وفّى به كقوله تعالى { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أي أن لا تحمل نفسٌ ذنب غيرها ، ولا يؤاخذ أحدٌ بجريرة غيره ، والآية ردٌّ على من زعم أنه يتحمل العذاب عن غيره كقوله تعالى { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [ العنكبوت : 12 ] { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } أي وأنه ليس للإِنسان إِلا عمله وسعيه قال ابن كثير : أي كما لا يُحمل عليه وزرُ غيره ، كذلك لا يحصل له من الأجر إِلا ما كسب هو لنفسه { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } أي وأن عمله سيُعرض عليه يوم القيامة ، ويراه في ميزانه قال الخازن : وفي الآية بشارة للمؤمن ، وذلك أن الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غماً { ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } أي ثم يُجزى بعمله الجزاء الأتم الأكمل ، وهو وعيدٌ للكافر ووعدٌ للمؤمن { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } أي إِليه جل وعلا المرجع والمآب والمصير فيعاقب ويثيب … ثم شرع تعالى في بيان آثار قدرته فقال { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } أي هو الذي خلق الفرح والحزن ، والسرور والغم ، فأضحك في الدنيا من أضحك ، وأبكى من أبكى قال مجاهد : أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي خلق الموت والحياة فهو جل وعلا القادر على الإِماتة والإِحياء لا غيره ، ولهذا كرر الإِسناد " هو " لبيان أن هذا من خصائص فعل الله { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } أي أوجد الصنفين الذكر والأنثى من أولاد آدم ومن كل حيوان قال الخازن : والغرض أنه تعالى هو القادر على إِيجاد الضدين في محل واحد : الضحك والبكاء ، والإِحياء والإِماتة ، والذكر والأنثى ، وهذا شيء لا يصل إِليه فهم العقلاء ولا يعلمونه ، وإنما هو بقدرة الله تعالى وخلقه لا بفعل الطبيعة ، وفيه تنبيه على كمال قدرته ، لأن النطفة شيء واحد خلق الله منها أعضاء مختلفة ، وطباعاً متباينة ، وخلق منها الذكر والأنثى ، وهذا من عجيب صنعته وكمال قدرته ، ولهذا قال { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } أي خلق الذكر والأنثى من نطفة إِذا تدفقت من صلب الرجل ، وصُبّت في رحم المرأة { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } أي وأن عليه جل وعلا إِعادة خلق النَّاس للحساب والجزاء ، وإِحياؤهم بعد موتهم قال في البحر : لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ فيها بقوله تعالى { عَلَيْهِ } كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } أي أغنى من شاء ، وأفقر من شاء وقال ابن عباس : أعطى فأرضى ، أغنى الإِنسان ثم رضاه بما أعطاه { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } أي هو ربُّ الكوكب المضيء المسمَّى بالشعرى الذي كانوا يعبدونه قال أبو السعود : أي هو رب معبودهم وكانت خزاعة تعبدها ، سنَّ لهم ذلك رجلٌ من أشرافهم هو " أبو كبشة " { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } أي أهلك قوم عاد القدماء الذين بُعث لهم نبيُّ الله " هود " عليه السلام ، وكانوا من أشد الناس وأقواهم ، وأعتاهم على الله وأطغاهم ، فأهلكهم الله بالريح الصرصر العاتية قال البيضاوي : سميت عاداً الأولى أي القدماء لأنهم أُولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه السلام { وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ } أي وثمود دمَّرهم فلم يُبق منهم أحداً { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ } أي وقوم نوح قبل عادٍ وثمود أهلكناهم { إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ } أي كانوا أظلم من الفريقين ، وأشد تمرداً وطغياناً ممن سبقهم ، قال في البحر : كانوا في غاية العتو والإِيذاء لنوح عليه السلام ، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك ، ولا يتأثرون بشيء مما يدعوهم إِليه قال قتادة : دعاهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً ، كلما هلك قرن نشأ قرن ، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إِلى نوح ليحذره منه ويقول له : يا بني إِن أبي مشى بي إِلى هذا وأنا مثلك يومئذٍ فإِياك أن تصدقه ، فيموت الكبير على الكفر ، وينشأ الصغير على بغض نوح { وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ } أي وقرى قوم لوط أهواها فأسقطها علىالأرض بعد أن انقلبت بهم فصار عاليها سافلها ، وذلك أن جبريل رفعها إِلى السماء ثم أهوى بها { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } أي فغطَّاها من فنون العذاب ما غطَّى ، وفيه تهويلٌ للعذاب وتعميمٌ لما أصابهم منه قال في البحر : والمؤتفكة هي مدائن قوم لوط ، سميت بذلك لأنها انقلبت بأهلها ، رفعها جبريل عليه السلام ثم أهوى بها إِلى الأرض ، ثم أمطرت عليهم حجارة من سجيل منضود فذلك قوله { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } أي فبأي نعم الله الدالة على وحدانيته وقدرته تتشكك أيها الإِنسان وتكذب ! ! { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } أي هذا هو محمد رسول منذر كسائر الرسل ومن جنس المنذرين الأولين وقد علمتم ما حلَّ بالمكذبين { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } أي دنت الساعة واقتربت القيامة قال القرطبي : سميت آزفة لدنوها وقرب قيامها { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي لا يقدر على كشفها وردها إِذا غشيت الخلق بأهوالها وشدائدها إِلا الله تعالى { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } ؟ استفهامٌ للتوبيخ أي أفمن هذا القرآن تعجبون يا معشر المشركين سخرية واستهزاءً ؟ { وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } أي وتضحكون عند سماعه ، ولا تبكون من زواجره وآياته ؟ وقد كان حقكم أن تبكوا الدم بدل الدمع حزناً على ما فرطتم { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } أي وأنتم لاهون غافلون ؟ { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ } أي فاسجدوا لله الذي خلقكم وأفردوه بالعبادة ، ولا تعبدوا اللات والعزى ، ومناة والشعرى ، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لا يليق السجود والعبادة إِلاَّ له جلا وعلا . البَلاَغة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الإِبهام للتعظيم والتهويل { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [ النجم : 10 ] ومثله { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } [ النجم : 16 ] وكذلك { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } . 2 - الجناس { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ … وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [ النجم : 1 - 3 ] فالأول هو بمعنى خرَّ وسقط والثاني بمعنى هوى النفس . 3 - الطباق بين { أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } وبين { أَمَاتَ وَأَحْيَا } وبين { ضَلَّ وِ ٱهْتَدَىٰ } وبين { ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ } [ النجم : 25 ] وبين { وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } وهي من المحسنات البديعية . 4 - المقابلة { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } [ النجم : 31 ] كما فيه إِطناب في تكرار لفظ يجزي وكلاهما من المحسنات البديعية . 5 - الاستفهام التوبيخي مع الإِزراء بعقولهم { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [ النجم : 21 - 22 ] . 6 - الجناس الناقص بين { أَغْنَىٰ … وَأَقْنَىٰ } لتغير بعض الحروف . 7 - جناس الاشتقاق { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } . 8 - عطف العام على الخاص { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ } . 9 - مراعاة الفواصل ورءوس الآيات ، مما له أجمل الوقع على السمع مثل { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ * أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ } [ النجم : 19 - 21 ] ؟ ومثله { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } ؟ ويسمى بالسجع . تنبيه : كانت الأصنام التي عبدها المشركون كثيرة تقرب من ثلاثمائة وستين صنماً ومعظمها حول الكعبة وقد حطمها صلى الله عليه وسلم عند فتحه لمكة ، وأشهر هذه الأصنام " اللات ، والعُزَّى ، ومناة " وقد أرسل صلى الله عليه وسلم عام الفتح خالد بن الوليد ليحطم العزَّى فحطمها وهو يقول : @ يا عزُّ كفرانك لا سبحانك إِني رأيتُ الله قد أهانك @@ وانتهت بفتح مكة عبادة الأوثان والأصنام ، ودخل الناس في دين الإِسلام أفواجاً أفواجاً .