Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 63, Ayat: 1-11)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { جُنَّةً } وقاية وسُترة يحفظون بها أنفسهم وأموالهم وفي الحديث " الصوم جُنَّة " أي وقاية من عذاب الله { طُبِعَ } ختم عليها بالكفر ، والطبعُ : الختم { يُؤْفَكُونَ } يصرفون عن الحق إِلى الضلال ، من الإِفك وهو الصَّرف { لَوَّوْاْ } عطفوا وحرَّكوا يقال : لوَّى رأسه إِذا حرَّكه وأداره { يَنفَضُّواْ } يتفرقوا { تُلْهِكُمْ } تشغلكم ، واللهو : ما لا خير فيه ولا فائدة من القول أو العمل . سَبَبُ النّزول : روي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم غزا : " بني المُصطلق " فازدحم الناسُ على ماءٍ فيه ، فكان ممن ازدحم عليه " جهجاه بن سعيد : أجير لعمر بن الخطاب ، و " سنان الجُهني " حليفٌ لعبد الله بن سلول - رأس المنافقين - فلطم الجهجاهُ سناناً ، فغضب سنان وصرخ ياللأنصار ، وصرخ جهجاه يا للمهاجرين ، فقال " عبد الله بن سلول " أو قد فعلوها ! ! والله ما مثلنا ومثل هؤلاء - يعني المهاجرين - إِلا كما قال الأول " سمِّنْ كلبك يأكلك " ، أما واللهِ لئن رجعنا إِلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذل - يعني بالأعز نفسه ، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه - ثم قال لقومه : إِنما يقيم هؤلاء المهاجرين بالمدينة بسبب معونتكم وإِنفاقكم عليهم ، ولو قطعتم ذلك عنهم لفروا عن بلدكم ، فسمعه " زيد بن أرقم " فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغ ذلك ابن سلول فحلف أنه ما قال من ذلك شيئاً وكذَّب زيداً ، فنزلت السورة إِلى قوله تعالى { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ … } الآيات . التفسِير : { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ } أي إِذا أتاك يا محمد المنافقون وحضروا مجلسك كعبد الله بن سلول وأصحابه { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } أي قالوا بألسنتهم نفاقاً ورياءً : نشهد بأنك يا محمد رسولُ الله ، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قال أبو السعود : أكَّدوا كلامهم بإِنَّ واللام { إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } للإِيذان بأنَّ شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم ، وخلوص اعتقادهم ، ووفور رغبتهم ونشاطهم { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } أي واللهُ جل وعلا يعلم أنك يا محمد رسولُه حقاً ، لأنه هو الذي أرسلك ، والجملةُ اعتراضية جيء بها لدفع توهم تكذيبهم في دعوة رسالته صلى الله عليه وسلم لئلا يتوهم السامع أن قولهم { إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } كذبٌ في حدِّ ذاته قال في التسهيل : وقوله { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } ليس من كلام المنافقين ، وإِنما هو من كلام الله تعالى ، ولو لم يذكره لكان يوهم أن قوله { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } إِبطالٌ للرسالة ، فوسَّطه بين حكاية المنافقين وبين تكذيبهم ليزيل هذا الوهم وليحقق الرسالة ثم قال تعالى { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } أي يشهد بكذب المنافقين فيما أظهروه من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم ، لأنَّ من قال بلسانه شيئاً واعتقد خلافه فهو كاذب ، والإِظهار في موضع الإِضمار { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ } لذمهم وتسجيل هذه الصفة القبيحة عليهم ، كما جاءت الصيغة مؤكدة بإِنَّ واللام زيادةً في التقرير والبيان { ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } أي اتخذوا أيمانهم الفاجرة وقاية وسُترةً يستترون بها من القتل قال الضحاك : هي حلفهم بالله إِنهم مسلمون { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي فمنعوا الناسَ عن الجهادِ ، وعن الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قال الطبري : أي أعرضوا عن دين الله الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم وشريعته التي شرعها لخلقه وقال ابن كثير : إِن المنافقين اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة ، فاغترَّ بهم من لا يعرف جليَّة أمرهم ، فاعتقدوا أنهم مسلمون ، وهم في الباطن لا يألون الإِسلام وأهله خبالاً ، فحصل بذلك ضررٌ كبير على كثير من الناس { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي قبح عملهم وصنيعهم لأنهم يظهرون بمظهر الإِيمان ، وهم من أهل النفاق والعصيان ، فبئست أعمالهم الخبيثة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة قال الصاوي : وساءَ كبئس في إرادة الذم ، وفيها معنى التعجب وتعظيم أمرهم عند السامعين { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا } أي ذلك الحلف الكاذب والصدُّ عن سبيل الله ، بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم قال أبو السعود : أي نطقوا بكلمة الشهادة عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم المجرمين ، وما فيه من الإِشارة بالبعيد " ذلك " للإِشعار ببعد منزلته في الشر { فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي ختم على قلوبهم فلا يصل إِليها هدى ولا نور { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } أي فهم لا يعرفون الخير والإِيمان ، ولا يفرقون بين الحسن والقبيح ، لختم الله على قلوبهم { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } أي وإِذا رأيتَ هؤلاء المنافقين ، أعجبتك هيئاتهم ومناظرهم ، لحسنها ونضارتها وضخامتها { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي وإِن يتكلموا تُصغ لكلامهم ، لفصاحتهم وذلاقة لسانهم قال ابن عباس : كان ابن سلول - رأس المنافقين - جسيماً ، فصيحاً ، ذلق اللسان ، فإِذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله ، وكذلك كان أصحابه إِذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يعجب الناس بهياكلهم { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } أي يشبهون الأخشاب المسنَّدة إِلى الحائط ، في كونهم صوراً خالية عن العلم والنظر ، فهم أشباحٌ بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام قال أبو حيان : شُبّهوا بالخشب لعزوب أفهامهم ، وفراغ قلوبهم من الإِيمان ، والجملة التشبيهية وصفٌ لهم بالجبن والخور ، ولهذا قال { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } أي يظنون - لجبنهم وهلعهم - كل نداء وكل صوت ، أنهم يرادون بذلك ، فهم دائماً في خوفٍ ووجل من أن يهتك الله أستارهم ، ويكشف أسرارهم قال ابن كثير : كلما وقع أمر أو خوفٌ يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم قال مقاتل : إِذا سمعوا نشدان ضالة ، أو صياحاً بأي وجه كان ، طارت عقولهم ، وظنوا ذلك إيقاعاً بهم { هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ } أي هم الأعداء الكاملون في العداوة لك وللمؤمنين وإِن أظهروا الإِسلام ، فاحذرهم ولا تأمنهم على سرّ ، فإِنهم عيونٌ لأعدائك { قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ } جملة دعائية أي أخزاهم الله ولعنهم ، وأبعدهم عن رحمته { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي كيف يصرفون عن الهدى إِلى الضلال ؟ وكيف تضل عقولهم مع وضوح الدلائل والبراهين ! ؟ وفيه تعجيب من جهلهم وضلالهم ، وانصرافهم عن الإِيمان بعد قيام البرهان ، روى الإِمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ للمنافقين علامات يُعرفون بها : تحيتُهم لعنة ، وطعامهم نُهبة ، وغنيمتُهم غلول ، لا يقربون المساجد إِلا هُجراً ، ولا يأتون الصلاة إِلا دُبُراً ، مستكبرين لا يألفون ولا يُؤْلفون ، خشبٌ بالليل ، صُخبٌ بالنهار " { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ } أي وإِذا قيل لهولاء المنافقين : هلُمُّوا إِلى رسول الله حتى يطلب لكم المغفرة من الله { لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } أي حركوها وهزوها استهزاءً واستكباراً { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } أي وتراهم يعرضون عمَّا دُعوا إِليه ، وهم متكبرون عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ، وجيء بصيغة المضارع ليدل على استمرارهم على الإِعراض والعناد قال المفسرون : لمَّا نزلت الآيات تفضح المنافقين وتكشف الأستار عنهم ، مشى إِليهم أقرباؤهم من المؤمنين ، وقالوا لهم : ويلكم لقد افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم ، فأتوا رسول الله وتوبوا إِليه من النفاق واسألوه يستغفر لكم ، فأبوا وحركوا رءوسهم سخريةً واستهزاءً فنزلت الآية ، ثم جاءوا إِلى " ابن سلول " وقالوا له : امض إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترفْ بذنبك يستغفر لك ، فلوَّى رأسه إِنكاراً لهذا الرأي ثم قال هلم : لقد أشرتم عليَّ بالإِيمان فآمنتُ ، وأشرتم عليَّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلتُ ، ولم يبق لكم إِلاَّ أن تأمروني بالسجود لمحمد ! ! ثم بيَّن تعالى عدم فائدة الاستغفار لهم ، لأنهم مردوا على النفاق فقال { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } أي يتساوى الأمر بالنسبة لهم ، فإِنه لا ينفع استغفارك لهم شيئاً ، لفسقهم وخروجهم عن طاعة الله ورسوله قال الصاوي : والآية للتيئيس من إِيمانهم أي إن استغفارك يا محمد وعدمه سواء ، فهم لا يؤمنون لسبق الشقاوة لهم { لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } أي لن يصفح الله عنهم لرسوخهم في الكفر ، وإِصرارهم على العصيان ، ثم علَّله بقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } أي لا يوفق للإِيمان ، من كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الرحمن … ثم زاد تعالى في بيان قبائحهم وجرائمهم فقال { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } أي هم الفجرة الذين قالوا لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن محمد قال في البحر : والإِشارة إِلى ابن سلول ومن وافقه من قومه ، سفَّه أحلامهم في أنهم ظنوا أن رزق المهاجرين بأيديهم ، وما علموا أن ذلك بيد الله تعالى ، وقولهم { عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ } هو على سبيل الهزء ، إذ لو كانوا مقرين برسالته ما صدر منهم ما صدر ، والظاهر أنهم لم ينطقوا بنفس ذلك اللفظ ، ولكنه تعالى عبَّر به عن رسوله إكراماً له وإِجلالاً { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي هو تعالى بيده مفاتيح الرزق يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، ولا يملك أحدٌ أن يمنع فضل الله عن عباده { وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ } أي ولكنَّ المنافقين لا يفهمون حكمة الله وتدبيره ، فلذلك يقولون ما يقولون من مقالات الكفر والضلال . . ثم عدَّد تعالى بعض قبائحهم وأقوالهم الشنيعة فقال { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ } أي يقولون لئن رجعنا من هذه الغزوة - غزوة بني المصطلق - وعدنا إِلى بلدنا " المدينة المنورة " { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } أي لنخرجنَّ منها محمداً وصحبه ، والقائل هو ابن سلول ، وعنى بالأعز نفسه وأتباعه ، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه قال المفسرون : " لما قال ابن سلول ما قال ورجع إِلى المدينة ، وقف له ولده " عبد الله " على باب المدينة واستلَّ سيفه ، فجعل الناسُ يمرون به ، فلما جاء أبوه قال له ابنه : وراءك ، والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول : إنَّ رسول الله هو الأعزُّ ، وأنا الأذل فقالها : ثم جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : بلغني أنك تريد أن تقتل أبي ، فإِن كنت فاعلاً فمرني فأنا أحمل إِليك رأسه ! ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا " { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } أي لله جل وعلا القوة والغلبة ولمن أعزه وأيده من رسوله والمؤمنين لا لغيرهم ، والصيغة تفيد الحصر قال القرطبي : توهموا أنَّ العزة بكثرة الأموال والأتباع ، فبيَّن الله أن العزة والمنعة لله ولرسوله وللمؤمنين { وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ولكنَّ المنافقين لفرط جهلهم وغرورهم لا يعلمون أن العزة والغلبة لأوليائه دون أعدائه { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } لما ذكر قبائح المنافقين ، نهى المؤمنين عن التشبه بهم في الاغترار بالأموال والأولاد والمعنى : لا تشغلكم أيها المؤمنون الأموال والأولاد عن طاعة الله وعبادته ، وعن أداء ما افترضه عليكم من الصلاة ، والزكاة ، والحج ، كما شغلت المنافقين قال أبو حيان : أي لا تشغلكم أموالكم بالسعي في نمائها ، والتلذذ بجمعها ، ولا أولادكم بسروركم بهم ، وبالنظر في مصالحهم ، عن ذكر الله وهو عام في الصلاة ، والتسبيح ، والتحميد ، وسائر الطاعات { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي ومن تشغله الدنيا عن طاعة الله وعبادته ، فأولئك هم الكاملون في الخسران ، حيث آثروا الحقير الفاني على العظيم الباقي ، وفضلوا العاجل على الآجل { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } أي وأنفقوا في مرضاة الله ، من بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } أي قبل أن يحلَّ الموتُ بالإِنسان ، ويصبح في حالة الاحتضار { فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي فيقول عند تيقنه الموت ، يا ربِّ هلاَّ أمهلتني وأخرت موتي إِلى زمنٍ قليل ! ! { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي فأتصدق وأحسن عملي ، وأصبح تقياً صالحاً قال ابن كثير : كلُّ مفرطٍ يندم عند الاحتضار ، ويسأل طول المدة ليستدرك ما فات ، ولكن هيهات { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } أي ولن يمهل الله أحداً أياً كان إِذا انتهى أجله ، ولن يزيد في عمره ، وفيه تحريضٌ على المبادرة بأعمال الطاعات ، حذراً أن يجيء الأجل وقد فرَّط ولم يستعد للقاء ربه { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي مطلع وعالم بأعمالكم من خير أو شر ، ومجازيكم عليها . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من الفصاحة والبيان نوجزها فيما يلي : 1 - التأكيد بالقسم وإِنَّ واللام { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } زيادة في التقرير والبيان . 2 - الجملة الاعتراضية { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } جاءت معترضة بين الشرط وجوابه لبيان أنهم ما قالوا ذلك عن اعتقاد ، ولدفع توهم تكذيبهم في دعواهم الشهادة بالرسالة ، والأصلُ { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ … وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } فجاءت الجملة اعتراضية بينهما . 3 - الاستعارة { ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } فإِن أصل الجنَّة ما يُستتر به ويُتقى به المحذور كالترس ، ثم استعمل هنا استعارة لأنهم كانوا يظهرون الإِسلام ليعصموا دماءهم وأموالهم . 4 - الطباق بين { آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا } وبين { ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } وهو من المحسنات البديعية . 5 - التشبيه المرسل المجمل { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } وهو من روائع التشبيه . 6 - طباق السلب { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } . 7 - الجملة الدعائية { قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ } وهي دعاءٌ عليهم باللعنة والخزي والهلاك . 8 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات ، وهو كثير في القرآن يزيد في رونق الكلام . تنبيه : النفاق لم يكن بمكة وإِنما كان بها الكفر ، ولم يظهر النفاق إِلا بالمدينة المنورة حين عزَّ الإِسلام وكثر أنصاره ، وقد كان المنافقون يظهرون الإِسلام لصون دمائهم وأموالهم كما قال الشاعر : @ وما انتسبوا إِلى الإِسلام إِلاّ لصون دمائهم أن لا تُسالا @@ فَائِدَة : العزةُ غير الكبر ، ولا يحل للمسلم أن يُذلُّ نفسه ، فالعزة معرفة الإِنسان بحقيقة نفسه ، والكبر جهل الإِنسان بنفسه ، قيل للحسن بن علي رضي الله عنهما : إن الناس يزعمون أن فيك كبراً وتيهاً فقال : ليس بتيه ولكنه عزة المسلم ثم تلا الآية { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } . لطيفَة : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " من كان له مال يبلغه حج بيت ربه ، أو تجب عليه فيه زكاةٌ فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت ، فقال رجلٌ يا ابن عباس : اتق الله فإِنما يسأل الرجعة الكفار ! ! فقال : سأتلو عليكم بذلك قرآناً { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ … } الآية .