Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 151-165)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لمّا ذكر تعالى ما حرّمه الكفار افتراء عليه وذكر ما أباحه تعالى لهم من الحبوب والفواكه والحيوان ، ذكر هنا ما حرّمه تعالى عليهم حقيقة من الأمور الضارة ، وذكر الوصايا العشر التي اتفقت عليها الشرائع السماوية وبها سعادة البشرية . اللغَة : { أَتْلُ } أقرأ وأقص { إِمْلاَقٍ } فقر يقال أملق الرجل إِذا افتقر { أَشُدَّهُ } قوته وهو بلوغ سن النكاح والرشد ، والأشدُّ جمعٌ لا واحد له { بِٱلْقِسْطِ } بالعدل بلا بخس ولا نقصان { ٱلسُّبُلَ } جمع سبيل وهي الطريق { شِيَعاً } فرقاً وأحزاباً جمع شيعة وهي الفرقة تتشيع وتتعصب لمذهبها { قِيَماً } مستقيماً لا عوج فيه { نُسُكِي } النُّسُك جمع نسيكة وهي الذبيحة وقال الزجاج : عبادتي ومنه الناسك الذي يتقرب إِلى الله بالعبادة . التفسِير : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أي قل يا محمد تعالوا أقرأ الذي حرّمه ربكم عليكم باليقين لا بالظن والتخمين { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } أي لا تعبدوا معه غيره { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أي وأحسنوا إِلى الوالدين إِحساناً ، وذُكر ضمن المحرمات لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده فكأنه قال : ولا تسيئوا إِلى الوالدين قال أبو السعود : والسرُّ في ذلك المبالغةُ والدلالة على أن ترك الإِساءة إِليهما غير كافٍ في قضاء حقوقهما { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إِمْلاَقٍ } أي ولا تقتلوا أولادكم خشية الفقر قال ابن الجوزي : المراد دفن البنات أحياء من خوف الفقر { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } أي رزقكم ورزقهم علينا فإِن الله هو الرازق للعباد { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي لا تقربوا المنكرات الكبائر علانيتها وسرّها قال ابن عباس : كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأساً في السرّ ويستقبحونه في العلانية فحرمه الله في السر والعلانية { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } أي لا تقتلوا النفس البريئة التي حرّم الله قتلها إِلا بموجب وقد فسّره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم إِلا بإِحدى ثلاث : الثيبُ الزاني ، والنفسُ بالنفس ، والتاركُ لدينه المفارق للجماعة " { ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي ذلكم المذكور هو ما أوصاكم تعالى بحفظه وأمركم به أمراً مؤكداً لعلكم تسترشدون بعقولكم إِلى فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا قال أبو حيان : وفي لفظ وصّاكم من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإِحسان { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } أي لا تقربوا مال اليتيم بوجه من الوجوه إِلا بالخصلة التي هي أنفع له حتى يصير بالغاً رشيداً ، والنهي عن القرب يعمُّ وجوه التصرف لأنه إِذا نُهي عن أن يقرب المال فالنهيُ عن أكله أولى وأحرى والتي هي أحسن منفعةُ اليتيم وتثمير ماله قال ابن عباس : هو أن يعمل له عملاً مصلحاً فيأكل منه بالمعروف { وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } أي بالعدل والتسوية في الأخذ والعطاء { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي لا نكلّف أحداً إِلا بمقدار طاقته بما لا يعجز عنه قال البيضاوي : أي إِلا ما يسعها ولا يعسرُ عليها ، وذكره بعد وفاء الكيل لأن إِيفاء الحق عسرٌ فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفوٌّ عنكم { وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } أي اعدلوا في حكومتكم وشهادتكم ولو كان المشهود عليه من ذوي قرابتكم { وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ } أي أوفوا بالعهد إِذا عاهدتم قال القرطبي : وهذا عام في جميع ما عهده الله إِلى عباده ويحتمل أن يراد به ما انعقد بين الناس وأضيف إِلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به { ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي لعلكم تتعظون { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } أي وبأن هذا ديني المستقيم شرعته لكم فتمسكوا به ولا تتبعوا الأديان المختلفة والطرق الملتوية فتفرقكم وتزيلكم عن سبيل الهدى عن ابن مسعود قال : " خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال هذا سبيل الله ، ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه ويساره ثم قال : هذه سُبُل على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إِليها ثم قرأ { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ … } الآية " { ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } كرر الوصية على سبيل التوكيد أي لعلكم تتقون النار بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه قال ابن عطية : لما كانت المحرمات الأولى لا يقع فيها عاقل جاءت العبارة { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ البقرة : 73 ] والمحرمات الأخر شهوات وقد ويقع فيها من لم يتذكر جاءت العبارة { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } والسير في الجادة المستقيمة يتضمن فعل الفضائل ولا بد لها من تقوى الله جاءت العبارة { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 63 ] { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ } أي أعطينا موسى التوراة تماماً للكرامة والنعمة على من كان محسناً وصالحاً قال الطبري : أي آتينا موسى الكتاب تماماً لنعمتنا عليه في قيامه بأمرنا ونهينا فإِن إِيتاء موسى الكتاب نعمةٌ من الله عليه ومنَّةٌ عظيمة لما سلف منه من صالح العمل وحسن الطاعة { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } أي وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إِليه بنو إِسرائيل في الدين { وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } أي وهدى لبني إِسرائيل ورحمة عليهم ليصدّقوا بلقاء الله قال ابن عباس : كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } أي وهذا القرآن الذي أنزلناه على محمد كتابٌ عظيم الشأن كثير المنافع مشتملٌ على أنواع الفوائد الدينية والدنيوية { فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي تمسكوا به واجعلوه إِماماً واحذروا أن تخالفوه لتكونوا راجين للرحمة { أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ } أي أنزلناه بهذا الوصف العظيم الجامع لخيرات الدنيا والآخرة كراهة أن تقولوا يوم القيامة ما جاءنا كتاب فنتّبعه وإِنما نزلت الكتب المقدسة على اليهود والنصارى قال ابن جرير : فقطع الله بإِنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم حجتهم تلك { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } أي وإِنه الحال والشأن كنا عن معرفة ما في كتبهم ودراستهم غافلين لا نعلم ما فيها لأنها لم تكن بلغتنا { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ } أو تقولوا لو أننا أُنزل علينا الكتاب كما أُنزل على هاتين الطائفتين لكنَّا أهدى منهم إِلى الحق وأسرع إِجابة لأمر الرسول لمزيد ذكائنا وجدّنا في العمل { فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } أي فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قرآن عظيم ، فيه بيانٌ للحلال والحرام وهدى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده قال القرطبي : أي قد زال العذر بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس : بيّنة أي حجة وهو النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أي من أكفر ممن كذّب بالقرآن ولم يؤمن به { وَصَدَفَ عَنْهَا } أي أعرض عن آيات الله قال أبو السعود : أي صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإِضلال { سَنَجْزِي ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } وعيدٌ لهم أي سنثيب هؤلاء المعرضين عن آيات الله وحججه الساطعة شديد العقاب بسبب إِعراضهم عن آيات الله وتكذيبهم لرسله { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } أي ما ينتظر هؤلاء المشركون إِلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعذيبها وهو وقتٌ لا تنفع فيه توبتُهم { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } قال ابن عباس : أي يأتي أمر ربك فيهم بالقتل أو غيره وقال الطبري : المراد أن يأتيهم ربك في موقف القيامة للفصل بين خلقه أو يأتيهم بعض آيات ربك وهو طلوع الشمس من مغربها { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَانِهَا خَيْراً } أي يوم يأتي بعض أشراط الساعة وحينئذٍ لا ينفع الإِيمان نفساً كافرة آمنت في ذلك الحين ولا نفساً عاصيةً لم تعمل خيراً قال الطبري : أي لا ينفع من كان قبل ذلك مشركاً بالله أن يؤمن بعد مجيء تلك الآية لعظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله ، فحكم إِيمانهم كحكم إِيمانهم عند قيام الساعة وفي الحديث " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإِذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، وذلك حين لا ينفع نفساً إِيمانها لم تكن آمنت من قبل " { قُلِ ٱنتَظِرُوۤاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } أي انتظروا ما يحلُّ بكم وهو أمر تهديد ووعيد { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً } أي فرّقوا الدين فأصبحوا شيعاً وأحزاباً قال ابن عباس : هم اليهود والنصارى فرّقوا دين إِبراهيم الحنيف { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } أي أنت يا محمد بريء منهم { إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ } أي جزاؤهم وعقابهم على الله هو يتولى جزاءهم { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي يخبرهم بشنيع فعالهم قال الطبري : أي أخبرهم في الآخرة بما كانوا يفعلون وأجازي كلاً منهم بما كان يفعل { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ واحدة جوزي عنها بعشر حسناتٍ أمثالها فضلاً من الله وكرماً وهو أقلُّ المضاعفة للحسنات فقد تنتهي إِلى سبعمائة أو أزيد { وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا } أي ومن جاء بالسيئة عوقب بمثلها دون مضاعفة { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا يُنقصون من جزائهم شيئاً وفي الحديث القدسي : " يقول الله عز وجل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيدُ ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغْفرُ " فالزيادة في الحسنات من باب الفضل ، والمعاملة بالمثل في السيئات من باب العدل { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين إِن ربي هداني إِلى الطريق القويم وأرشدني إِلى الدين الحق دين إِبراهيم { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أي ديناً مستقيماً لا عوج فيه هو دين الحنيفية السمحة الذي جاء به إِمام الحنفاء إِبراهيم الخليل { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } أي وما كان إِبراهيم مشركاً ، وفيه تعريضٌ بإِشراك من خالف دين الإِسلام لخروجه عن دين إِبراهيم { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي } أي قل يا محمد إِنَّ صلاتي التي أعبد بها ربي { وَنُسُكِي } أي ذبحي { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أي حياتي ووفاتي وما أقدّمه في هذه الحياة من خيرات وطاعات { للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي ذلك كله لله خالصاً له دون ما أشركتم به { لاَ شَرِيكَ لَهُ } أي لا أعبد غير الله { وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ } أي بإِخلاص العبادة لله وحده أُمرتُ { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } أي أولُّ من أقرَّ وأذعنَ وخضع لله جلّ وعلا { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً } تقريرٌ وتوبيخ للكفار ، وسببها أنهم دعوه إِلى عبادة آلهتهم والمعنى : قل يا محمد أأطلب رباً غير الله تعالى ؟ { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } أي والحال هو خالق ومالك كل شيء فكيف يليق أن أتخذ إِلهاً غير الله ؟ { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } أي لا تكون جناية نفسٍ من النفوس إِلا عليها { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أي لا يحمل أحدٌ ذنب أحد ، ولا يؤاخذ إِنسانٌ بجريرة غيره { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } وهذا وعيدٌ وتهديدٌ أي مرجعكم إِليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم ويميز بين المحسن والمسيء { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ } أي جعلكم خلفاً للأمم الماضية والقرون السالفة يخلف بعضكم بعضاً قال الطبري : أي استخلفكم بعد أن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي خالف بين أحوالكم في الغنى والفقر ، والعلم والجهل ، والقوة والضعف وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد { لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ } أي ليختبر شكركم على ما أعطاكم قال ابن الجوزي : أي ليختبركم فيظهر منكم ما يكون به الثواب والعقاب { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي إِن ربك سريع العقاب لمن عصاه وغفور رحيم لمن أطاعه ، قال في التسهيل : جمع بين الخوف والرجاء ، وسرعة العقاب إِما في الدنيا بتعجيل الأخذ أو في الآخرة لأن كل ما هو آتٍ قريب . البَلاَغَة : 1 - { وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ } السُّبل استعارة عن البدع والضلالات والمذاهب المنحرفة . 2 - { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً } التنكير لإِفادة العموم والشمول . 3 - { وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ } الإِضافة للتشريف والتعظيم . 4 - { يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا } وضع الظاهر مكان الضمير { عَنْهَا } لتسجيل شناعة وقباحة طغيانهم . 5 - { قُلِ ٱنتَظِرُوۤاْ } الأمر للتهديد والوعيد . 6 - { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا … } الآية اشتمل هذا الكلام على النوع المعروف من علم البيان باللَّف وأصل الكلام : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً لم تكن مؤمنةً قبلُ إِيمانُها بعدُ ، ولا نفساً لم تكسب في إِيمانها خيراً قبلُ ما تكسبه من الخير بعدُ ، إِلا أنه لفّ الكلامين فجعلهما كلاماً واحداً بلاغة واختصاراً وإِعجازاً ، أفاده صاحب الانتصاف . 7 - بين { ظَهَرَ } و { بَطَنَ } طباق وبين { ٱلْحَسَنَةِ } و { ٱلسَّيِّئَةِ } طباق كذلك وهو من المحسنات البديعية . 8 - { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } قال الشريف الرضي : ليس هناك على الحقيقة أحمال على الظهور وإِنما هي أثقال الآثام والذنوب فهو من الاستعارة اللطيفة . فَائِدَة : وحّد تعالى { سَبِيلِهِ } لأن الحق واحد وجمع { ٱلسُّبُلَ } لأن طرق الضلالة كثيرة ومتشعبة . تنبيه : قال الحافظ ابن كثير : كثيراً ما يقرن تبارك وتعالى في القرآن بين هاتين الصفتين { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } كقوله تعالى { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ } [ الحجر : 49 - 50 ] إِلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب ، فتارةً يدعو عباده إِليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه ، وتارة يدعوهم إِليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها ، وتارة بهما لينجع في كلٍ بحسبه .